أسعدني كثيراً عثور القوات العراقية على بقايا قصر آشوري في أسس جامع النبي يونس. ووجد معه جداريات عليها كتابات مسمارية ستضيف شيئاً جديداً لإرثنا الثقافي. ولكن ما أهمية تراث الشرق الأدنى القديم؟ وكيف يجدر بنا فهمه وتوظيفه؟ من المسلّم به أن تراثاً ضخماً وغنياً كالذي تختزنه بلادنا ألهم المثقفين والقادة والحركات السياسية.
ومن أرضية هذا التراث خيضت حروب وأُسست كيانات كإسرائيل ولبنان (الفينيقي) وهويات لم يُقدّر لها الصمود والتطور كرافدينية العراقيين، وفارسية الإيرانيين، والفرعونية المصرية إلخ.
ولكن من أين جاءت هذه الهويات المشتبهة، يمكن القول إنها «خلائق غربية»، حالها كحال القومية، وردت علينا من أوروبا في القرن التاسع عشر مع بدء الحفريات الغربية في بلادنا، والتي كانت متأثرة بقوة بالروح التوراتية. عمل علماء الأركيولوجيا التوراتيون منذ بداية القرن التاسع عشر ليس فقط على تقسيم المنطقة حسب فهم كتبة التوراة وحسب، إنما عملوا لمنح كل شعب خصائص أخلاقية ونفسية بناءً على أحداث التوراة. فالعراقيون المعاصرون قساة ومتجبرون وصدام هو وريث نبوخذنصر بجدارة. والمثير أن صدام طرح نفسه كذلك. اللبنانيون تجار كأسلافهم الفينيقيين، المصريون إما فلاحون عبيد أو باشوات طغاة يشبهون الفراعنة وما إلى ذلك من تبسيط.
وما قد يثير الدهشة أن خريطة «سايكس بيكو» لم تختلف كثيراً عن صورة المنطقة في الذهنية التوراتية أو في ذهنية النخبة الغربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ما يعكس قوة حضور وتأثير الشرق الأدنى القديم في مخيلتنا الحديثة سواء في شرقنا أو الغرب.
ولكن كيف كان ينظر أبناء المنطقة لأنفسهم؟ هل كان هناك وحدة ثقافية وقومية ولغوية ما؟ هل كان هناك على الأقل ما يمكن أن نسميه لغة جامعة للتخاطب بين الشعوب، أو ما يسمى lingua franca باللاتينية؟
تشابهات في التقاليد الثقافية للمعرفة وطريقة الوصول إليها وما شابه، تجمع بيننا كعرب وورثة الحضارة العربية الإسلامية والشرق الأدنى القديم؟
سأركز على التراث الرافديني الذي يمكن لي الادعاء بأني مطّلع عليه بشكل جيد للكتابة عنه. وعن «أبوية» هذا التراث، وهي أبوية غير حصرية أي لا تقتصر عليه لوحده فقط، للحضارة العربية الإسلامية.

مغامرة العقل الأولى

بالنسبة لي كانت البداية مع أبحاث وكتابات المبدع السوري فراس السواح (مغامرة العقل الأولى) والتي لا أملّ من قراءتها منذ أن اكتشفتها بالصدفة في مكتبة أقاربي في سني مراهقتي الأولى. يلفت السواح انتباهنا إلى فكرة أن الأساطير المؤسسة للتوراة وإلى حدٍّ ما الإنجيل والقرآن كآدم وحواء والطوفان وقصة ولادة موسى وإلقائه في النهر وما إلى ذلك، أصلها رافديني وردت قبل ذلك في ألواح سومر وأكد. وغالباً ما وُظّفت هذه «الاكتشافات» لدى بعض علمانيينا لتفكيك السردية الأسطورية للإسلام.
وبدلاً من دراسة هذه الحضارات وتتبع عناصر الاستمرارية والتطور بين الحضارات التي مرت على بلادنا، جرت عملية توظيف التراث القديم بغرض هدم الثقافة الدينية الشعبية قبل المسيسة منها. وهو يبدو لي عملاً أقل ما يقال عنه إنه غير ناضج و لربما مستهتر، لأنه يظهر كاستفزاز غير مبرر للثقافة الشعبية الإسلامية، عبر تفكيك «أساطيرها»، قبل إنجاز مهمة التحرر الوطني الكامل. خصوصاً أنها «كثقافة شعبية» تعيش ككل مجتمعنا حالة انكسار وخوف من الإبادة.
وبدلاً من خلق تعايش ومصالحة بين الطبقات الشعبية والتراث كما جرى لاحقاً في عصر النهضة الأوروبي حين تعاملوا مع التراث اليوناني كمكمّل لهويتهم المسيحية، بعدما صادروه «وتملكوه»، وأضافوا إليه اليهودية لاحقاً حتى صارت جزءاً من الحضارة الأوروبية الغربية، يجري التأكيد في بلادنا المنكوبة على خلق معارك ثقافوية وثانوية تضرب في الصميم قناعات الجماهير الفقيرة وإيمانها، ما خلق أو ساهم في خلق حاجز نفسي بين هذه الطبقات الشعبية المتدينة وتراث أسلافهم ما قبل الإسلامي.
بالمناسبة لم يكن أي من هؤلاء المثقفين مؤهلاً أكاديمياً ومتخصصاً للخوض في مثل هذه المواضيع. وأنت قد لا تعثر بين هؤلاء على عالم آثار متخصّص ورصين كـ طه باقر مثلاً، يترفع عن الخوض في مثل هذه المواجهات وأبقى علم الآثار بعيداً عن مشاريع بناء الهويات القطرية والهراء الذي وُظّف لاستجرار مواجهة وقودها وضحيتها التراث نفسه. وهو بالمناسبة ذات التوظيف المسيّس وغير العلمي للتراث الإسلامي. ويمكن العودة هنا إلى كتابات العالم الأزهري اليساري الراحل خليل عبد الكريم. وسلسلة كتبه المسماة (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة)، لاحظ العنوان يتعامل مع التراث «كمادة فضائحية»، وكتب متنها بلغة مشاكسة وساخرة إن شئت. ومع ذلك فالكتاب مهم وغني بمادته التراثية وبدقة مصادره وثرائها.

أرشيفنا السومري الأكدي

لم تترك لنا حضارة الرافدين أوابد شامخة كالأكروبولوس، ولا صروح عظيمة كالكولسيوم، ولكن ما يميز حضارة بلاد الرافدين عن بقية حضارات العالم القديم هو ضخامة ما أنتجته لنا من تراث مكتوب، أو لنقل ما بقي منه. فأنت هنا أمام قارة معرفية ما زال جلها غير مكتشف، يسكن رفوف ومخازن المتاحف العالمية والجامعات العريقة، وما تخفيه قيعان العراق وهضاب سوريا. يقدر عالم الآثار الألماني فالتر زومرفيلد، ما هو مكتشف بملايين الألواح والنصوص حوالى 25% فقط.

لا بد لبلادنا من تدريس هذا التراث بعيداً عن شعوذات القوميين ومخاوف المتدينين

تحوي هذه الألواح سجلات الدول بمداخيلها، ونفقاتها ونسب ضرائبها، وقوانينها، وعقوباتها ومشاكلها الاجتماعية وتاريخها السياسي ومراسلاتها الدبلوماسية. فضلاً عن روائع الأدب الإنساني الذي نهلت منه بقية الأمم القديمة من ملاحم وأشعار وآداب وأساطير. هذا الإرث الإنساني العريق، تركه لنا أسلافنا الرافدينيون لن يتكرر إلا مع تراث الحضارة العربية الإسلامية.
ومصطلح أسلافنا هنا مهم، فنحن نتحدث عن أسلاف بالمعنى الثقافي والحضاري وليس بالضرورة السلالي أو البيولوجي. اليوم لا يمكن لأي متخصص أو باحث في مختلف فروع الدراسات الإنسانية أن يتخطى هذا التراث إن شاء الكتابة عن تلك الحقبة في منطقتنا. فإن أردت أن ترجع بشيء من التفصيل إلى ظاهرة اجتماعية معينة كالديون مثلاً، أو العبودية، أو العمران أو البغاء أو الثورات الاجتماعية فلن تجد سجلاً غنياً كسجلات سومر وبابل وآشور لتنطلق منه. ولكن هل تقف المشابهة بين «حضارتنا المسمارية» وبين تلك العربية الإسلامية؟ أم أن التشابهات الإبستيمولوجية تجري أعمق من ذلك في عروق تاريخ المنطقة؟

من هم الرافدينيون؟

لنوضح باختصار شديد الخريطة اللغوية التاريخية لبلاد الرافدين الممتدة من أعالي الفرات ودجلة حتى الخليج. السومريون ظهروا في جنوب العراق حوالى 5500 ق.م وظهرت أولى نصوصهم المسمارية حوالى الـ 3100 ق.م، واستمرت لغتهم حية حتى 2000-1600 ق.م حيث حلت الأكدية محلها تدريجياً. أما الأكدية فظهرت أول مرة عام 2500 ق.م مصاحبة للنصوص السومرية ومعتمدة نفس نظام الكتابة المسمارية. وما لبثت الأكدية أن انقسمت إلى لهجتين بابلية في الوسط والجنوب وآشورية في الشمال، فليس هناك ما يسمى لغة آشورية فالآشوري هو أكدي شمالي إن صح التعبير. لكن ما يثير الاهتمام هنا أن كلا اللغتين (السومرية والأكدية) لم تندثرا تماماً ككتابة على الأقل حتى العصر الهلنستي أي حوالى 79 أو 80 ميلادي وذلك حين عثر على نص فلكي أكدي سومري في مدينة أوروك الشهيرة (وهي المدينة التي يعتقد أن اسم العراق اشتق منها).
وبحلول الألفية الأولى بدأت العشائر الآرامية الرعوية تتسلل إلى مدن وحواضر بلاد الشام والرافدين ويقدر هنري ساكز عالم الآثار البريطاني موطنهم الأصلي قبل أن ينتشروا شمالاً وغرباً وجنوباً بما عرفه الجغرافيون العرب بالجزيرة الفراتية، حيث تدور المعارك مع «داعش» الآن (من الرقة شرق سوريا حتى عانة غرب العراق تقريباً). ونجح الآراميون لاحقاً كرعاة وتجار وجنود بفرض ثقافتهم ولغتهم، بحكم تحولهم بفضل الجمال والخيل إلى رعاة وتجار وفرسان المنطقة الرحالين ولتوسط بلادهم المنطقة. وكما حلت لغتهم محل الأكدية بشكل تدريجي ولتنطلق حضارة جديدة، ستلعب العربية وعشائرها وبدوها ذات الدور الرابط تجارياً وعسكرياً ولوجستياً بين أقاليم المشرق الكبير وليهيمنوا ثقافياً في النهاية بحلول القرن السابع أو الثامن ميلادي.

الأكدية سلف العربية

عودة إلى الأكدية، لنقل إن مصطلح الحضارة المسمارية أكثر شمولية من الحضارة الرافدينية. فنظام الكتابة المسماري كان هو النظام الذي ابتدعه السومريون والذي غمر أغلب المنطقة من غرب إيران حتى قبرص، ومن عمان حتى أعماق الأناضول.
وتشير السجلات الأثرية منذ بداية الألفية الثانية قبل الميلاد إلى أن المنطقة توحدت ثقافياً وعلى مستوى التخاطب الدبلوماسي، والتجاري، والثقافة العالية بلغة واحدة وخط كتابة واحد. وهو الأمر الذي يضرب فرضية أن كل قطر شرق أوسطي كان مستقلاً ثقافياً ومعزولاً عن الآخر. فحتى مصر التي، ظل علماء الآثار التوراتيون حريصون على تمييزها عن محيطها الآسيوي الشرقي، باعتبار أن لها حضارتها المستقلة تماماً ولغتها ونمطها الكتابي المختلف، أخذت نخبتها تتبنى الثقافة الأكدية منذ 1350 ق م. بمعنى آخر تفككت نظرية الاختلافات الحضارية «الجوهرية» وتوحدت المنقطة تحت ظل الثقافة الأكدية حتى القرن السابع أو الثامن ق.م لتحل محلها تدريجياً اللغة الآرامية التي انطلق أهلها أول مرة من حوض الفرات على الجزيرة السورية (المنطقة الممتدة من الرقة حتى عانة بغرب العراق تقريباً).
يقول عالم الآثار الغربي، مارك فان ديميرووب، استعار الحثيون والحوريون والفرس الإخمينيون الكتابة المسمارية من الأكديين. وليس هذا فحسب بل كان كتبة أوغاريت ومصر وإيبلا والذين كانت لهم نظمهم المستقلة في الكتابة مضطرين أن ينسخوا لغتهم مرة أخرى وفق نظام الكتابة المسماري ليكون مقروءاً من قبل كل كتبة المنطقة (De Mieroop: 2016, P47). بمعنى آخر كانت الأكدية هي مغامرة «اللغة الفصحى» الأولى للمنطقة، وأنها صارت كالعربية لاحقاً يدون بها التركي والفارسي والكردي والسرياني والأمازيغي تاريخهم بها.
ولكن الحضارة الأكدية تلك وإن ولدت في العراق الحالي، لم يعد ينظر إليها بالضرورة كعراقية بالمعنى القطري للكلمة. بل تحولت إلى لغة إنتاج الأدب العالي. وصارت أساطير الرافدين كملحمة كلغامش وقصة الطوفان وتموز وعشتار ملك المنطقة ككل. ويقول فان ديميروب إن حجم التراث المكتوب بالأكدية والذي وصلنا من خارج أرض الرافدين هو تقريباً نصف ما لدينا. ومن هنا نفهم سر ضخامته كتراث مكتوب وتنوعه حيث ساهمت فيه كل المنطقة بحيث لم يعد بالضرورة رافدينيا بالمعنى الجغرافي الحصري إن شئت، وإن حافظ على عناصره العراقية الأولى.
هنا كان الحثيون في الأناضول في الألفية الثانية قبل الميلاد، هم أبرع وأنشط وأغزر كتبة المسمارية الأكدية إنتاجاً، بعد كتبة بابل أنفسهم (المعروفين بتوبشارو)، وهنا يُعتقد كانت علاقة الأناضول مع التراث المسماري بالضبط كما هي علاقة إيران بالتراث العربي الإسلامي. بلد كبير غني تبنى لغة ليس لغته وأنتج فيها أغنى مورث حضاري في تاريخه لنا جميعاً.

الخاتمة

لا بد لبلادنا من تدريس هذا التراث بطريقة أكثر علمية وبعيدة عن شعوذات القوميين ومخاوف المتدينين بأشكالهم المختلفة. علينا فهم كيف بدأت الحضارة وكيف تطورت وكيف تلاقحت وازدهرت وكيف أفلت، بعيداً عن خفة الأجندات الليبرالية والعلموية، وذلك لنحترم تاريخنا وتراثنا كما يستحق.
يرد على لسان أسلافنا في سفر التكوين، «هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض» ولكن كتبة التوراة ردوا على ذلك بكلمة على لسان يهوه «هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض فكفوا عن بنيان المدينة».
لنبني لأنفسنا خطاباً وطنياً مقاوماً يجمعنا فاليوم لا ينفع العلماني ولا الإسلامي هوياتهم وبرامجهم السياسية إن نحن تفرقنا وهزمنا. بل الأجدر بنا العودة إلى اللغة الخشبية، العريقة والداعية إلى الوحدة والمنقوشة على اللوح الأول، بأن لا يعلى صوت على صوت الوحدة.
* باحث عراقي