لم تبدأ الأزمة الأخيرة في كركوك وحولها مع إقدام القيادات المحلية الكردية على رفع علم الإقليم الكردي شبه المستقل على المؤسسات والدوائر الحكومية باقتراح من محافظها وهو من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني، وبغياب ممثلي العرب والتركمان في المجلس المحلي للمحافظة، بل بدأت قبل ذلك بعدة أشهر.
كانت قوات حزب الطالباني «البيشمركة» قد استولت على حقول نفط كركوك بعد عودة المحافظ نجم الدين كريم من زيارة إلى نيويورك في شهر آذار مارس الماضي، وقد تمت لملمة هذه الحادثة من دون أن يفهم الرأي العام إن كانت تلك القوات قد انسحبت منها أم لا. علماً بأن قوات بيشمركة الشريك والغريم التقليدي لحزب الطالباني، أي الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني، سيطرت على الجزء الآخر من تلك الحقول قبل هذا التاريخ. وكان البارزاني قد نجح منذ أكثر من عام على إرغام الحكومة الاتحادية على الاعتراف بدوره في حساب وتصدير نفط هذه الحقول ولم تعد منذ ذلك الحين تحت سيادة الحكومة الاتحادية الفعلية كما ينص الدستور النافذ.
بعد رفع علم الإقليم في كركوك إلى جانب العلم العراقي، لم يبدر من الحكومة والقوى السياسية الشيعية التي تهيمن عليها، أيّ رد فعل فوري. وبعد أيام عدة، وتحديداً في صباح الاثنين 3/4/2017 خرج رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي على الرأي العام - عبر قناة الميادين اللبنانية - برواية قال فيها، إنه اتصل بمحافظ كركوك وبأطراف أخرى في مجلس المحافظة، وتحدث معهم عن قضية رفع علم التحالف الكردستاني وإنهم أخبروه بأن الموضوع «فرض عليهم بطريقة معينة»! وإنهم سيتراجعون عن رفعه قريباً، وإنهم يبحثون عن صيغة للتراجع، وإنه اقترح عليهم أن يستغلوا مناسبة النوروز ويقولوا إنهم رفعوا علمهم بهذه المناسبة. تلا ذلك قرار من مجلس النواب الاتحادي يرفض فيه رفع العلم الكردستاني ويدعو إلى عدم التصرف بنفط كركوك من قبل السلطات المحلية، وفي اليوم التالي ردت القيادة الكردية على العبادي ومجلس النواب بقرارين خطرين وقويين: رفضت في الأول قرار مجلس النواب الاتحادي وأصرَّت على إبقاء علمها المحلي مرفوعاً، وقررت في الثاني الاستعداد لإجراء استفتاء من طرف واحد على ضم المحافظة إلى الإقليم الكردي شبه المستقل والسائر بحزم نحو الانفصال في دولة مستقلة، بل وزادت فطالبت الحكومة الاتحادية بتخصيص موازنة مالية خاصة لتغطية هذا الاستفتاء. أي أنها تريد ضرب الوحدة الكيانية للعراق بأموال عراقية يأتي 90% منها تقريباً من عائدات نفط الجنوب العراقي!
بعدها، انشغلت القيادات الشيعية باستقبال وفد حزبي كردي زار بغداد واجتمع بالقيادات الحكومية والتشريعية والحزبية. وقد أبدى الوفد الزائر تشبثاً قوياً بمواقفه وقراراته المتخذة، فيما أبدت الأطراف الشيعية مواقف مائعة وأقرب إلى المجاملات لمواقف الوفد الزائر ولعل أخطرها ما تسرب عن موافقة القيادات الشيعية على تسريع تنفيذ المادة 140 كركوك، وإجراء الاستفتاء الذي يصرّ عليه الجانب الكردي، ولكن بشرط حكومي واحد هو أن يجري ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة.
إن هذا الشرط الحكومي يدل على مستوى خطير من الارتجال الذي تتعامل به الحكومة العراقية الاتحادية مع ملف كركوك. فالمطالبة بإشراف الأمم المتحدة يصبّ في صالح تكريس استفتاء معروف النتائج سلفاً والتي ستكون لصالح الزعامات الكردية بعد حملات «التكريد» القسري والتطهير العرقي التي قامت بها هذه الزعامات لتحويل السكان الأكراد في كركوك إلى أغلبية تفوق النصف بقليل. وقد كشف وزير حقوق الإنسان، محمد مهدي البياتي، وهو من المكون التركماني، قبل أيام عن الكثير من الأمثلة الموثقة على ممارسات يمكن وصفها بالتطهير العرقي. من ذلك مثلاً الاستيلاء على الأراضي والملكيات العقارية وإنشاء أحياء جديدة أو تطوير أخرى قديمة للأكراد ومنع تسجيل ولادات الأشخاص وسندات الملكية لغير الأكراد والتواطؤ في القيام بعمليات تصفية جسدية لمواطنين وقيادات من المكونات الأخرى تحت دخان عمليات «داعش».
إن الحكومة الاتحادية بمواقفها هذه، وشرطها العجيب الذي تضعه والتراجعات الخطيرة التي تقوم بها في مواجهة الهجوم السياسي للقيادات الكردية المحلية، جعلت أوساط الرأي العام والمراقبين والمحللين ترجح وجود صفقة سياسية مسبقة ومتفق عليها بين القيادات الكردية وحليفتها «الإسلامية الشيعية»، قد يتم بموجبها التنازل عن كركوك وسلخها عن السيادة العراقية وضمها إلى الإقليم المتجه بإصرار إلى الانفصال عن العراق. وقد أعاد بعض المتابعين تلك التفاهمات حول صفقة مرجحة كهذه إلى عهد مؤتمرات المعارضة العراقية قبل احتلال العراق سنة 2003.
إن مشكلة كركوك ليست في عدم وجود الحلول المعقولة لها، بل في عدم الجرأة على مقاربة تلك الحلول بسبب تعصب القيادات الكردية ومماطلة حليفتها الشيعية واستقالة القيادات العربية السنية من أي موقف. إن مشكلة كركوك لا تعاني من عدم وجود الحلول لها أو قلتها بل تكمن في إصرار الطرف الكردي على حله الخاص المتمثل في التطبيق الفوري ودون قيد أو شرط للمادة الدستورية 140 المثيرة للجدل والمشبوهة وجوداً وأهدافاً كما سنوضح بعد قليل، والتي تقضي بإجراء استفتاء على ضمها إلى الإقليم الكردي أو بقائها تحت السيادة الاتحادية. وبما أن النتائج مضمونة سلفاً لمصلحة الطرف الكردي، فإن هذا الحل يعني تلقائياً ضم المحافظة إلى الإقليم ضد رغبة وتطلعات نصف سكانها من غير الأكراد.
المشكلة الثانية، وهي الأخطر، تكمن في إصرار الطرف الحكومي والتحالف الشيعي الذي يسنده ويمثله على عرقلة هذا الحل وتأجيله بكل طريقة ممكنة وعدم طرح أي بديل حقيقي منه. ذلك لأن النظام القائم هو نظام «إدارة الأزمات» العراقية القديمة والجديدة وليس نظاماً «لحل الأزمات»، وهذا ينبع من خصوصية تجربة حكم المحاصصة، ومن حرص التحالف الشيعي على دوام تحالفه مع التحالف الكردستاني لضمان هيمنته على السلطتين التنفيذية والتشريعية بوجه خصومه الطائفيين من العرب السنة. ولهذا فالطرف المهيمن على الحكم «الإسلامي الشيعي» لا يريد أن يخسر الأكراد كحليف برلماني وحكومي، إذا رفض تحقيق أهدافهم، أو حتى إذا ساعدهم وحققها لهم وانتهى الوضع بانفصالهم التام وخروجهم من العراق والحكم العراقي، ولا يريد - أيضاً - أن يتحمل المسؤولية التاريخية عن التنازل عن كركوك وسلخها من السيادة العراقية، ولذلك فليس لديه غير استراتيجية المماطلة وربح الوقت.

لا يريد التحالف الشيعي أن يخسر الأكراد كحليف برلماني وحكومي

وكما قلنا، فالحلول المقترحة والممكنة خارج دائرة الإصرار الكردي والتبعية الشيعية موجودة ومنها مثلاً: الاستفتاء على جعل كركوك إقليماً قائماً بذاته يحفظ حقوق جميع مكوناته، أو تقسيم المحافظة إلى محافظتين، واحدة للمكون الكردي وأخرى للمكونات غير الكردية، أو باقتراح حل يضمن السيادة المشتركة للمركز والإقليم معاً على المحافظة بعد جعلها ببلديتين واحدة للأحياء الكردية وأخرى لغير الكردية. وبعض هذه الحلول ليست مجهولة أو سراً من الأسرار. وقد تحدث عنها بعض الزعماء والقيادات الكردية كالسيد محمود عثمان القيادي المستقل في الاتحاد الكردستاني، بل وحتى المحافظ الحالي لكركوك نجم الدين كريم كان قد اقترح قبل أن يتحول الى موقفه المتطرف الحالي تحويل كركوك إلى إقليم قائم بذاته. إنما المشكلة هي في إصرار الطرف الكردي وتحديداً حزب الطالباني وحليفه اللدود حزب البارزاني على وجوب تطبيق حله الخاص وعدم مبادرة الطرف الحكومي على اقتراح أية صيغة للحوار تفضي الى حل حقيقي يرضى به الجميع.
أما الجذر الآخر لمشكلة كركوك فيكمن في المادة الدستورية 140، وهي مادة مشبوهة وخطيرة، وقد قيل عنها الكثير، وشكك الكثيرون في استمراريتها بعد انقضاء المدة الدستورية المخصصة لتطبيقها بانقضاء المرحلة الانتقالية، وقد ذكر اسم من دسها في الدستور علناً وبالوثائق وباعترافات شخصية، وهو الخبير الأميركي المرتشي بيتر غالبريث. وكنتُ قد كتبت عن هذا الموضوع مرات عدة، وخصوصاً بعدما وصل موضوع هذا المرتشي إلى المحاكم الأجنبية ومنها محكمة بريطانية معروفة. منها مرة في «الأخبار» (العدد 999 في 10 أيار 2013)، والثانية في (العدد 2006 في 18 أيار 2013)، وفي مناسبتين قبل هاتين، الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 والثانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2011. وخلاصة ما كتبته ووثقته هي أن المادة 140 ومواد أخرى ذات علاقة، قد حشرت في الدستور العراقي في فترة كتابته زمن الاحتلال وبالضبط خلال حكم الحاكم الأميركي المدني للعراق المحتل بول بريمر. وإن المسؤول عن حشر ودس هذه المواد هو الخبير الأميركي الذي كان يعمل لحساب القيادات الكردية بيتر غالبرث، لقاء رِشىً ضخمة من القيادة الكردية له عبر الشركة النفط النروجية «دي أن أو».
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث العراقي في شؤون النفط فؤاد قاسم الأمير في دراسة مشهورة ومنشورة له، أن غالبريث ذو علاقات قديمة بالقيادات الكردية وتمتد إلى سنة 1988 ولذلك ليس من الغريب أن تطلب شركة نفطية مساعدته في الحصول على عقود لها في كردستان، وهو أمر اعتيادي لدى الشركات النفطية. وحين توجهت شركة «دي أن أو» النرويجية إلى سوق النفط في الإقليم الكردي، فقد استندت إلى علاقات غالبريث الخاصة مع القيادة الكردية وخبراته. واستطاعت أن تحصل بوساطته على عدد من عقود المشاركة في الإنتاج في الإقليم، وكانت حصة كلّ من غالبريث وشريكه النروجي الذي ظل اسمه مجهولاً 10% مناصفة. صحيفة «نيويورك تايمز» أكدت «أن البنود التي أدخلها غالبريث في الدستور العراقي حول النفط قبل شهور قليلة، يمكن أن تغنيه بصورة كبيرة!». وتعترف الصحيفة أيضاً، بعدما قابلت ودرست وحللت الكثير من الوثائق، كما قالت، بدور غالبريث في كتابة بنود الدستور العراقي، وتحديداً في ما يتعلق بالقضية النفطية، وكذلك في استثمار علاقته بالقادة الأكراد، وبالأخص في ما يتعلق بالدستور، «للحصول على مكاسب مادية في حقول نفطية في كردستان». يشكك الأمير في أقوال غالبريث ويعتبرها محاولة للتملص من الإحراج الصحافي؛ لأنّ الموقف الكردي والمطالب التي كانت القيادة الكردية ترفعها تختلف تماماً عن تلك التي وضعها لها غالبريث. فالأكراد لم يكونوا يريدون كياناً مستقلاً يفرض شروطه وإرادته على بغداد والدولة العراقية، بل إدارة ذاتية للإقليم بما يمكن الحصول عليه من صلاحيات ضمن السيادة العراقية. أما غالبريث، فقد طرح عليهم خطة معكوسة تدعو إلى بناء الإقليم الاتحادي «الفيدرالي»، وفرض الصلاحيات الخاصة به على المركز الاتحادي فرضاً. وحين سُئل غالبريث عمّن كان يدفع له مقابلاً مالياً أثناء تقديم المشورة حول الدستور للأكراد، قال: «لم يدفع الأكراد لي أيّ مبلغ في هذه الفترة؛ إذْ كانوا يعرفون أن شركة (دي أن أو) كانت تدفع لي»(!) وبعد استبعاد غالبريث من حصص عقود الشركة النروجية، ورفعه قضية ضدها في محاكم لندن وصدور حكم لمصلحته، قالت صحيفة «بوستن كلوب» في عددها الصادر في 6/10/2010، إنّ إعلان التحكيم هذا يؤكد أنه كان لغالبريث دور رئيسي في حصول «دي أن أو» على عقدها في كردستان عام 2004. وتضيف الصحيفة أن غالبريث كان يعمل مستشاراً بأجر في سنة 2003 لقادة كردستان في أثناء مناقشاتهم مع الحكومة العراقية المركزية. كذلك فإنه ساعد في كتابة (بعض بنود الدستور التي أعطت الأكراد السيطرة على حقولهم النفطية المكتشفة حديثاً في مناطقهم). يخبرنا الباحث العراقي سالف الذكر، أن مؤهلات غالبريث ونشاطه في الحزب الديموقراطي ساعداه في أن يكون في بداية حياته العملية موظفاً ومحللاً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. وكان له دور واضح في الحرب الأهلية اليوغوسلافية وتفتيت يوغوسلافيا. وبين السنوات 2000-2001 كان له دور في انفصال تيمور الشرقية. ثم شغل منصب نائب الممثل الخاص للأمم المتحدة في أفغانستان وطرد من منصبه هناك في أيلول 2009 من قبل ممثل الأمم المتحدة النروجي كاي أيدي، إثر خلافات معه تتعلق بنتائج انتخابات الرئاسة الأفغانية.
وهكذا، فخبرة هذا الرجل وطبيعة المهمات التي قام بها لمصلحة حكومته الأميركية، تجعله متخصصاً في تقسيم البلدان المستهدفة وتفتيتها. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم وجوده ودوره في العراق المحتل. وفي عام 2006 صدر كتاب غالبريث الخطير «نهاية العراق: كيف خلقت عدم كفاءة الأميركيين حرباً بلا نهاية». وهو الكتاب الذي تشير إليه كل المصادر، وتقتبس عنه ما قاله غالبريث عن دوره في صياغة الدستور العراقي. والكتاب يدعو إلى تقسيم العراق، وما يتبعه من فوضى النفط ويلوم إدارة جورج بوش لعدم قيامها بذلك. فهل نجح غالبريث في أداء مهمته التفتيتية في العراق حتى الآن؟ الإجابة على هذا السؤال نجدها فيما يحدث في محافظة كركوك وحولها اليوم، بعد أن انتهت القيادات الكردية من السيطرة على الإقليم الكردي فعلياً وبقوة السلاح، بل وأيضاً على جميع المناطق التي يسمونها في الدستور الاحتلالي «المناطق المتنازع عليها»، وعلى مناطق أخرى خارجها، ولم يبق أمام هذه القيادات إلا حسم موضوع محافظة كركوك الغنية بالنفط وضمها إلى الإقليم والتوجه فعليا نحو الاستقلال في دولة مستقلة وذات سيادة تابعة للولايات المتحدة وذات علاقات ممهد لها مع إسرائيل كما تأكد في مناسبات كثيرة. أما مستقبل نصف سكان المحافظة من العرب والتركمان والكلدان والآشوريين فسيكون في مهب الريح الانفصالية بعد أن يتخلى عنهم الساسة الشيعة المهيمنون على الحكم والساسة السنة المتفرجون على الأحداث.
* كاتب عراقي