إنّ الطّبقة «التجارية» التي حكمت بلادنا بالوكالة على مدى العقود الماضية هي طبقة معولمة، عابرة للحدود، بتعبير علي القادري. هذا لا يعني أنّ هؤلاء هم في موقع متساوٍ مع نظرائهم في المركز الغربيّ، ولكن بمعنى أنهم مرتبطون مادياً بالرساميل نفسها، ويقلّدون بعضها في اسلوب الحياة والثقافة، ويدرسون في الجامعات ذاتها وأغلبهم يمتلك جنسيات أجنبية (أذكر زميلاً في الجامعة عاد من الإجازة الصيفيّة ليقول بدهشة: «كم هو عالم صغير!
وأنا أسير في شارع الاستقلال في اسطنبول أجد زميلنا في الجامعة يسير في الاتجاه المقابل، ثم ألتقي بزميلنا الآخر في نيويورك، واكتشف، وأنا في المطعم في لندن، أن زميلتنا تجلس على الطاولة مقابلي. ما هذه الصدف؟» المسألة، بالطبع، لا علاقة لها بالصدف، بل بأنكم طبقة صغيرة، محصورة، وترتاد مدناً وشوارع محدّدة، فمن الطبيعي أن تصطدموا ببعض). بالنّسبة الى هذه «الطبقة» فإنّ الخيار بين ارتباطاتها بالخارج وبين مجتمعها المحلّي، إن وقع، هو خيارٌ سهلٌ ومحسوم. منذ فترةٍ قريبة، عقدت الجامعة الأميركية في بيروت «صفقةً» مع الحكومة الأميركية، تدفع بموجبها 700 ألف دولار غرامةً وجزاءً وتصدر اعتذاراً شديداً. لماذا؟ لأنّها، على ما يبدو، خالفت القوانين الأميركية وقدّمت «دعماً» عن غير قصد لحزب الله (يبدو أن الجامعة استضافت، خلال ورش عملٍ لصحافيين لبنانيين، اعلاميين من قناة «المنار» من بين مشاركين كثر، فاعتبر المحققون الأميركيون ذلك «دعماً مادياً لمنظمة ارهابية»).
تعهّدت الجامعة بعدم «تكرار الخطأ» في المستقبل، وأردفت ذلك ببيانٍ مضحك تعلن فيه أنّها ستلتزم «بالقوانين الأميركية واللبنانية». انت لا يمكنك أن تلتزم بنظامين قانونيين متناقضين، عليك أن تختار؛ وما تقوله الجامعة لنا فعلياً هو أنّها ستتصرّف كمؤسسة أميركية، وستميّز ضدّ أبناء شعبها على أساسٍ ايديولوجي وسياسي، وأنّها ستلعب دورها في الحرب الشاملة ضدّ حركة المقاومة التي حرّرت بلدها (ماذا لو قرّرت الحكومة الأميركية، غداً، أن فئةً جديدة من اللبنانيين هي عدوّة؟ هل ستميّز ضدّها ايضاً؟ وماذا لو نصّ القانون الأميركي على أن تشارك الجامعة معلوماتها مع الحكومة والأجهزة الأمنية الأميركية؟ هل ستتجسّس علينا الجامعة وتسلّم بياناتنا الى أعدائنا؟). حدثٌ مثل هذا كان من المستحيل أن يمرّ قبل ثلاثين سنة من غير احتجاجاتٍ عنيفة داخل الجامعة نفسها واستقالة العديد من الأساتذة، ولكنّه يجري اليوم بكلّ بساطة ويسر (الخطير في الموضوع هو ليس أنّ هذه الفئات تنحاز الى الحكومة الأميركية ضدّ بلدها، ولا تخشى ردّة فعلٍ أو محاسبة أو تشكيكاً بشرعية وجودها، الخطير هو أنّهم يتصرّفون بثقةٍ وكأنّ المستقبل، ايضاً، محسومٌ لهم، وأنّ أسيادهم هم من سيحكم العالم ويسود ويكون سلوكهم هو «الطبيعي» والعقلاني، ولن يأتي يومٌ في المستقبل يتعرّضون فيه الى المحاسبة على موقفهم هذا، أو يواجهون، حتّى، نظرة احتقار في عين أولادهم).
وفق منهجيّة علي القادري، إن شئت أن تعرف هويّتك في المجتمع، فالمهم هو ليس تعريفك لنفسك أو البطاقة الايديولوجية التي ترفعها، المهمّ هو موقعك ودورك في عمليّة الانتاج: من أين يأتي دخلك؟ لمن تعمل؟ من الذي يقيّمك ويعطيك هويّة مهنية؟ هذه المنهجية، في الحقيقة، تصلح «اختباراً» لنظرتنا عن ذواتنا، وتفسّر العديد من الظواهر في مجتمعنا. انظروا الى مجتمع المثقّفين والخبراء والإعلاميين من حولنا: تجد المشرقي الذي يعمل أجيراً لدى قطر أو السعودية، أو في الإعلام الحكومي الأميركي والغربي، أو في المنظّمات ذات التمويل الدّولي، تجدهم جميعاً جبهةً واحدة في السياسة والثقافة، وحتى العلاقات الشخصية. يقفون في خندقٍ واحد في أغلب القضايا الأساسية، بل وينتقلون بسلاسة بين هذه الوظائف وكأنها في نطاقٍ واحد. من النّاحية الظاهرية، هذا التوافق يتحدّى المنطق والعقل، فهؤلاء النّاس ينتمون الى مرجعيّات متعارضة الى حدّ التناقض؛ بعضهم يخدم سلالات عائلية مستبدّة، تحتقر النساء وتتاجر بالعمّال كالعبيد، وتنشر التحريض الطائفي كسياسة إعلامية؛ بينما بعضهم الآخر يفترض أنه يمثّل حكومات ديمقراطية ليبرالية، وموظّفو المنظّمات عملهم الإسمي هو نشر القيم الديمقراطية والغربية. موقعك من رأس المال العالمي ومن الامبريالية، يقول القادري، هو أكثر تعبيراً عنك من ادّعاءات الايديولوجيا والأخلاق.

العراق والحرب المديدة

يمكننا أن نقسّم، نظرياً، محتوى كتاب القادري («تفكيك الاشتراكية العربية») الى جزئين (مع أنهما متعلّقان، ويتداخلان في فصول الكتاب): هناك الجانب النظري والإحصائي، وهو عموماً الأقوى والأكثر تماسكاً في العمل، وهناك دراسات الحالات التي تركّز على التاريخ القريب لسوريا ومصر والعراق. حين يقترب الكتاب من التاريخ والتفاصيل، تبدأ اشكالياتٌ بالظّهور، ومشاكل وثغرات في السّرد. العراق مثال: يتحدّث القادري عن المرحلة التي سبقت حرب العراق عام 1991، ويقول إنّ البروباغاندا الأميركية، حين صوّبت على البلد لتدميره، حوّلت شيطنة العراق وصدّام الى رياضة في الإعلام الغربي وبين اليمين واليسار. حتّى مواقف بعض اليساريين الغربيين، مثل نعوم تشومسكي، التي عارضت الحرب ولكنّها أدانت بالمقابل صدّام حسين وانتهاكاته، يحكم القادري بأنّها كانت نفاقيّة، ولعبت دوراً في التعمية الإعلامية التي برّرت الغزو. لا يوجد أيّ رابط بين فظائع صدّام حسين وبين الغزو الأميركي للعراق، ولا أسباب الحرب ولا أهدافهما مرتبطة بمعاناة الشعب العراقي، ولا هي ستنقص منها. هما موضوعان منفصلان تماماً، فلا يوجد أيّ سببٍ للازمة «الادانة» لصدّام والتبرّؤ منه لدى الحديث عن الحرب القادمة، فيما البلد على وشك أن يُضرب ويدمّر. هذا كله صحيح، ولكن أن يقيّم القادري النّظام العراقي في أواخر الثمانينيات على أنّه النّظام «الأكثر جذرية» في المنطقة، هو مسألة أخرى تماماً.
يقول القادري إنّ العراق، بسبب ظروفه الأمنية وتوافر النفط فيه، كانت لديه «حصانة» من النزعات النيوليبرالية، وهو لن يدخل في دورة التخصيص وفتح الاقتصاد طوعاً (ما استلزم الحرب والغزو من الخارج). ولكنّ هذا ببساطةٍ غير صحيح. صدّام حسين جرّب أن يخضع الاقتصاد والقطاع العام لـ»اصلاحات هيكلية» ليبرالية مرتين على الأقل، عام 1984 وفي 1987ــــ88، وكان يضطرّ للتراجع في كلّ مرّةٍ بسبب فشل التحرير والنتائج السلبية له (كتب أكثر من باحث عن الموضوع، من بينهم كيرن شودري وعصام الخفاجي، الذي يقتبسه الكتاب في موضعٍ آخر). ولولا حرب 1991 والحصار، لكان صدّام على الأرجح سيستمرّ على النّهج ذاته. هناك عدّة خطبٍ وشهادات للرئيس العراقي السابق يتحدّث فيها بوضوح عن نظرته الاقتصادية، من بينها خطابٌ يصرّح فيه بأنّه لم يقتنع يوماً بالاشتراكية وادارة الدّولة للإقتصاد، وأنّه «أنقذ» العراق من الجّناح الراديكالي في حزبه، الذي كان ينوي تحويل البلد الى دولة سوفياتية (الإشارة على الأرجح هي لجناح علي صالح السعدي).
عقد الثمانينيات، إجمالاً، لم يتمّ نقاشه في الكتاب، وتفسير القادري لحرب ايران مقتضبٌ وغير مقنع. يبدو وكأنّ الكاتب يرجع الحرب الى قرارٍ عراقي داخلي بحت، وتخوّف النظام البعثي من انتقال الطائفية الى البلد بسبب النظام الديني في طهران. السؤال هنا: هل كان الحكم العراقي سيفتح حرباً مع جارٍ أضخم منه بكثير لولا الدّعم الخليجي والتشجيع الأميركي، بغض النظر عن رغبات النظام؟ هل يمكن نفي الدور الغربي (أو تبسيطه) في حربٍ كان العراق فيها يضرب ايران بطائرات فرنسية الصنع، دفعت ثمنها دول الخليج، وتستهدي بإحداثيات اميركية؟ مع نهاية حرب ايران، كان العراق مثقلاً بعشرات مليارات الدولارات ديوناً، والرساميل الخليجية كانت قد بدأت بالظهور في بغداد وشراء العقارات، والبلد في حالة عداء مع جاره البعثي الآخر، هذه كلّها ليست صفات دولة مستقلّة وراديكالية.
الغريب هو أنّ نظام صدّام حسين، بسياساته الداخلية وتحالفاته، يطابق المثال النظري الذي وضعه القادري نفسه عن النّخب التي ترتدّ وتبحث عن التصالح مع الامبريالية (ولو حاولت، على طريقة تركيا، المناورة وفرض شروطٍ «استقلالية» معيّنة)، حتّى أنّ أغلب مشاريع العراق الصّناعيّة، في عقد الثمانينيات، كانت عبارة عن مصانع مكلفة، متقدّمة تكنولوجياً، ولا تشغّل الكثير من العمّال، كالبتروكيمياويات وشبكة الغاز، وكان أغلبها من توريد شركات فرنسية وأوروبية. مهما يكن يبقى الأساس أنّ العراق، كما قال القادري، كان يحوي أسوأ معدّلات الفقر والأمية في العالم عشية ثورة 1958، فأصبح في صدارة الدول النامية بحلول عام 1978. والسّبب ببساطة هو أنّ ثروة البلد ظلّت داخله، وتمّت إعادة تدويرها واستثمارها، حتّى أصبحت لدى العراق قدرات بشرية ومادية لا يستهان بها، ثم تمّ تدمير ذلك كلّه على يد الجيش الأميركي والحصار، وتمّ تشريد فئات واسعة من العراقيين بمن فيهم أكثر الطبقة الوسطى، وأسّست الولايات المتحدة لنظامٍ لا يضمن غير التبعية واستمرار الاحتراب الطائفي.

خاتمة

حين يحيل القادري الى التجربة «الاشتراكية» العربيّة، فهو لا يتكلّم على الاشتراكية بالمعنى الماركسي، بل عن اقتصاد «سوقٍ» تقليدي، يعمل كأي نظام رأسمالي آخر وبأدواته ذاتها، ولكن الخيارات الاقتصادية الأساسية، ووجهة الاستثمار، تكون فيه بيد الدّولة، وليس القطاع الخاص. «الاشتراكية» بمعناها الكامل، أو الحرية الحقيقية للبشر، هي الحرية من وظيفة الأجر ومن ربّ العمل ومن حياة القلق ومن رأس المال الخاص. وهذه لن تأتي الّا عبر تغييرات جذرية في بنية المجتمع وعلاقات النّاس، لسنا اليوم في واردها، خاصة في دول الجنوب الفقيرة والمهدّدة (لدى سمير أمين مطالعة عن استحالة انشاء مشروع «مشاعيّ» مثلاً، أو معزولٍ عن القواعد الاقتصادية السوقيّة، في عالم اليوم). المسألة ليست أنّ هناك «نظريات» يثبت فشلها، فتأتي نظريات «جديدة» لتستبدلها. النيوليبرالية، يقول القادري، ليست «شيئاً جديداً»، ظهر فجأة في السبعينيات واكتسح العالم، بل أفكارها موجودةٌ ومفصّلة منذ أيّام مدرسة فيينا، ولكن لا أحد كان يتبناها أو يعتبرها صحيحة (بالنظر الى السجل التاريخي يومها، للاقتصاد الليبرالي). كان المعسكر الغربي في تراجع وكان لدى نخب الجنوب ما يكفي من الاستقلالية لاعتماد سياساتها الخاصة وكان في وسعها، حتى أوائل السبعينيات، الارتكاز على دعمٍ سوفياتي. في ذلك الوقت، كانت الاشتراكية وادارة الدولة هي النظرية «الصحيحة» والناجحة، وقلّة تجادل في الموضوع؛ وحين مال ميزان القوى من جديد، واستعاد الحلف الغربي عافيته أصبحت النيوليبرالية أداةً للتوسّع و»حقيقة» في آن.
هذا، بطبيعة الحال، قابلٌ للعكس. القادري ليس متفائلاً، وهو يشير الى أنّ الكثير من ابناء الطبقة العاملة في مصر، مثلاً، وهم الحلفاء الطبيعيون المفترضون للمشروع الوطني، أصبحوا في أحضان السلفيّة الوهابية المنشأ والتمويل. وهؤلاء، حين تنهار الأوضاع أخيراً في مصر، سيشكّلون حجّة أميركية لحروبٍ جديدة لا تنتهي، بدعوى «مكافحة الارهاب» والإسلاميين. القادري يشير ايضاً الى الصراع الطائفي، الذي يمنع قيام وعيٍ مشترك بين أبناء المنطقة (هو يقول ان الطائفية القائمة اليوم هي حالة حديثة بالكامل، لا علاقة لها بالتاريخ أو بأي سوابق من الماضي باستثناء أسماء الفرق والشخصيات الدينية). هذا كلّه صحيحٌ، ولكن القادري يفوته أنّه، من قلب الأزمة والإفقار والتشتّت، خرجت ايضاً قوىً مسلّحة، فاعلة، عمادها أبناء الأرياف وفقراء المدن، وهي تبني خطّاً تصاعدياً من اليمن الى لبنان الى العراق. القادري يعتمد تقسيماً ايديولوجياً جذرياً، كلّ الاسلاميين عنده ــــ مثلاً ــــ متشابهون في العمق، ولو اختلفت مواقفهم الآنية من الامبريالية، أو اختلف موقفها منهم ــــ والخلاص عنده لا يكون الّا بحركة عمّالية أممية التوجّه واشتراكية. هذه الخلاصة التعميمية هي ايضاً اشكاليّة، بل أنّه بالإمكان تقديم فرضية معاكسة تقول بأن حركة المقاومة في سياقنا الحالي كان لا يمكن أن تكون الّا دينيّة، وخارجة من التراث المحلّي للناس الفقراء، والفروقات بين هذه الحركات ليست تفصيلاً ــــ ولكن هذا نقاشٌ آخر. إن كان كتاب القادري بالغ الأهمية في تفسير جزءٍ أساسي من تاريخنا وحاضرنا، غير أنّ المستقبل لا يعرفه أحد، باستثناء خلاصةٍ يسوقها القادري ــــ ونتّفق عليها بالكامل ــــ بأنّ اللغة الوحيدة للمرحلة القادمة، والقدر الذي لا هروب منه مهما كانت النتيجة، هي الحرب.