«إنّ مزيجاً من الصراعات العسكرية، ومجتمعاً مدنيّاً تموّله دولارات النفط، والنيوليبراليّة، قد فكّك تنظيمات الطّبقة العاملة، وسفّه رموزها وشعاراتها، وخلق حالةً معمّمة من اليأس والإنهزامية. هذا، بدوره، هو ما قذف بأجزاءٍ واسعة من العمّال العرب الى أحضان الجبريّة الرجعيّة».
من كتاب «تفكيك الاشتراكية العربية»

حين تنظر الى حالة العالم العربي اليوم وأوضاع غالبية سكّانه، فإنّ ما يثير العجب ليس التأثير المدمّر للحروب والغزوات الخارجية التي تطحن (قبل وبعد «الربيع العربي») بلاداً بأكملها، من العراق الى سوريا وليبيا واليمن، وتهجّر أهلها وتدمّر مواردها ــــ فهذا متوقّع من الحرب. العجيب هو أنّ الدّول التي لم تواجه غزواً وعدواناً، و»تصالحت» مع الامبريالية والغرب واسرائيل، وأطلقت «اصلاحات» ليبرالية واندمجت في الاقتصاد العالمي، قد وصلت مجتمعاتها على المدى البعيد الى درجةٍ من التدمير والانهيار لا تختلف كثيراً عن تلك التي ضربتها الصراعات العسكرية. مستوى الحياة في لبنان مثلاً، وهو بلدٌ قضى أكثر تاريخه في حروبٍ مدمّرة، أعلى بكثيرٍ من مصر، التي خاضت آخر مواجهة عسكرية لها منذ قرابة نصف قرن، وهي تستفيد من «عائدات السّلام» و»الاصلاحات» منذ ثلاثين سنة.
أعمال علي القادري، سواء كتابه عن «التنمية العربية المحظورة» (2014) أو عمله الأخير «تفكيك الاشتراكية العربية» (دار انثم لدراسات الاقتصاد السياسي، 2016)، تهدف الى شرح العلاقة بين هذين الشكلين من «التدمير» اللذين يختصران التاريخ السياسي العربي في العقود الثلاثة الماضية (يعتبر القادري أنّ النمطين، سواء الحروب الاستعمارية المباشرة أو تحكيم نخب نيوليبرالية تابعة، هما وجهان لعملة واحدة، ويوصلان الى النتيجة ذاتها: تدمير المجتمعات من الدّاخل وسلبها سيادتها وإعادة تشكيلها كما يريد المهيمن. الاصلاحات الليبرالية التي تحطّم القدرات الانتاجية وتفقر الشعب وتفكّكه، يقول القادري، ما هي الّا صيغة «رخيصة» من الحرب الاستعمارية). ولأنّ كتب القادري هي من الأعمال القليلة الحديثة التي تعالج الاقتصاد السياسي في بلادنا، ومن خارج أدبيات «التيار السائد» التي يصعب الدفاع عنها اليوم، وهي غرقت عموماً في صمتٍ منذ 2011، فإنّ هذا المقال سيكرّس لعرض فرضيّة علي القادري، ونتائجها السياسية المحتملة، ونقاط الاختلاف معها.


كيف وصلنا الى هنا؟

بين أواخر السبعينيات و2011، تعرّضت الطبقات العاملة العربية، وبخاصة في الدول التي كانت اشتراكيّة، الى أقسى عملية انحدار شهدته، ربما، أي مجموعة سكانية على هذا الكوكب. المسألة ليست في أنّ اقتصادات الدول العربيّة، بعد سنواتٍ من الجمود والفشل وانعدام النموّ في ظلّ الاصلاحات الليبرالية، لم تعد تمثّل أكثر من 0.9 في المئة من الدّخل العالمي (خارج الخليج النفطي)، المسألة هي أنّ حصّة الرواتب والمداخيل العربيّة تمثّل 0.3 في المئة من الإجمالي العالمي؛ أي أنّ أغلب الثروة في هذه الاقتصادات الهزيلة لا تذهب رواتب للناس العاملين، بل ريعاً وأرباحاً للنخب والأثرياء. من السّهل اثبات الكارثة التي حلّت بعموم الشعب العربي في العقود الماضية، فالأرقام واضحة وساطعة، من مستوى الاستهلاك الى التعليم والصحة، وانتاجية العامل وظروف السّكن، وصولاً الى نسب الفقر المدقع والبطالة (البطالة، يشرح القادري، لا يجب أن نفهمها عبر الأرقام الرسمية فحسب. الذين يعملون برواتب لا تكفيهم لكي يستقلّوا ويقوموا بأودهم ويؤسسوا بيتاً، وهذه حال عشرات الملايين من العمال العرب في قطاع الخدمات وغيره، هم يمثّلون حالة من البطالة، وتبخيس قيمة العمل وصاحبه). الأمثولة ليست هنا، بل هي في المقارنة بين هذه الثلاثينية البائسة وبين المرحلة «الاشتراكية» التي سبقتها، بين أواخر الخمسينيات وأواخر السبعينيات، حين كانت الحالة معكوسةً تماماً. الأساس الإحصائي الذي يستخدمه القادري هو أقوى ما في الكتاب. هو يعرض مثلاً جدولاً بسيطاً، يضع مؤشرات المرحلة الاشتراكية (1960 ــــ 1980) في سوريا والعراق ومصر مقابل المرحلة الليبرالية التي تلتها (1980 ــــ 2011)، ونظرةٌ سريعة اليه تكفي لشرح الحجّة الأساسية للكاتب. الفارق مذهل بين الخانتين: من جهةٍ نموّ مستمرّ وتحسن في أحوال العمال ومستوى انتاجيتهم ومعدّل استثمار كبير في البلد وصناعاته، رغم أن تلك الدول كانت تمرّ بحروب وهزائم ومواجهة شرسة مع الغرب واسرائيل والخليج، وفي الخانة الأخرى انحدارٌ وإفقارٌ وعجزٌ مالي وتجاري. من غير الطبيعي أو المنطقي أن ترتفع انتاجية العامل المصري، طوال الستينيات والسبعينيات، ثمّ تبدأ بالإنحدار في عصر الحداثة والتطوّر التكنولوجي، هذا مجرّد مؤشّر على «نوعية» النمو في المرحلة الليبرالية، وعملية تفريغ الاقتصاد من القيمة ووقف الاستثمار في مهارات العمّال وتعليمهم.
بالنسبة الى القادري، فإنّ قوس الأحداث قد جرى على النّحو التالي: اثر الاستقلال، حكمت «الجمهوريات» العربية نخبٌ عسكرية في تحالف مع برجوازية دولة (يسمّيها القادري «الطبقة الوسيطة»، وهم فئة الموظفين الكبار والتكنوقراط والمثقفين الذين سندوا النخب العسكرية الحاكمة وأداروا مؤسسات الدولة، وكانوا أحياناً من نتاج الدولة الاشتراكية ونشرها للتعليم). وهذا التحالف السياسي حظي بتأييد فئات واسعة من الشعب بسبب تطبيقه للاشتراكية والتأميم ودعوته للوحدة العربية ومواجهة الغرب واسرائيل. منذ أواخر السبعينيات، وبسبب مزيجٍ من الهزائم العسكرية وانتعاش المعسكر الغربي وأفول الاتحاد السوفياتي، تحوّلت هذه النّخب الى «التصالح» مع الامبريالية، وفتح أسواقها وفق شروط استسلامٍ سياسية، وتحالف الحكّام مع نخبة «تجارية» جديدة، تسهّل دولرة الاقتصاد وتستبدل النمو الصناعي ومشروع التنمية بنشاطات مالية وعقاريّة. الهزائم العسكرية (من 1948 الى 56 الى 67 الى 73) أوصلت الى هزيمة ايديولوجية في صفوف النخبة الحاكمة (وليس بين الشعب، الذي احتمل طويلاً التضحيات والتقشّف). والهزيمة الايديولوجية خلقت ثقافة بين النّخب تعتبر أن الصّدام مع دولة حديثة ونووية كاسرائيل أو تحدّي الغرب المتفوّق هو وهم، ونادت بـ»الواقعيّة»، وفصلت بين مسار التنمية ومسار الأمن والاستقلال، يقول القادري، فخسرت الاثنين معاً.


مصر وانقلاب السادات

حين بدأ السادات بتحرير الاقتصاد وسياسة «الانفتاح»، كان الخطاب السائد أنّ هذه الاجراءات ضرورية لأن اقتصاد الدولة أثبت فشله، وقد وصلت مصر الى الأزمة، ولم يعد هناك من خيار. المشكلة هي أنّ هذا ببساطة لم يكن صحيحاً. من ناحية، كان وضع الميزانية المصريّة مقبولاً حتى أواسط السبعينيات وتتم تغطية العجز من منح الحلفاء، والتبادل بين مصر والعالم متوازن تقريباً، والاستيراد أقل من 20% من الدخل القومي (والكثير منه سلاح سوفياتي يتمّ تمويله بقروض ميسّرة أو مقابل انتاجٍ مصري). من جهةٍ أخرى، كلّ هذه الاختلالات ابتدأت تحديداً اثر «الانفتاح»: ارتفع العجز التجاري، انكسرت ميزانية الدولة، وهبط الاستثمار ــــ حين أصبح في يد القطاع الخاص ــــ بأكثر من الثلث مقارنة بمرحلة الاقتصاد الموجّه. كانت الدولة الاشتراكية تعتمد عدّة أنظمة للصرف وتتحكّم بانتقال الرساميل من أجل عزل العمّال (وسلّة استهلاكهم) عن السّوق العالمي؛ فتكون للعملة في الداخل قيمة اسمية عالية وثابتة، تضمن أن تغطّي الرواتب سلّة استهلاك العمّال وحاجاتهم الأساسية، فيما المستوردات تصبح عالية الثمن وصعبة المنال. أمّا «عملة الصّرف» التبادلية، فهي متروكة للمصرف المركزي والمصارف التجارية التي تنظّم الاستيراد وتوجّهه لخدمة الاستثمار وشراء الآلات وحاجات الصناعة.
في عهد الانفتاح وتوحيد سعر الصرف وربط العملة بالدولار (أو تحريرها، لا فرق)، انت تخسر فعلياً كامل سيادتك الاقتصادية، ولا يعود وضع الاستثمار والاستهلاك والأسعار في بلدك مرتبطاً بقراراتك وأفعالك، بل بسياسات واشنطن وتقلّب الدولار وظروف خارجية لا سيطرة لك عليها. في الوقت ذاته، تمّ «تحرير» غالبية اليد العاملة ورميها الى السّوق. بمعنى أنّه، بدلاً من أن تكون هناك نسبة متزايدة من العمّال منظّمين في مؤسسات عامّة (يعملون في مصانع الدولة، أو في تعاونيات زراعية، ويحظون بدعمٍ وضمانات وحقوقٍ ومسكن)، انسحبت الدولة وتركت ملايين الريفيّين والمهاجرين الى المدن تحت رحمة القطاع الخاص والعشوائيات، وبلا أي شكلٍ من تأطيرٍ وتنظيم وهويّة، باستثناء النشطاء الاسلاميين وعمل المنظّمات غير الحكومية.
حتّى نشرح الفارق بين النموذجين. المسألة ليست في أنّ القطاع الخاص «أكثر فعالية» من القطاع العام، وهو الخطاب الذي ساد في العقود الماضية، وأنّ مصنع الحديد حين يديره رجل أعمال سيربح أكثر بنقطتين او ثلاث من المصنع ذاته تحت ادارة الدولة؛ الأساس هو أنّ مصنع الحديد (مثالاً) هو نشاطٌ يعتمد على الغاز الوطني أو الطاقة المدعومة، وهو بذلك نوعٌ من «ريع»، أو ربحٍ مضمون، وعملية «تحويل» للثروة الوطنية. وحين تملك الدولة المصنع، فإن أرباحه سيُعاد تدويرها في نشاطات صناعية أكثر تقدّماً، أو تُنفق على الاستثمار في العمّال وتعليمهم وشبكتهم الاجتماعية. أمّا حين يدير أحمد عزّ المعمل ذاته، مع شركائه وأصدقائه في النظام، فهو سيبني بالأرباح قصراً فخماً على الشاطىء، ويرسل الباقي الى حسابات في سويسرا (وهذا كلّه قانوني بالمناسبة).
القيمة الحقيقية للعملة المصرية اليوم لا تنتج عن سياسات المصرف المركزي وتدخّلاته، يكتب القادري، بل أساساً عن الرضا الأميركي ودور مصر السياسي. لو «تخلّت» واشنطن عن مصر غداً وعادتها، فإنّ كلّ الرساميل المصرية ستخرج مذعورة خلال اسبوع، ولن يقرض أحدٌ في الخارج الدولة المصرية، وسيتوقف الدعم الخليجي (وهو أحد نتائج «الرضا» الأميركي). نظام السيسي، كتب القادري في كتابه الأسبق، ومثله نظام مرسي، يقوم فعلياً على دعامتين، بمعنى أنّه لو سقطت احداهما لسقط النظام مباشرة: الالتزام بكامب دايفيد وحيازة الدعم الأميركي من ناحية، والمنحة المالية الخليجية من جهةٍ أخرى. ومن يرد أن يراهن على نظامٍ كهذا، أو يعتبره استقلاليا أو امتداداً لعبد الناصر، عليه أن يتذكّر جيّداً هذا السّقف.

الدّاخل والخارج

سنناقش في الأجزاء المقبلة الجانب الأكثر راهنيّة في أطروحة القادري، وهو عن الحرب ومعناها في بلادنا، ولكن الأساس أن القادري يرفض أيّ فصلٍ بين «الداخل والخارج» في التحليل. حتّى «الفساد»، يكتب القادري، لا يمكن فصله عن عمليات تتخطى حدود البلد (لولا «الانفتاح» ودولرة الاقتصاد مثلاً، لكان الفاسد يسرق عشرة الاف جنيه وليس مئة مليون دولار، ولولا أنّ رفيق الحريري فتح لبنان على أسواق الدين العالمية، لما كان لدى النخبة اللبنانية ريعٌ بالمليارات مكشوفٌ للنهب). اميركا، مثلاً، تدفع ظاهرياً لمصر ملياريّ دولار في السنة «بدلاً» للسلام (يذهب جلّها، يقول القادري، الى المؤسسة العسكرية والأمنية، والباقي الى نشاطات لجمع المعلومات داخل البلد، وتجنيد المتعاونين، ونشر ثقافة الهزيمة والاستسلام في المجتمع)، ولكنّها تحصّل عوائد سياسيّة أضخم بكثير من ذلك بسبب تحويل مصر الى دولة تابعة: في الخليج وفي اليمن وافريقيا، وفي العالم ككلّ.
الحرب في بلادنا ليست استثناءً، أو نتيجةً لفعل رئيسٍ أو تهوّر حاكم، بل هي من طبيعة عمل النظام العالمي في هذه المنطقة. بعد هزيمة 1991، فعل النظام العراقي المستحيل، يقول القادري، لتجنّب الحرب، وصولاً الى رهن موارده النفطية للروس والفرنسيين قبل فترة قصيرة من الغزو، ولكن هذا لم يصنع أدنى فرقٍ بالنسبة الى اميركا، التي كانت «تحتاج» الى تدمير الدولة العراقية واختراق المجتمع وكسره. بالمعنى نفسه، رغم أنّ الحكم السوري والبرجوازية قد حاولا، لفترةٍ طويلة، التصالح مع الامبريالية وتجنّب الحرب وفتح الاقتصاد ودمج سوريا بالغرب (يقول القادري ان السوريين طبّقوا كلّ معايير منظمة التجارة الدولية، ورفعوا الحماية عن صناعاتهم وعمّالهم، مع أنّهم كانوا متيقّنين من أن اميركا، في كل الأحوال، ستمنع دخولهم الى المنظّمة. وبعد عام 2007، فعلياً، كان الاقتصاد السوري بكامله في يد القطاع الخاص). على الرّغم من ذلك، اختارت اميركا إحراق سوريا ما أن لاحت الفرصة. السبب هنا بسيط، يشرح القادري: اميركا لا ترى سوريا أو مصر ككوريا أو تايوان، وهي لا تريد الدولارات القليلة التي يمكن استخراجها من الاقتصاد السوري وتحويلها الى سندات خزينة اميركية. أمّا العائد الجيوستراتيجي الذي تحصّله واشنطن (في الاقليم وفي العالم) نتيجة تدمير الدولة السورية وتحطيم المجتمع وتحويل البلد الى ساحة حرب، فهو أضخم بما لا يُقاس (يتبع).