السياسية، بمعناها العام، هي تعبير جزئي أو كلي عن مواقف وتوجهات ومصالح جماعات (فئات أو تكتلات أو طبقات...) أو أفراد، في نطاق صراع، يحركه تناقض جذري أو ثانوي، ويتوسل ما هو متاح من أدوات (أو يستحدث ما هو ضروري منها) لتحقيق تلك المواقف والتوجهات والمصالح.كما نرى اليوم، تستخدم السياسة على أوسع نطاق، الدين والتدين. تستخدم، في امتداد ذلك، العصبيات والموروثات الطائفية والمذهبية. «داعش» وشبيهاتها هي إحدى أخطر نتائج هذا الاستخدام الذي جنح نحو أقصى التطرف والتصرف مقترنين بأبشع أنواع القتل وامتهان الكرامات والمقدسات والحريات والحقوق والقيم الإنسانية والحضارية...

تستخدم السياسةُ أيضاً القضاء. تُسقط عنه، حتى قشرة العدالة التي ينبغي أن يتدثر بها، ليبدو ملاذاً، نزيهاً، ومترفعاً عن الأهواء والمصالح والصراعات، ومحايداً بين الأقوياء والضعفاء. نعيش اليوم هذين الاستخدامين اللذين تحولا ظاهرة بالغة الخطورة تدور «فصولها»، بالصوت وبالصورة، على أخطر وأبشع وأسوأ ما وقع، ربما، على مرَّ العصور.
محاكمات مصر عملية
مقززة تكاد تتحول إلى محاكمة للثورة نفسها

المسلسل القضائي المتواصل، بدوره، تقع محطته الأولى في لاهاي. هناك تستمر «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» في تقديم شريط عروضها الطويل والممل وشديد التكلفة والتسييس، والذي يفضح المدى الخطير والوقح الذي بلغه تحكم الأقوياء المهيمنين بالمؤسسات والمنظومات الدولية: السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية والقضائية والإعلامية... هناك تستمر فصول محاكمة يراد منها التشهير بالخصوم والتحضير لقرارات وإدانات يمكن الحكم سلفاً، من خلال الإطالة والتأجيل، على ضعف براهينها وأسانيدها. هذا الأمر تجري محاولة تعويضه باستعادة وتجديد أجواء الصراع، في محاكمة شبه وحيدة الجانب وغير مستوفية شروط الحياد، بما يمكن أن يساهم، قبل هذا وبعده، في شحن النفوس وإثارة الضغائن، واستحضار الفتن... ولا بأس في مجرى ذلك، من محاكمات فرعية، هي بدورها، ذروة في الانحياز وممارسة سياسة الكيل بمكيالين على غرار محاكمة تلفزيون «الجديد» وجريدة «الأخبار». لم يكلف قضاة المحكمة (السابقون والحاليون) أنفسهم عناء التحسب لما برز من المفارقات والتناقضات والانحياز، ولا في مسألة مصداقية المحكمة وسمعة قضاتها وسمعة القضاء الدولي عموماً!
في المنامة، العاصمة البحرينية، أصدر القضاء منذ أيام قراراً ضد الشيخ علي سلمان، أبرز رموز المعارضة وزعيم جمعية «الوفاق»، يقضي بحبسه لمدة أربع سنوات. صورة الشيخ علي في الإعلام، منذ بداية الاحتجاجات في البحرين قبل أكثر من أربع سنوات، هي صورة الرجل الهادئ والمتزن، وحتى الديبلوماسي الذي واظب على تلخيص أهداف الاحتجاجات بإقامة ملكية دستورية في البحرين على غرار بلدان متقدمة عديدة تتاح فيها، من خلال ذلك، للمواطنين فرصة اختيار ممثليهم في ظل الرعاية الملكية الدستورية القائمة. مطلب الشيخ علي وجمعية «الوفاق» هو ما تطالب به أيضاً كل القوى الوطنية والديموقراطية البحرينية، وإن كان لدى بعضها ملاحظات على أسلوب التحرك، وعلى بعض الشعارات ذات المنطلق المذهبي وعلى محاذير استخدامها أو استغلالها لتكرار ما حصل من كوارث في بلدان عربية أُخرى. بكلام أدق إن البحرينيين، بأكثريتهم الساحقة، يطالبون بالعودة إلى الدستور الذي كان قائماً عام 1973 والذي جرى تعليقه عام
1975.
في مجرى كل سنوات الاحتجاج الأخيرة قاوم الشيخ علي دعوات العسكرة وإغراءاتها (الكوارثية!). أعلن مراراً رفضه للعنف. لم يتردد أبداً في تأكيد استقلالية قرار المحتجين من دون أن ينفي صداقات وعلاقات. لا يعني ذلك أن لا مآخذ على الشيخ علي ورفاقه لجهة دمج الديني بالمذهبي والسياسي ولو بشكل محدود. لكن لا يمكن عزل ذلك عن التمييز والظلم القائمين في المجتمع البحريني (وسواه طبعاً) بما شكل أساساً تباينت أساليب التعبير عنه وفق الجهة والمرحلة والتفاعلات الداخلية والخارجية. لقد كانت الصيغ والتعبيرات والرموز اليسارية هي التي سادت في حقبة سبعينيات القرن الماضي لتجسيد الشكوى والاحتجاج على التمييز والظلم. لم يشفع لتلك الصيغ والرموز كونها تنطلق من موقع سياسي لا من موقع مذهبي: فقد جرى عام 1975 تعليق العمل بالدستور وحل البرلمان. وتمَّ، عموماً، قمع حركة ديمقراطية واعدة، كما تمَّ التراجع عن الحد الذي كان قائماً من الحريات لمصلحة تشدد استمر قائماً حتى بداية القرن الحالي، ليشهد انفراجاً مؤقتاً ثم توتراً متواصلاً حتى يومنا هذا.
يجدر القول، من موقع المتابعة والمعرفة الشخصية بالمناضل الشيخ علي سلمان، بأنه كان يخوض معركة على جبهتين: الجبهة التقليدية ضد السلطة الحاكمة، والجبهة الأخرى ضد بعض الأصدقاء والحلفاء ممن حاولوا الدفع باتجاه العسكرة. كان جوابه الدائم رفض العنف والإصرار على سلمية التحرك ليبقى، بالفعل، شعبياً ومستمراً فلا تبتلعه المصالح المتربصة والأهواء الذاتية والانفعالات الجامحة.
ثم أن الشيخ علي، وجمعية «الوفاق» التي يترأسها، ليسا وحدهما في ساحة الاحتجاج والمطالبة بالإصلاح والمشاركة (المستندة إلى المواطنة قبل أي اعتبار آخر). هناك أيضاً معظم القوى اليسارية وهي قوى وازنة في المجتمع البحريني، كما أنها ذات تاريخ عريق في النضال وفي حمل راية التغيير والديمقراطية والإصلاح. وفي هذا السياق يفوت المتابعين وبعض المتضامنين بأن رئيس «جمعية العمل الديمقراطي» (وعد) المناضل إبراهيم شريف السيد قد سبق الشيخ علي إلى ظلمات السجن (منذ أوائل آذار عام 2011) وهو ما زال يقبع هناك بعد أن صدرت بحقه وبحق رفاق له وزملاء أحكام جائرة تمتد لعقود!
ينبغي القول أيضاً، إن وجود أمين عام «وعد» و»الوفاق» في سجون البحرين لم يكن صدفة سيئة فحسب، بل هو نتيجة علاقات تعاون بين قوى المعارضة البحرينية. وهي علاقات ساهم في إقامتها، بشكل أساسي المناضل الراحل، البحريني الخليجي القومي والأممي عبد الرحمن النعيمي، كما ساهم قبله ومعه فيها المناضل والقائد الشيوعي والبرلماني الريادي سيف بن علي.
من حيث شاء أو لم يشأ أسهم الشيخ علي سلمان في إبقاء خيار المعارضة السلمية قائماً وحياً. وهو خيار، إذا قورن بسواه في ظروف طغيان الهيمنة الاستعمارية والاندفاعة التكفيرية الإرهابية الهمجية، يبقى الأسلم، وبالتأكيد على المدى البعيد، الأفعل والأجدى والأقل تكلفة (مقارنة بتجارب انزاحت نحو العنف والتدمير والخراب الشامل!). لم يغير في هذا القرار السلمي الصائب التدخل العسكري الخليجي («درع الجزيرة») رغم إدعاءات واهية من قبل سلطة المنامة، ورغم أن هذا التدخل أخل، بالقوة، بتوازن سياسي وشعبي، لم يكن أبداً لمصلحة السلطة.
أما محاكمات مصر فمهزلة لا يجوز استمرارها. هي لا تليق بثورة مصر التي أدهشت العالم. وهي عملية مقززة تكاد تتحول في بعض «فصولها» إلى محاكمة للثورة نفسها لمصلحة ديكتاتورية مبارك وأركان حكمه الذي حظيوا، في المقابل، بأحكام تتراوح بين المخفف والبراءة، وبكيفية تكاد تشبه الاعتذار؟!
هذا كما لاحظ كثيرون، تشويه لصورة مصر وللقضاء المصري الذي عرف محطات مهمة كان فيها شبه مستقل رغم الضغوط، وحاول مراراً أن يكون حيادياً ونزيهاً. يضاعف من سوء هذه المحاكمات كونها اقترنت أيضاً بملاحقة واعتقال رموز شابة كان لها حضور ودور مميزان في «الميدان» بعد أن تعذر تدجينها ومنعها من مواصلة الاحتجاج على التفرد والتضييق على الحريات والمنع والقمع...
ليس هذا دفاعاً عن «الإخوان» الذين انقلبوا على الثورة وأصحابها وحاولوا مصادرتها وسط مسار كثيف من الخداع والمناورة والاستئثار. إنه دفاع عن «أم الدنيا» التي لن تكون كذلك إلا إذا كان حاضرها امتداداً متجدداً لحضارتها العظيمة القديمة.
«ما دخلت السياسية شيئاً إلا أفسدته». هذه خلاصة تجربة مريرة عندما تستشري الأخطاء والأطماع والعصبيات والغرائز... وتغيب، أو تفسد، الرقابة الشعبية المنظمة.
* كاتب وسياسي لبناني