إن كتاب نقولا ناصيف، «جيوش لبنان: انقسامات وولاءات»، الذي صدر قبل أيّام في بيروت، هو واحد في ثلاثيّة أصدرها المؤلّف عن تاريخ «المكتب الثاني» وعن «الأمن العام» من قبل. ولا شكّ أن ناصيف هو عالمٌ خبير في تاريخ لبنان المعاصر، وخصوصاً في تاريخ أجهزة الدولة الأمنيّة والعسكريّة.
والزميل ناصيف باحث مجتهد وكاتب موسوعي وغزير الإنتاج. فهو، بالإضافة إلى عمله المواظب في الصحافة اللبنانيّة (في «النهار» ثم في «الأخبار» بالإضافة إلى إطلالاته التلفزيونيّة)، يصدر الكتب البحثيّة عن السياسة اللبنانيّة المعاصرة. وأذكر، عن نزاهته المهنيّة، أن الراحل جوزيف سماحة قال لي عنه إنه واحد من اثنيْن من الصحافيّين الذين كانوا يرفضون المِنح الماليّة التي كان يوزّعها نهاد المشنوق (وهاني حمّود في ما بعد) على الصحافيّين في طائرة الحريري الخاصّة. كما أنه لم يكن يضيف على مرتّبه في «النهار» منحاً شهريّة من سياسيّين—وكان ذلك مألوفاً على ما يبدو. وكتب ناصيف ثريّة بالمعلومات ومكتوبة بأسلوب مشوّق وبعبارات منتقاة بعناية فائقة: ووصفه للسياسيّين أو العسكريّين أو المدنيّين يكاد يجعل الشخصيّات تلك تفرّ من صفحات الكتاب لتحيا أمامك وأنت تقرأ. والكاتب يستطيع أن يجمع كمّاً كبيراً من المعلومات من دون أن يفقد السيطرة على ما يقع بين يديه، فيحسن استخدام ما جمعه في روايته.
لكن هناك ما يشوب ثلاثيّة نقولا ناصيف. يُأخَذ على بوب وودورد (الصحافي الذي بولغ في تقديره في فضح «ووترغيت» في «واشنطن بوست») في كتبه الكثيرة عن الحكم الأميركي في إدارات مختلفة أنه يكون أسير مَن يقبل أن يتحدّث إليه، وأن مَن يتحدّث إليه يضمن أن يُضفي وودورد على دوره تغطية بطوليّة مميّزة. ولهذا، فإن الساسة (من مستوى الرؤساء وما دون) يقبلون على مضض أن يتحدّثوا إلى وودورد لعلمهم أن رفضهم لإجراء مقابلة معه يضمن تغطية شديدة السلبيّة لأدوارهم. كما أن وودورد يصف أدوار متحدّثيه في كتبه من دون أن يقارن وأن يدقّق وأن يمحّص فيما يقولون ويروون. إن السردية تصبح ملك المتحدّث. لا تتصف كتب ناصيف بالثأريّة التي تتسم بها كتب وودورد — ولا بالقرب من السلطة وأصحاب القرار، لكن كتبه هي أيضاً أسيرة لسرديّة متحدّثيه. وبالرغم من أن كتب ناصيف تعتمد على عمل مضنٍ في البحث والتدقيق والتوصيف والجمع، فإنها تعاني من نقص في المعايير الأكاديميّة للبحث (والتي يمكن بوجودها أن تجعل من بعض كتب ناصيف أطروحات جامعيّة). أي أن كتب ناصيف تتضمّن كماً هائلاً من المعلومات لكنها تعاني من نقصان من حيث: ١) يفتح ناصيف المجال أمام محدّثيه كي يسيطروا على السرديّة. أي أن كلّاً مِن جوني عبده أو غابي لحّود (في كتاب «المكتب الثاني: حاكم الظل») أو أنطوان الدحداح (في كتاب «سرّ الدولة») يملك السيطرة الكاملة على السرديّة في الحوار. لا يعارض ناصيف، ولا يحاول أن يسائل أو أن يعرض وجهة نظر خصوم الرجل المُحاوَر. وعليه، فإن المتحدّث يضمن أن تسود رؤيته في الحديث من دون اعتراض أو تدقيق من قبل ناصيف. ٢) لا يسمح ناصيف لمحدّثه بأن يسيطر على السرديّة في موضوع الكتاب، بل هو يمتنع عن محاولة مقارنة السرديّة تلك بسردّية خصوم المُحدّث. وعليه، عندما تقرأ جدول المقابلات في الكتب الثلاثة يصدمك نقصٌ نافر: لم يقابل نقولا ناصيف مسؤولاً فلسطينيّاً واحداً كي يأخذ وجهة النظر الأخرى في الكتب المذكورة. لم يقابل ناصيف في كتاب «المكتب الثاني: حاكم الظلّ» مسؤولاً فلسطينيّاً واحداً أو مسؤولاً في الحركة الوطنيّة فيما يتعرّض الكتاب بالتفصيل لقمع المقاومة الفلسطينيّة من قبل السلطة تحت ذرائع شتّى. هذا سمح لجوني عبده مثلاً بأن يقول ويختلق ويُفبرك بلا هوادة. ٣) لا يضع ناصيف الرواية في سياق سياسي ينزع إلى التجرّد أو الانصاف بين وجهات نظر متنازعة. على العكس، هو يضع الروايات في سياق السرديّة والمصطلحات الانعزاليّة إيّاها. وعليه، فإن حاجزاً للمقاومة الفلسطينيّة في بيروت الشرقيّة قبل الحرب (ويا ليت كان هناك المزيد من الحواجز في بيروت الشرقيّة لما كان هناك من اختراق إسرائيلي عدوّ ومن اغتيالات اعتمدت على عملاء للعدوّ) يمثّل إخلالاً بالسيادة الغالية، ولا تمثّل سلسلة الاعتداءات والاجتياحات الإسرائيليّة المتكرّرة على لبنان إخلالاً بتلك السيادة الغالية. أي أنك تطلع بخلاصة أن السيادة اللبنانيّة لا يمكن أن يخلّ بها إلا الفلسطينيّون فقط، وأن خروق السيادة من الغرب ومن إسرائيل لا يجب أن تقلق بالاً. ٤) يغيب عن سرديّة ناصيف الدور الإسرائيلي الخطير في الحرب اللبنانيّة، ولعلّ هذا يعكس عدم اهتمام أجهزة الجيش والأمن في بلبنان بالخطر الإسرائيلي لانشغالهم بملاحقة ومحاربة اليسار (وبالنيابة عن أجهزة أمن غربيّة غالباً). هو يتبع السرديّة الرسميّة لجهاز الدولة التي كانت تقلقه حركات اليسار والمقاومة وحتى شهود يهوه (وهنا من المستغرب أن ناصيف روى عن الملاحقة الرسميّة لشهود يهوه من قبل جهاز الأمن العام («سرّ الدولة: فصول من تاريخ الأمن العام، ١٩٤٥-١٩٧٧»، ص. ٣١٧. من دون أن يشير إلى جنون هذا الهوس الذي شغل الكنيسة لعقود طويلة، ولا يزال). لكن الخطر الإسرائيلي لم يكن يشغل الدولة ولا يُقلق راحتها أبداً. على العكس، في المرتيْن اللتيْن ألقى فيها المكتب الثاني القبض على عميليْن لإسرائيل، عاد وسلّم العميليْن إلى دولة الاحتلال مع أن واحدة منهما كانت مواطنة لبنانيّة (وهذه سابقة بين الدول) (راجع «المكتب الثاني: حاكم في الظل»، ص. ١٦٧). لا، ناصيف يأخذ بمقولة أن اتفاق الهدنة بين لبنان ودولة العدوّ «جنّب» لبنان احتلال أراضيه (مع أن أراضي لبنان تعرّضت لاحتلالات إسرائيليّة متعاقبة) كأن العدوّ احترم تلك الاتفاقيّة التي خالفها منذ توقيعها (راجع ناصيف «المكتب الثاني»، ص. ٢٦٨).

تتبنى كتب ناصيف
الثلاثة موقف القوى الانعزالية حول نفوذ المقاومة الفلسطينيّة
في «المنطقة الغربيّة»

لكن الكتاب الجديد لناصيف (أي «جيوش لبنان») أضعف من الكتابيْن الأوليّيْن في السلسلة، إذ أنه سمح لعواطفه بأن تطمس ما يتجمّع من دلائل وقرائن تتناقض مع رواية الكتائب عن الحرب. اعتمد ناصيف في القسم الأوّل من الكتاب على مذكّرات غير منشورة لأحمد الخطيب. وقد اتفقَ أنني أنا أيضاً قرأتُ تلك المذكّرات غير المنشورة لأحمد الخطيب (وأحثّ عائلته على نشرها لما تحتويه من معلومات هامّة عن تاريخ الحرب الأهليّة، وقد كتبها الخطيب بتوصيف دقيق وتفصيل نقدي لا يرحم). لكن ناصيف ظلم أحمد الخطيب كثيراً على غير عادته مع مَن يحظى بمقابلته (قابل ناصيف أحمد الخطيب وسمحت له عائلته بتصفّح مذكّراته). كيف فسّر ناصيف حركة أحمد الخطيب؟ هكذا: ١) قال إنه كان كسولاً وفاشلاً في دراسته العسكريّة. (نقولا ناصيف، «جيوش لبنان: انقسامات وولاءات»، ص. ٢٤). ٢) اتهمه بالطائفيّة وجعل من الطائفيّة دافعاً وحيداً لحركته مع أن الخطيب فضح دور حركة «أمل» وكمال جنبلاط في التحريض الطائفي والمذهبي في داخل حركته. ٣) اتهمه ناصيف بالعمالة لإسرائيل — وهذه معصيّة أدبيّة في الكتاب. كيف فعل ذلك ناصيف؟ أدرج في حاشية في الكتاب نصّاً من تقرير لـ«الشعبة الثانية» في زمن جول بستاني يتهم فيه أحمد الخطيب (وفقا لـ«مصادر عدة وثيقة ومؤكّدة») أن الخطيب كان يزور دولة الاحتلال في عام ١٩٧٦. (ص. ٦٦). لماذا لم يسأل ناصيف الخطيب كي يكذّب هذه الكذبة؟ لا نحتاج إلى تمحيص كي نكذّب هذا التقرير لـ«الشعبة الثانية». ثم كيف يمكن أن يقبل ناصيف صدقيّة جول بستاني فيما يتعلّق بإسرائيل، وهو الذي رعى سويّةً مع إسرائيل رعاية وخلق وتسليح ميلشيا «التنظيم»؟ ليس هناك مِن دليل موثّق (ليس بعد) على علاقة جول بستاني مع دولة العدوّ الإسرائيلي لكن هناك أدلّة في الوثائق الأميركيّة على تحالف وثيق بين قوى الأمن والجيش مع العدوّ الإسرائيلي وعلى تواصل مستمرّ بينهما وتنسيق في ضرب المقاومة. جول بستاني آخر مصدر يمكن أن يُركَن إليه في اتهام الغير بالعلاقة مع إسرائيل: لقد روى رئيس أركان الجيش الأسبق، رياض تقي الدين، كيف كان عملاء جول بستاني يشعلون نار الحرب الأهليّة عندما تخمد (راجع كتاب نبيل المقدّم، «وجوه وأسرار من الحرب اللبنانيّة»، ص. ٢٦٠). ثم، الغريب في الأمر أن كتب ناصيف الثلاثة لا تتضمّن حساسيّة في الموضوع الإسرائيلي، لا بل أنه تجاهل في كتاب «المكتب الثاني» العلاقة بين جوني عبده وبين العدوّ الإسرائيلي. لا بل نشر التبريرات الباطلة التي ساقها عبده لتسويغ العلاقة (الذيليّة طبعاً) بين بشير الجميّل والعدوّ الإسرائيلي. إن إدراج هذا الاتهام الباطل ضد أحمد الخطيب (وحشره في حاشية) أضعف من صدقيّة رواية ناصيف الذي قرّر أن يهمل شهادة الخطيب (الصادقة) في مذكّراته غير المنشورة.
لقد تمرّد أحمد الخطيب على جيش طائفي وفئوي وصارخ في انحيازه الطائفي والفئوي. لقد كان ضبّاط الجيش يصفّقون لطائرات العدوّ وهي تقصف لبنان، وكان كبار الضبّاط يحاضرون بعد ١٩٧٣ (عندما هُزم الجيش اللبناني في مواجهة المقاومة الفلسطينيّة) حول ضرورة دعم الميلشيات اليمينيّة الطائفيّة. ولا يعير ناصيف أهميّة لواقعة أن الخطيب كان يخدم في منطقة البقاع تحت إمرة أنطوان لحد، قائد منطقة البقاع يومها. لا يعلّق ناصيف بكلمة عن هذا الرجل، وعن دوره الطائفي المنحاز آنذاك، وعن دوره المستقبلي فيما بعد. لكن من غير المقبول أن يستعمل ناصيف ضد أحمد الخطيب تلك الحجّة (الباطلة) التي استعملها الثلاثي فؤاد بطرس والياس سركيس وجوني عبده ضد سليم الحص: كان الثلاثي يتهم الحص بالطائفيّة عندما يعترض على طائفيّتهم البغيضة والصارخة. وقياساً، يصنّف ناصيف تمرّد الخطيب ضد طائفيّة الجيش اللبناني بأنه هو الطائفيّة. (طبعاً، لم يكن تمرّد الخطيب فقط ضد طائفيّة الجيش وقيادته آنذاك). لكن كان على ناصيف مراجعة شهادة فؤاد لحّود (الشمعوني) ضد سياسات الجيش وضد طائفيّته في كتاب «مأساة جيش لبنان» (لم يرد الكتاب في مراجع كتاب «جيوش لبنان»). كانت نسبة قادة الوحدات المقاتلة في الجيش قبل الحرب ٨٥٪ للمسيحيّين و١٥ ٪ فقط للمسلمين (ص. ٨٤ من كتاب لحّود). ولا يذكر ناصيف كيف أن فؤاد بطرس عندما أصبح وزيراً للدفاع في عهد سركيس زار مقرّ وزارة الدفاع واجتمع بقيادة الجيش واكتشف أن المسلمين كانوا ممنوعين من مقرّ وزارة الدفاع في سنوات حرب السنتيْن. (هو لا يذكر طائفيّة قيادة الجيش في سنوات الحرب، كأن انحيازها إلى ميلشيات اليمين كان من منظور علماني محض — ص. ١١٤ من «جيوش لبنان»).
ناصيف لا يبرز موقفه من السياسات التي أدّت إلى انهيار لبنان. وكأن ترك لبنان عرضة للاحتلال والعدوان الإسرائيلي سياسة مقصودة في دولة ما قبل الحرب: كان رئيس لبنان يرفض (بأمر من أميركا والعدوّ الإسرائيلي) مساعدات ماليّة وعسكريّة عربيّة سخيّة عُرضت عليه: في عام ١٩٧٤، ذهب تقي الدين الصلح إلى دولة الإمارات في طلب مساعدات ماليّة إلى لبنان للتسلّح وحمايته من عدوان إسرائيل، فما كان من الرئيس اللبناني إلا رفض ما عُرض عليه من دول عربيّة في قمّة الرباط من ذلك العام. أو فضيحة إسكندر غانم: الذي تلقّى تحذيراً (كقائد منطقة بيروت) في يوم الاعتداء نفسه على مطار بيروت في عام ١٩٦٨ عندما قال له قائد الجيش، إميل بستاني: «انتبه إلى مطار بيروت في خلده» (ص. ٢٣٣ من كتاب لحّود). غانم هذا أصبح فيما بعد «بطل» التقصير والتخاذل في عمليّة فردان في عام ١٩٧٣.
وهناك أيضاً أمثال إبراهيم طنّوس الذي تمرّد عليه وعلى أمثاله أحمد الخطيب ورفاقه. في شهادة ناصيف في مقالة في «الأخبار» في ٢٧ كانون الأوّل ٢٠١٢ بعنوان «غياب طنّوس: قصّة جسر الكرامة مع رمسفيلد»، يصف ناصيف طنّوس بـ«المقاتل». لكن ناصيف ينسى أنه لم يقاتل يوماً العدوّ الإسرائيلي (أحمد الخطيب أخذ المبادرة في قتال العدوّ في شباط من عام ١٩٧٢، وأصيب بجرح حاولت الدولة اللبنانيّة أن تستغلّها تلفزيونيّاً فرفض الخطيب) بل قاتل مسلمين ومسيحيّين في صفوف الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. هذا هو القتال الذي كان يتشرّف به جنود وضبّاط الجيش قبل أن يثور عليه الخطيب ورفاقه. طبعاً، طنّوس تمرّس فيها بعد في قصف عشوائي ضد الضاحية الجنوبيّة والجبل في عهد أمين الجميّل (الذي عيّنه في قيادة الجيش لأن العدوّ كان يرتاح إليه بسبب تاريخه). ويروي ناصيف في المقالة المذكورة قصّة طنّوس في كانون الثاني من عام ١٩٨٣ عندما طلب طنّوس من الموفد الأميركي يومها، دونالد رمسفلد، أن يُثبت العدو الإسرائيلي حسن نيّته — هكذا— نحو لبنان عبر قصف «جسر الكرامة» معركة الجبل. لم يعلّق ناصيف ولم يحكم أخلاقيّاً على قائد الجيش الذي طلب من العدوّ الإسرائيلي أن تقصف طائراته جسراً لبنانيّاً كي تعينه في حروبه على لبنانيّين آخرين.

لماذا لا يتعرّض كتاب عن «جيوش لبنان» للانقسامات في الجيش التي رعاها العدوّ الإسرائيلي


وكتب ناصيف الثلاثة تعاني من كونها تتبنى الصورة النمطيّة لموقف القوى الانعزالية حول نفوذ المقاومة الفلسطينيّة في «المنطقة الغربيّة». لا يكون المسلم (أو المسيحي) المنضوي في صفوف المقاومة الفلسطينيّة متملّكاً لقراره، وفق الفرضيّة تلك. فهو أسير ومغلوب على أمره. أي أن المقاومة الفلسطينيّة كانت تجنّد المسلمين (والمسيحيّين) اللبنانيّين رغم أنفهم، وهذا مغاير للواقع. كان اللبنانيّون (في الجنوب اللبناني خاصّة وفي مناطق أخرى من لبنان) يتدافعون للانضواء في صفوف المقاومة الفلسطينيّة. كنتَ ترى في مكاتب الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين متطوّعين ومتطوّعات من كل أنحاء لبنان (والعالم العربي). لكن نظرة ناصيف للمقاومة الفلسطينيّة نظرة غير منصفة. وناصيف الذي، بالرغم من جهوده البحثيّة وعمله الدؤوب، لم يقابل مسؤولاً فلسطينيّاً واحداً لأخذ وجهة نظر المقاومة من الأحداث الواردة في الكتاب، ينسب إلى المقاومة الفلسطينيّة مواقف كانت هي بعيدة عنها كليّاً. الوثائق الأميركيّة عن فترة الحرب أنصفت المقاومة الفلسطينيّة أكثر من حيث اعترافها بحرص المقاومة على تجنّب الغوص في وحول الحرب (وحدها، جبهة الرفض كانت تحاول مساندة القوى اللبنانيّة لكنها جوبهت برفض وتمنّع من قيادة عرفات المسيطرة على المقدّرات العسكريّة). أما ناصيف فيتهم أبو جهاد بمخطّط لـ«تفتيت المؤسّسة العسكريّة... وإدخال الانقسام الطائفي والمذهبي في صفوفها» (ص. ٣٤ من «جيوش لبنان»).وفي هذا يمكن إيراد الآتي:
أوّلاً، إن المنطق الطائفي كان بعيداً جدّاً عن فكر قادة المقاومة، خصوصاً أبو جهاد. على العكس، كان هؤلاء يعملون على دفع القوى اللبنانيّة الحليفة بعيداً عن المخطّط الطائفي. وسها عن بال ناصيف أن القوى الفلسطينيّة أبقت على أقنية التواصل مع القوى الانعزاليّة في الوقت الذي كان فيه قادة الحركة اللبنانيّة (اللبنانيّون) يرفعون شعار «عزل الكتائب» (أذكر عندما علّقنا في بيروت في أواخر السعبينيات ملصقات «لا للحوار مع الانعزاليّين» ردّاً على مبادرة ياسر عرفات بالحوار مع كميل شمعون وبيار الجميّل).
ثانياً، هل أن الجيش اللبناني لم يكن منقسماً طائفيّاً ومذهبيّاً من دون أي جهد خارجي لتقسيمه؟ هل كان هناك لحمة في صفوف الجيش، فيما كانت القوى الطائفيّة المهيمنة على قيادة الجيش صريحة في تحالفها مع «الكتائب» و«الأحرار» (يذكر ناصيف بعض الضبّاط المسلمين الكبار من تلك الفترة لكن هؤلاء كانوا أدوات بيد القوى اليمينيّة المُهيمنة: يذكر ناصيف أن بشير الجميّل كان يريد خرق الكوتا الطائفيّة عبر تعيين رئيس أركان سنّي لكن الرجل الذي اختاره — سعيد القعقور — كان يمينيّاً شمعونيّا متطرّفاً (ص. ٤٣١)،) كما أن عزيز الأحدب كان يزايد على «حرّاس الأرز» في تعصّبهم الفينيقي الشوفيني). لكن ناصيف الحريص والدقيق يضعف مصداقيّة كتابه عندما يستشهد برواية لأحمد معماري عن أن مسوؤلاً محليّاً في حركة «فتح» («أبو هاجم») حدّثه عن مخطّط فلسطيني سرّي (لم يعلم به على ما يبدو إلّا «أبو هاجم») للتوطين في لبنان. (ص. ٦١ من «جيوش لبنان»). كيف يتبنى ناصيف رواية لا دليل ولا منطقَ فيها، خصوصاً أن الراوي (المعماري) كان لصيقاً بالمخابرات السوريّة في لبنان في سنوات الحرب، وكان يكنّ عداء مستحكماً ضد حركة «فتح»؟
أما رواية ناصيف عن انقسام الجيش، فهي مبنيّة على فرضيّة مغلوطة: عن أن الجيش كان متماسكاً وموحّداً ومنصهراً إلى أن أتى أحمد الخطيب (بإيعاز وهمي من أبو جهاد) كي يقسّم هذا الجيش. الجيش كان منقسماً حتى في عام ١٩٥٨ وباعتراف قائده، وأصبح أكثر تشرذماً بعد أن حوّله الرئيس سليمان فرنجيّة إلى ميليشيا في خدمة قيادة «الكتائب» و«الأحرار» وطبعاً «جيش التحرير الزغرتاوي» الذي قاده نجله طوني. ويعلم ناصيف أن جوني عبده وميشال عون وغيرهم من كبار وصغار الضبّاط في الجيش ساهموا في تدريب وقتال ميلشيات اليمين حتى قبل اندلاع الحرب الأهليّة. لكن ناصيف يتغاضى عنهم، لا بل هو يصف التمرّد المسلّح لـ«حركة الجيش اللبناني الثوري» بقيادة سمير الأشقر (الذي قاتل الجيش السوري والجيش اللبناني لأنه كان يريد انخراطاً أكبر للجيش اللبناني في مساندة بشير الجميّل) بـ«المغامرة» (ص. ٧١). ولماذا لا يتعرّض كتاب عن «جيوش لبنان» لتلك الانقسامات في الجيش التي رعاها العدوّ الإسرائيلي؟ ليس هناك من فصل أو فصول عن جيش لحد، مثلاً.
لا شكّ أن نقولا ناصيف يملك الذاكرة الحيّة، ولكنها انتقائيّة، لحقبة من التاريخ اللبناني المعاصر. ولا شكّ أنه بات يمثّل خزاناً من المعلومات عن تاريخ القطاع العسكري والأمني في لبنان. لكن سرديّة ناصيف لا تكفي لأنها منقوصة. هي وجهة نظر لفريق من اللبنانيّين، وتحتاج— من أجل إكمالها — إلى سرديّة فريق آخر من اللبنانيّين تم طمسها بواسطة السرديّة الكتائبيّة النافذة للحرب. لكن قراءة التاريخ المعاصر لسنوات الحرب الأهليّة، ولما قبلها من منظور المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة اللبنانيّة، لا تكتمل من دون الاستعانة بثلاثيّة نقولا ناصيف.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)