احتلّ مكبّ الكوستا برافا، في الأسابيع الأخيرة، جزءاً كبيراً من المساحة الإعلاميّة في لبنان. وبلغ الموضوع من الجدّية والحدّة أن أنذر بعض الخبراء بأنّ هذا المكب يهدّد سلامة الطيران المدني. ومن الطبيعي أن يصبح المكبّ، عند هذا النوع من التهديد، قضيّة رأي عام يناقشها ويتجاذبها كلّ معنيّ، أكان جهة سياسيّة أم جمعيّات أهليّة أم مؤسّسات رسميّة.
ولكن ما يثير الريبة في هذه القضية هو نزول تقدير درجة التهديد من خطر داهم على سلامة الطيران المدني إلى قضية تتحمّل مدة أشهر لإيجاد حلّ لها. فيفتح هذا الانكماش في التقدير الباب أمام السؤال عن المسبّبات التي دفعت إلى التقدير الأوّلي، وإن كان هذا التقدير خاطئاً، أو صحيحاً والدولة اختارت تجاهله. وتستحضر هذه القضيّة العشرات من القضايا غيرها التي تحوّلت إلى قضايا رأي عام وسيقت من أجلها الحملات الإعلاميّة ومن ثمّ الجهود الرسميّة، لتختفي بعد ذلك من ساحة التغطية كلياً بعد بضعة أسابيع.

رأي الخبير: بين التنقيب والحوار

يبدأ أوّل احتكاك للجمهور مع هذا النوع من القضايا مع موقف خبير يدلي برأيه عبر وسائل الإعلام، التي بدورها تكثّف هذا الموقف بمتابعته فتشكّل قضيّة رأي عام. ومن الطبيعي عندما يخفت التداول في القضية أو عندما لا تصل إلى العواقب التي أُنذر منها، أن يُلقى اللوم على واجهة القضيّة، أي الخبير ورأيه. ولكن هل يحمل رأي الخبير كلّ هذا الوزن والصدقيّة؟
يحاجج دوغلاس وولتون، في كتابه «الاحتكام إلى رأي الخبير»، بالقول إنّ «رأي الخبير» يجب أن يُعامل كحجّة قابلة للجدال تحمل بعض الوزن من الافتراض ولكنّها ليست قطعيّة أبداً وتخضع للمساءلة النقديّة. فيقول إنّ مقاربة الحجج المبنيّة على «رأي الخبير» تكتنفها مشكلتان، الأولى ذات بعد نفسيّ والثانيّة ذات بعد عقلانيّ.
فالمشكلة الأولى ــ ذات البعد النفسي ــ التي تواجه من يقارب الحجّة المبنيّة على «رأي الخبير»، هي القدرة على الخروج من الهالة التي تفرضها المكانة العلميّة للخبير وما يستتبعها من افتراض صحّة أقواله تلقائيّاً. ويطرح وولتون علم نفس التمكين كحلّ لهذه المشكلة. فتمكين المستفتي من استعمال أدوات التفكير النقديّ ستساعده في طرح الأسئلة الصحيحة على الخبير، لتتلاشى الهالة من حوله.
ولكن استعمال أدوات التفكير النقديّ تؤدّي إلى المشكلة الثانيّة. فالحكم بذكاء وعقلانيّة على رأي الخبير يحتاج إلى تفنيد نقاط القوّة والضعف في رأيه ومقارنته بفرضيات تقابله. وتكمن المشكلة بأنّ اعتماد هذا الأسلوب، من دون الركون إلى كيفيّة شرح الخبير رأيه لغير الخبير، ينتقص من عقلانيّة الحكم على الرأي. ويقترح وولتون اعتبار الرأي مسألة مركّبة من عاملين، الأوّل هو العناصر العلميّة المطروحة فيه، والثّاني هو كيفيّة نقل الخبير لهذه العناصر إلى غير الخبير. فغير الخبير غير ضليع بمكوّنات الرأي وإذا لم يفهم فعلاً مكوّنات حجّة الخبير لن يتمكّن من الحكم بصحّتها أو حتى مقارنتها بغيرها من الفرضيّات، حتّى لو كان الشكّل المنطقي للحجّة سليماً.
ولذا يستنتج وولتون أنّه، وبهدف الحكم العقلانيّ على رأي الخبير، لا بدّ من الحكم على تقنيّاته في إيصال الأفكار والعناصر المكوّنة لرأيه، وفي الوقت عينه الحكم على هذه العناصر. فإن كانت تقنيّات الخبير في إيصال العناصر ناجعة بإمكان المستفتي (غير الخبير) التأكّد من أنّ عمليّة الحكم على صحّتها ومقارنتها بغيرها من الفرضيّات عمليّة سليمة وعقلانيّة. ففي النهاية هذه العمليّة هي أقرب إلى الحوار بين الخبير وغير الخبير منها إلى نقاش بين أقران من المنزلة العلميّة نفسها.
وللبحث عن فرضيّات مقابلة أهميّة خاصّة في الحكم على صحّة عناصر حجّة الخبير. ففي ورقته البحثيّة «التنقيب عن الخبراء والإفصاح المطلوب»، يتحدّث جوناه غيلباك، وهو أستاذ جامعيّ في القانون، عن قدرة الباحث عن رأي خبير التنبّؤ بما سيقوله أيّ خبير محدّد تبعاً لتاريخ آرائه وإنتاجه العلميّ. فيسهل على من يبحث عن رأي يخدم مصلحة معيّنة أن يجد خبيراً يؤمّن له هذا الرأي. وتأتي هذه الورقة ضمن البحث عن آليّة تصحّح ما يراه مؤلّفها شوائب في عمليّة إشهاد خبراء في المحاكم الأميركيّة. ويطلق غيلباك على هذه العمليّة اسم «التنقيب عن الخبير».
فإذا يمكن ضبط إشكاليّة رأي الخبير في قضايا الرأي العام ضمن عنصرين، الأوّل هو عملية اختيار الخبير ومعالجة ما قد يشوبها من تحيّز عبر إظهار الآراء المختلفة. أمّا الثاني فهو كيفيّة إخراج «الحوار» الذي سيوضّح للرأي العام بشكل قطعيّ رأي الخبير بالعنوان موضوع الشرح. وهذان العنصران يقعان ضمن مسؤوليّة الإعلام، المسؤول الأوّل عن صناعة قضايا الرأي العام.

الإعلام صانع القضيّة

فالمادّة التي سينتجها إعلاميّون، وتتبنّاها مؤسّساتهم الإعلاميّة، هي التي ستشكّل خطّ التماس الأول بين الرأي العام والقضيّة. وهذا التماس سيؤثّر في كل حكم مستقبليّ، للرأي العام، على المنحى الذي ستتّجه فيه القضيّة وعلى عمليّة معالجتها وآثارها.
ومن هنا تبرز أهميّة القدرة المهنيّة للإعلاميين المسؤولين عن التنبيه إلى القضيّة وتحويلها إلى قضيّة رأي عام. فهؤلاء كأفراد يجب أن يكونوا أوّلاً ذوي قدرة على فهم كلّ أبعاد القضيّة ليتمكّنوا من انتقاء خبراء (أكثر من خبير واحد بالتأكيد) من دون تأثير مواقفهم ــ أي الإعلاميين ــ المسبقة في الاستنتاج النهائيّ للمادة التي سيقدّمونها. وثانياً، أنّ يتمكّنوا من رسم مسار حواريّ واضح يستخرج كلّ ما هو مهمّ وأساسيّ من الخبراء أثناء عرض آرائهم، ليتمكّن المتلقّي، مشاهداً كان أو مستمعاً أو قارئاً، من الحكم على صحّة هذه الآراء بشكل عقلانيّ.

نرى العشرات غيرها من قضايا الرأي العام التي تظهر في الحيّز العام فجأة ثمّ تختفي

ولكن في لبنان هذه العمليّة مشوبة في معظم الأحيان. فكثيرة هي المواد التي تعنى بقضايا الرأي العام، والمنشورة عبر مؤسّسات إعلاميّة تنتمي إلى فئة الإعلام السائد، التي تقدّم تصوّرات منحازة وغير موضوعيّة وتفتقد إلى الصلابة العلميّة. وتُقدّم هذه المواد على أنّها التمثيل الصحيح الذي يجب أن يهتدي به الرأي العام ليكوّن رأياً عقلانيّاً عن القضيّة ومساراتها المستقبليّة.
فقليلاً ما نرى تقريراً، يتناول قضيّة رأي عام، يحرص على عدم إظهار انحياز رأي صانعيه إلى جهة من جهات النقاش. ولا نرى الكثير من التقارير التي تبحث عن خبراء يستعرضون آراء متناقضة. بالإضافة إلى كثرة التقارير التي تقدّم الخبراء وآراءهم على أنّها غير قابلة للنقاش، طبعاً بعد أن يكون معدّو هذه التقارير قد اختاروا الخبراء المناسبين لآرائهم المسبقة حول القضيّة.
يقودنا هذا التدقيق إلى الاستنتاج بأنّ المشكلة التي تؤدّي إلى تقارير منحازة، إمّا تكمن في أنّ صانعيها ليسوا على قدر عال من الحرفيّة، أو أنّهم، ولأسباب خاصّة بهم أو بالمؤسّسات التي توظّفهم، منحازون لوجهة نظر معيّنة ويحاولون فرضها كمسار لتفاعل القضيّة في الحيّز العام. وبما أنّ الحديث هنا عن مؤسّسات من فئة الإعلام السائد لا يمكننا سوى افتراض أنّها لن توكل مهمّات صناعة تقارير بهذه الأهمّية، إلّا إلى أكفأ الإعلاميين العاملين فيها. ما يتركنا أمام الاستنتاج بأنّ المشكلة الأساسيّة هي في الانحياز المسبق.

الدافع الخفيّ

عند هذه النقطة لا بدّ من الغوص أكثر، وبصراحة، في حال الإعلام اللبناني. فالجسم الإعلامي المستعدّ، بأكثرية مؤسّساته، لتغطية وصناعة قضايا رأي عام ينحاز فيها إلى طرف نقاش دون آخر، جسم تشوبه الكثير من العلل. ومن المفيد استذكار سيل المقالات والتحليلات، التي تدفقت على اللبنانيين مع بداية العام الحالي على إثر توقف جريدة السفير عن الصدور، والتي تتناولت وما زالت تتناول أزمة الإعلام اللبناني وأسبابها. وكانت التحليلات الأكثر موضوعية قد اتّفقت على أنّ جزءاً من أزمة هذا الإعلام عائد إلى استزلام أصحاب بعض المؤسّسات الإعلاميّة لأنّهم استسهلوا الاعتماد على المال السياسي، متناسين الوظيفة الرئيسيّة للإعلام؛ المتمثّلة بالسهر على مصالح الناس وتسليط الضوء على شوائب السياسيين. فالانحياز المسبق في أيّ قضية، ما بالكم في قضايا الرأي العام، يحرم المتابع، غير الخبير، من فرصة وحقّ تكوين رأي عقلانيّ ليحدّد من خلاله ما يخدم مصالحه فعلاً.
لا بل يزداد المشهد تعقيداً عند محاولة تتبّع خيوط تشابك مصالح أصحاب المؤسّسات الإعلاميّة والسياسيين ورجال المال. فبين مؤسّسات تابعة لجهات سياسيّة جهراً وسرّاً وأخرى يمتلكها بعض رجال المال وفئة ثالثة يستجدي أصحابها رضى رجال السياسة والمال، نرى أنّ مساحات العمل الإعلاميّ، الذي يصبو إلى الحفاظ على مصالح المواطنين ومراقبة ونقد أهل السياسة، ضيقة جداً.
والنتيجة الطبيعيّة، لجوّ كهذا في الجسم الإعلامي، تتجلّى عند مقاربة ملفّات يكتنفها إنفاق حكومي عال حيث يسيل لعاب الطامعين، فنرى المواقف المسبقة تتسرّب إلى صناعة وتغطيّة القضيّة. ولا يعود مستغرباً أن تصنع مؤسّسة ما قضيّة ما من لا شيء بهدف تحويل مجرى ملفّ مرتبط بالقضيّة (أو غير مرتبط، بحسب حنكة السياسي أو رجل الأعمال الذي يدفع باتّجاه فتح الملف) إلى اتجاه قد لا يكون بالضرورة في مصلحة المواطن.

خفّة اليد

وفي المبدأ يجوز التوقّع من أصحاب السلطتين السياسيّة والماليّة أن يتلاعبوا بالرأي العام، ومن الخبراء أن يلتزموا نهجهم العلميّ المعروف سلفاً، وعندها يقع اللوم الأساسيّ على الإعلام، باستثناء بعض المؤسّسات الإعلاميّة المعروفة. وأمام هذه الصورة المؤلّفة من خبراء «مغربَلين» على أيدي الإعلام الذي لا يراعي مصلحة من يدّعي السهر على مصالحهم؛ وذلك بتأثير مباشر ممن لهم مصالح ماديّة تتعارض في الأغلب مع مصالح المواطن، الذي يصبح ضحيّة عمليّة خداع أشبه ما تكون بخدع خفّة اليد. وجميع المشاركين في صياغة هذه الصورة يراهنون على قصر الذاكرة الجماعيّة للرأي العام، فيستسهلون القيام بهذه الخدع مرة واثنتين وثلاثاً ومئة من دون أن يشعروا بأدنى قلق من المحاسبة الشعبيّة. وهكذا نرى الحيّز العام ينشغل بسدّ سيسبّب الزلازل (نعم بعض الإعلام اللبناني روّج لنظريّة كهذه!)، ومن ثمّ يُنسى الموضوع ويُعاد العمل بالمشروع. ونرى إعلاميّين يروّجون لخطّة معالجة النفايات ومن ثمّ ينقلبون عليها على إيقاع تقلّبات الشخصيّة السياسيّة نفسها المنتفعة في كلا الموقفين. ونرى العشرات غيرها من قضايا الرأي العام التي تظهر في الحيّز العام فجأة ثمّ تختفي من دون مبرّر مقنع. وفي ظلّ هذه الصورة البشعة يدفع المواطن اللبنانيّ الفاتورة الأكبر لحساب «نقار» سياسيّ هنا أو مكسب ماديّ لأصحاب سلطة سياسيّة أو ماليّة أو صاحب مؤسّسة إعلاميّة هناك.
ولكي يلعب الإعلام دوره في ضبط أصحاب السلطة وحماية المواطنين، عليه أن يكون حرّاً. ومخطئ من يظنّ أنّ في لبنان حريّة إعلام، واستشهد على ذلك بما قاله لي مدير تحرير إحدى المؤسّسات الإعلاميّة اللبنانيّة «في لبنان يوجد حرّية أصحاب مؤسّسات إعلاميّة، لا حرّية إعلام وإعلاميين».
* باحث لبناني