منذ «أحداث العريش» الأخيرة التي أسفرت يوم ٢٣ فبراير/ شباط عن مقتل سبعة أقباط في مدينة العريش على يد جماعات مسلحة في شمال سيناء، نرى نمطاً مثيراً لتغطية الأمر، فالفرق كبير بين حالة التعتيم الإعلامي على سيناء التي كانت قبل الحادثة، وحالة الهيجان العامة من النخبة ومدّعي الثقافة بعد الحادثة.
فأهل العريش يتعرضون لمآسٍ من جانبي الجيش والمسلحين منذ 2011. وفيما كانت غارات الكيان الصهيوني تدك سيناء منذ عام 1947، فهي اليوم تأتي بترحيب بل بطلب رسمي من السلطات المصرية من أجل «السيطرة» على سيناء أمنياً، بدلاً من التطرق لمعاهدة «كامب ديفيد» مع الكيان الصهيوني، ليس من أجل تعديلها، بل من أجل التصدي، إذ إن كل قارئ جيد للقضية الفلسطينية يعلم أن مراجعة الاتفاقية مستحيلة.
لكن هناك خصوصية لحادث قتل الأقباط في العريش ثم تهجيرهم. نمط استهداف الأقباط يعوّل على تغطية إعلامية كبيرة. إذا بحثنا في غالبية التغطية الإعلامية، نرى من يدعي التضامن ويثني على بشاعة الحادث مثل فاطمة ناعوت، مدعيةً أن «ما يحدث للأقباط المسيحيين على يد مسخ داعش الدميم، شيءٌ فوق قدرة العقل على استيعابه». المثير هنا هو أن غالباً من يقوم بالترويج لبشاعة الحادث ليسوا أقباطاً فحسب. فإن كنت مسيحياً، كيف لك أن «تتعجب» وتحزن على مقتل سبعة أقباط (فقط!) ــ صحيح بطريقة بشعة ــ فيما أنت تعلم أن حصيلة موت الأقباط السنوية من حوادث استهداف يفوق ذلك، وسط حماية وتنصّل من العدالة «مرضي» عنه من السلطات الأمنية؟ ففي شهر فبراير/ شباط وحده لقي أربعة مواطنين مصرعهم في أقسام الشرطة نتيجة تعذيب، ما يعني تصوير حادثة العريش على أنها «فريدة من نوعها» أو أنها «أول حادث استهداف للأقباط بهذه البشاعة» ــ فقط لأن مرتكبيه في صراع مع الدولة ــ سلعة مهمة لكل تاجر وبوق إعلامي ثقافوي يطمس حقائق من الذاكرة الوطنية منذ 2011، أكثر مما هي محاولة رثاء بريئة، وإن كان فرويد يقول لنا إنه لا وجود لمثل هذا الرثاء البريء. فنرى السيمفونية المألوفة المعالم: مطالب بإصلاح الأزهر، إصلاح الخطاب الديني، ثم أخيراً وخصيصاً تكفير مرتكبي الحادث مثلما تطلب فاطمة ناعوت. كأن مرتكبي الحادث كل ما يعنيهم هو ما ينعتهم به الأزهر، أو كأن عملية القتل ستتوقف فور تغيير الخطاب الديني، ما يعطي الإيحاء المغلوط بأن القاتل ليس له خطاب ديني خاص به. فإذا كانت الدولة تستبيح دماء فئة معينة من الشعب كجزء من ممارستها السيادية للحفاظ على الأمن العام، ولا يعنيها البتة أرواح مواطنيها، فكيف لنا أن نتخيل، وإن كنا ساذجين، بأن وصول خطاب ديني جديد على الرغم من ممارسات قمعية من قِبل الدولة سيوقف حوادث استهداف الأقباط؟
فإذا انشغلنا، كما يريد الإعلاميون والمثقفون، بالتركيز على التشدد الديني في سيناء وتكفيره وإصلاح الخطاب الديني، ننسى ــ أو لنكن دقيقين نتناسى ــ مجدي مكين، القبطي الذي لا دية له عند أحد حين كان يصرخ لجلاده ضابط المباحث كريم مجدي «هاموت يا باشا» وهو يعذبه من أجل اعتراف داخل قسم شرطة الأميرية، فرد عليه الطاغوت كريم مجدي «موت يا مجدي» حسب تحقيقات النيابة وشهادة زملاء مجدي الذين تم حبسهم نتيجةً لشهادتهم الشجاعة. دوماً ما تسقط هذه الجزئية من السردية التي تثبت أن هناك جذوراً شعبية ضد التمييز الديني المتمثل في تضامن اجتماعي ضد الضحايا مثل مجدي مكين، وهؤلاء الذين يريدون أن ننسى بوادر الشجاعة هذه المتمثلة في شهادة زملاء مجدي، هم أمثال فاطمة ناعوت وكل من يريد أن يصوّر أن التمييز الديني ضد الأقباط هو أمر متفشٍّ ومرض مزمن، لكي يرفعوا من فرصهم في توظيف الحادث في صراعهم مع الأزهر أو لإبراز علمانيتهم. لكن زملاء مجدي مكين كانوا يعلمون مثلما يعلم أي مصري يعيش في هذا الزمن، أن القانون ليس محايداً وأن شهادتك ضد الدولة تدعك في مرمى النار، وهذا درس مهم لكل المجتمع المدني الذي يرى حلول للتمييز ضد الأقباط في العصا السحرية: القانون.
فعلى الأقل، هؤلاء في العريش لم يعذِبوا الأقباط وسط حصانة من الداخلية مثلما حدث مع كريم مجدي، حين أُطلق سراحه بكفالة بقرار من محكمة الجنايات. تصوير الأمر بصورة أن «سلسلة موت الأقباط تبدأ وتنتهي في الأزهر»، ودعوة تجديد الخطاب الديني في هذا التوقيت، ربما هو أكثر من صدفة، إذا ربطنا خطاب هؤلاء المثقفين الذين يهاجمون الأزهر لعدم مواجهة التشدد الديني بصدام الرئاسة الحالي مع الأزهر. وقطعاً لا يجرؤ هؤلاء المتضامنون على إزاحة كمّ الكبت عن صدرهم، والمطلوب لتناسي حوادث العنف ضد الأقباط من قِبل الداخلية. لهذا السبب يتضامنون مع الأقباط هذه المرة في حادثة العريش فقط. فأين كنتم حين جرت تعرية سعاد ثابت وحفظ قضيتها حتى صار هناك ضجة إعلامية فقررت السلطات إحالة القضية على المحكمة، وهو ذا نحن الآن في انتظار الصيرورة المعتادة: حكم صارم ثم براءة في درجة التقاضي في الاستئناف. الأمر إذاً ليس في خصوصية مشاكل ومتاعب للأقباط كأنهم جزء مختلف من المجتمع، فكما رأينا هناك اتجاه لتصوير هذه الحادثة على أنها فريدة من نوعها، مثلما نسمع من المعلقين بين كل حين وآخر أن هناك «نقلة نوعية» في العمليات المسلحة التي تستهدف المدنيين في مصر، رأينا أن ذلك الخطاب يكبت ويتناسى المآسي الحقيقة للأقباط التي تسبق حوادث لها صدى إعلامي مثل حادثة رفح في فبراير/ شباط هذا العام. لكن في الوقت نفسه، إن إنكار أي خصوصية لنمط استهداف الأقباط كأقباط ــ وكأن الأمر حاله حال أي مواطن ــ يطمس شيئاً ملموس. فكما علينا أن نتذكر أن أهالي سيناء عانوا معاناة منذ ١٩٤٧ وتم تهجيرهم في الحروب التي تلت ١٩٤٧ مثل تهجير أهل السويس في ١٩٦٧ و١٩٧٣ ــ لا سيما تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ــ علينا أيضاً أن ننسى مَن يعوّل على توظيف هذه الخصوصية ومعاملة الأقباط على أنهم جزء من النسيج الاجتماعي، صحيح، ولكنه محصور ومنغلق. فمثلما نسمع شكاوى «سطوة» الكنيسة على حياة عموم الأقباط لا نسمع أبداً في الخطاب نفسه الأقباط الذين يعلمون أنهم «أكثر من أقباط فقط». تصوير مشاكل الأقباط على أنها نتيجةٌ لهيمنة الكنيسة، مثلما يدعو بعض الإسلاميين إذاً يصب في مصلحة خطاب علماني للسيطرة على الكنيسة لتكون ذراعاً للدولة. الفكرة ليست في الوقوف عند القضية القبطية فحسب، لكن التطرق لما بعده واستعداد هؤلاء أن يُروى الأقباط خارج هذه المآسي وأن يروى أن القبطي «أكثر من قبطي»، وأنا لا أعني في اللحظات السياسية التي تُصرح بها الدولة ببزوغ الأقباط إعلامياً مثل في حرب «٦ أكتوبر» أو المظاهرات ضد «الإخوان». معاناة القبطي ليست معاناة كل المصريين، مثلما أن للمرأة خصوصية لمعاناتها؛ لكن في المقابل إن حلول الأقباط ليست حلولاً قبطية فحسب، مثلما أن قضية المرأة ليست قضية نسائية فحسب.

كيف سيوقف خطاب ديني جديد قتل الأقباط إذا كانت الدولة تستبيح دماءهم

فقطعاً، برغم تفاهة وملالة التكرار، كان لحادثة العريش سابقة أهم، ولم تكن الأولى من نوعها على عكس ما روّج من حناجر الإعلاميين الموالين للنظام. تم الهجوم على كنيسة رفح في 29 يناير/ كانون الثاني 2011 أثناء الثورة ونتيجة الغياب الأمني التام، ذهب كاهن كنيسة رفح إلى مقر المخابرات العامة مطالباً بأي شيء من الحماية، فظهرت مدرعة بعد الحادث ببضعة أيام وانصرفت، وبقيت الكنيسة بآثار الدمار أشهراً عدة ورفضت المحافظة رفع مستوى التأمين أو ترميم الكنيسة، متذرعةً بضعف الوجود الأمني في المحافظة. ولا ننسى أبداً أن هؤلاء الذين يضخمون حادث مقتل الأقباط وتهجير أسرهم من العريش هذه المرة، لا يذكرون أن ذات الفعل المشين حدث تحت سمع وطاعة ورعاية الجهات الأمنية في تواطؤ مع برلمان الثورة في 2012، وإن كان في تهجير أقباط العامرية في 19 فبراير 2012 بمباركة أعضاء لجنة تقصي الحقائق المنبثقة من مجلس النواب التي نفت وقوع تهجير سمته بالمغادرة الطواعية. من المفهوم ضرورة تناسي هؤلاء المثقفين أن بعض النواب شاركوا في هذه الجريمة ــ مثل إيهاب رمزي الذي تلا بيان لجنة تقصي الحقائق التي نفت وقوع أي تهجير ــ وتركيزهم على أن حادثة العريش في 2017 هي الأولى من نوعها، لا سيما إذا ذكرنا عمليات استهداف أقباط رفح في سبتمبر/ أيلول 2012 حين ذهبت أول دفعة من مسيحيي رفح وغادروا حينئذ. فللأسف لا يمكننا أن نفعل شيئاً سوى أن نقول أن من يروجوا لضرورة «معرفة» ما يحدث في سيناء، أي إذا كان الأقباط مستهدفين بشكل خاص بدلاً من كونهم ضمن أهداف مدنية، يتناسون أنه قد فات الأوان لمثل هذه الأطروحات، فحتى لجنة تقصي حقائق «برلمان الثورة» قررت أن تغض البصر عن الأقباط، صحيح أن البرلمان الحالي بائس بكل المقاييس لأي فئة من المواطنين وليس فقط للأقباط لكن حتى برلمان الثورة خيب آمال الأقباط في 2012، الأمر الذي ربما قرر فهمي هويدي أن يتناساه هو أيضاً حين قال إن «ما نحتاجه هو لجنة تقصي حقائق لكن وجود مثل هذه اللجنة في ظل هذا البرلمان لن يفيد». الحقيقة أن وجودها في 2012 لم يمنع هؤلاء النواب، على رأسهم القبطي إيهاب رمزي، من مسح الحادثة من ذاكرتهم دون أدنى تردد.
فلماذا يتناسى هؤلاء مثل هذه الأحداث التي سبقت حادثة العريش من هذا العام، هل نتيجةً لضعف التغطية حول حادثة أقباط رفح في 2012، أم يتناسون لكي يكبتوا وينفوا كواليس حادثة رفح ٢٠١٢؟ على عكسهم، لم يتحمّل الأنبا باخوميوس السكوت على أثر هذه الحادثة، برغم صعوبة الظروف التي كانت تمر بها الكنيسة القبطية وهي مرحلة انتقالية بعد رحيل البابا شنودة وهو يقود الكنيسة في موقعه كقائم مقام، فخرج عن صمته وكشف المستور وعرى المسؤولين كافة، قائلاً: «تلقينا بأسف شديد تكرار حوادث تهجير الأقباط من بيوتهم ومحافظاتهم قسراً تارة وبالتهديد تارة أخرى، إذ بدأت بواقعة التهجير في منطقة العامرية ثم امتدت إلى منطقة دهشور واليوم يتم بألم شديد بث الرعب والتهديد في نفوس أبنائنا الأقباط في رفح لتهجيرهم من مساكنهم. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام نشرت عن هذه التجاوزات منذ أكثر من شهر إلا أن الأجهزة المسؤولة لم تتخذ الإجراءات اللازمة نحو ما نشر ولم يتم توفير الأمن اللازم لهذه الأسر المصرية التي لها الحق أن تعيش في بيوتها آمنة». فبدلاً من تبني خطاب يركز ويثمّن التضامن، نرى حنكة سياسية في تبني خطاب ينتقد التواطؤ الأمني لقضية الأقباط من دون أي تدويل للقضية.
وإذا كان البابا شنودة على قيد الحياة في مثل هذه الأيام، فكلنا نعلم ماذا كان سيفعل، وهو ذات ما فعله عشية الثورة في ٢٠١٠ مع حسني مبارك، تلك الزيارة المحفورة في المخيلة القبطية. فقَبل وقوع الثورة نتذكر أنه كان هناك هجوم على أقباط العمرانية في ديسمبر/ كانون الثاني ٢٠١٠، وأنه تم القبض على 154 من الشباب الذي كان يتظاهر ضد الهجمات التي تعرضت لها كنيستهم وسط حماية من الأمن المركزي. ففي صمته المعتاد، قرر البابا شنودة الثالث أن يذهب إلى دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون لكي يعتكف ويرسل رسالة لمبارك بطريقته الخاصة محتجاً على ممارسة الأمن.
لكن البابا تواضروس ليس البابا شنودة، وأسلوب تعامله مع هذه الأحداث هو السكوت والمراوغات السياسية. فمثلما أصبح السيسي أول رئيس جمهورية، يزور الكاتدرائية منذ محمد نجيب يوم عيد الميلاد، أصبح البابا تواضروس أول بطريرك يزور الأراضي المحتلة كاسراً التقليد الكنسي بمقاطعة الكيان الصهيوني. على الرغم من أن التصور بأن البابا تواضروس يحاول انتزاع أي حقوق للأقباط من خلال تقديمه تنازلات للسيسي، إلا أن ربما هذا الطرح ليس في محله. نتذكر أن في تاريخ الكنيسة هناك موقف مشابه حين كان يرأس الكنيسة القبطية البابا يوساب الثاني. برغم كونه بطريركاً ضعيفاً لم يلتفت لشعبه، لكن هذه ليست الحقيقة الكاملة. فكان لدى البابا يوساب الثاني مساعد له اسمه مِلك (بكسر الميم)، وكان هوالذي ينسق رسومات المطارنة وكل شيء في الكنيسة من دون علم البطرك، حتى بين ليلة وضحاها قرر بعض أعضاء تنظيم «أمة قبطية» المسلح، والذي أسسه إبراهيم فهمي هلال، بخطفه وإجباره على التنحي. قامت الشرطة بمحاصرة المقر البابوي وأعادوا البطريرك للكنيسة، إلا أن المجمع المقدس قام بعزله بعدها. ربما هذا ما يجرى في أروقة الكاتدرائية، لكن حتى الآن لا نعلم من هو «مِلك» هذا العصر ونُذكّر البابا تواضروس، وكل من يعتقد أنه يساعد الأقباط بالتضامن مع ضحايا حادث تهجيرهم من العريش هذا العام، بآية: «وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».
* كاتب مصري