لا شكّ في أنَّ التآمر على فلسطين مستمر منذ نشوء الحركة الصهيونية وتحالفها العضوي مع المملكة البريطانية التي كانت في حينه تقود العالم الرأسمالي الآخذ في الانتقال إلى الطور الإمبرياليّ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وقد تجسّد هذا التحالف في وعد «بلفور» المشؤوم عام 1917، الذي تكامل مع اتفاقية «سايكس ــ بيكو» في تقسيم منطقة المشرق العربي إلى دويلات ضعيفة ومفككة ومتناحرة على أسس مذهبية وقومية وعرقية. في هذا المشهد الإقليمي أتى مشروع إقامة الكيان الصهيوني على حساب فلسطين أرضاً وشعباً، فبدأ سريعاً العمل على ترانسفير يهودي إلى أرض فلسطين مقابل ترانسفير آخر لشعب فلسطين إلى خارجها. واكتملت تلك المؤامرة مع المصائب التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية وما أنتجته من تهجير كثيفٍ ليهود أوروبا إلى أرض فلسطين، لتسلّم بريطانيا بعدها بسنوات أراضي فلسطين للكيان الغاصب المستحدث.
لم تسلم منطقتنا يوماً واحداً طوال 100 عامٍ من الاحتلال والاعتداء والتهجير والقتل والفتنة، إلّا أنّ شعب هذه المنطقة، وفي طليعته الشعب الفلسطيني، لم يستسلم يوماً أيضاً، فظلّ يقاتل من أجل حقوقه برغم جسامة الصعاب وهول المؤامرة التي تكاملت أطرافها بين الدول الإمبريالية وحلف الناتو والحركة الصهيونية والرجعية العربية. ولأنّ شعبنا لم يستسلم، فقد استطاع أن يحفر في صفحات التاريخ 100 عامٍ من المقاومة التي تنوعت أشكالها وتنظيماتها، لكنّها بقيت الخيار الطبيعي والضروري للشعب العربي ضد الاحتلال.
أمّا اليوم، فتعيش منطقتنا واحدةً من أسوأ مراحلها التاريخية، حيث تتعرض كل دولها لسياسات التقسيم والتخريب الممنهج نفسها، ليكتمل هذا المشهد مع حصار طويل على غزة، واستيطان واستباحةٍ أمنيةٍ في الضفة الغربية بالإضافة إلى الأراضي المحتلة على كامل أرض فلسطين، وأكثر من 10 آلاف أسير ومعتقل إداري في سجون العدو. أما اللاجئون الفلسطينيون في مخيّمات الشتات، فهم يفتقدون لأبسط مقومات العيش الإنساني الكريم من عملٍ وسكنٍ وصحةٍ وسط عنصرية متزايدة في هذه الدول، وتتغلغل بينهم اليوم تيارات سياسية ودينية مشبوهة تعمل على جرّ المخيمات إلى الاقتتال الداخلي.
يتجسد الخطر الأساسي في الفترة المقبلة في المخطط الإسرائيلي ــ الأميركي الذي أعيد إحياؤه مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض والقائم على تصفية القضية الفلسطينية وبنحو نهائي ــ كما يزعمون ــ وذلك من خلال ضرب حق العودة الذي يُعَدّ إحدى ركائز المواجهة السياسية مع العدو، والمزيد من الإضعاف والتهميش للسلطة الفلسطينية عبر إحكام السيطرة الأمنية على كل مرافق الحياة في الضفة الغربية وتشكيل فريق سياسي وأمني تابع بالكامل للعدو في قيادة السلطة، وتعزيز الاستيطان وتسريع وتيرته لفرض وقائع ديموغرافية على الأرض، وتكريس القدس عاصمةً للكيان الغاصب من خلال نقل السفارة الأميركية إليها وفرض أمرٍ واقعٍ سياسيٍ فيها. يضاف إلى تلك الأهداف الخبيثة موضوع الفلسطينيين داخل الكيان الغاصب الذي يبحث عن ذرائع ووسائل للتخلص منهم عبر موجات تهجير جديدة كما حصل في الآونة الأخيرة من إزالة كاملة لبلدة القياعة.

إن المدخل الأساسي لتصفية
حق عودة الشعب الفلسطيني يبدأ
في تفجير المخيمات

ولا شك في أنَّ المدخل الأساسي لتصفية حق عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه التي تهجّر منها يبدأ في تفجير المخيمات التي يعيشون فيها وتهجيرهم منها إلى أصقاع الأرض بعيداً عن حدود فلسطين. ولا بدّ من الإشارة إلى ما حصل في مخيم اليرموك في سوريا الذي كان يعيش فيه 160 ألف لاجئ فلسطيني قبل أن تتسلل إليه «داعش» في الأزمة السورية وتهجّر منه أهله مجدداً حيث لم يبقَ فيه اليوم أكثر من ألفي فلسطيني مثلما كان مصير عدة مخيمات في لبنان والأردن مع رابط واضح تتجسد فيه اليد الإسرائيلية والقوى الحليفة لها في كل هذه الأحداث.
أمّا اليوم، فلا يمكن النظر إلى الأحداث الأمنية المتصاعدة في مخيم عين الحلوة في الجنوب إلّا من هذه الزاوية تحديداً. إذ يُعَدّ هذا المخيم أكبر مخيمات لبنان، ومن مخيمات اللجوء الفلسطيني، ما يجعله هدفاً دسماً لكل المتآمرين على القضية الفلسطينية، فينظرون إليه كبؤرة محتملة للانفجار، لذلك يعملون على تغذيتها من أجل زرع الفتنة مع محيطه الجنوبي بخاصة، واللبناني بعامة، وما سيرافق ذلك من موجات كراهية وعنصرية ضد الفلسطينيين على الأغلب الأعمّ، لا ضد تلك الأدوات المخرّبة والمتآمرة والدول والأجهزة التي تقف وراءها، بما يؤدي في النهاية إلى تشتيت أبنائه وتدمير المخيم ومعهما رمزية المخيمات وما تفرضه من واقع موضوعي يبرر المطالبة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.
أمام هذه الصورة القاتمة الملأى بالتآمر على القضية الفلسطينية، لا بدّ من خطة مواجهة على أوسع نطاق من أجل إفشال هذا المشروع والحد من إمكانيات نجاحه في الداخل الفلسطيني وفي الدول المجاورة، وهي مواجهة تتكامل حتماً مع مواجهة المشروع الأميركي التفتيتي في المنطقة العربية كلّها. لذلك طرح الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره الحادي عشر مشروع «المقاومة العربية الشاملة» على الصعد كافة؛ وعلى كافة الساحات وفي طليعتها القضية الفلسطينية. فمقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين تبدأ من خلال تخطي الانقسام الداخلي وبلورة مشروع مشترك بين الفصائل لخوض مواجهة سياسية شاملة ووقف أشكال المفاوضات العبثية ووقف التنازلات والتنسيق الأمني مع العدو من قبل السلطة، وإعادة الوحدة الوطنية بين غزة والضفة والداخل والمخيمات وبين كل الفصائل على اختلافها. وعلى صعيد المواجهة مع العدو، فقد صمدت المقاومة في غزة تحت أقسى الحروب وانتصرت، وقاوم الأسرى القرارات الإدارية بالأمعاء الخاوية، فيما سبق شباب فلسطين وشاباتها قياداتهم، وبادروا بمقاومة شعبية ضد جيش مدججٍ في مشهد بطوليّ يؤكد أنَّ هذا الشعب لن يتخلى يوماً عن حقوقه. إن كل هذه الأشكال من المواجهة هي بحاجة للدعم والتطوير والتكامل بين الميدان والسياسية من أجل الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس وحق العودة لجميع اللاجئين.
أما على مستوى المخيّمات، وتحديداً اليوم في لبنان، فلا بدّ من خطة طارئة لمعالجة الأزمة واعتماد مقاربات سياسية واجتماعية وأمنية شاملة، وعدم حصر الموضوع في جانبه الأمني وحده. وفي هذا الجانب تقع على السلطة اللبنانية مسؤوليات كبيرة، إذ إنّ الأجهزة الأمنية تساهلت كثيراً في انتقال المطلوبين إلى داخل المخيمات، وقدم مسؤولون رفيعون سيّاراتهم لنقل مطلوبين خطيرين، فيما يطلبون من القوى الفلسطينية تسليمهم لهم الآن! أما الخطاب السياسي لأطراف السلطة، فيعمّم الاتهامات ضد كل الفلسطينيين ويتناسون الأدوار السوداء للقوى السياسية اللبنانية في هذا المجال. يرى الحزب الشيوعي اللبناني أن تنفيذ الخطة الأمنية بالتعاون مع القوى الفلسطينية ضروريّ جداً لاعتقال المطلوبين الخطيرين وإراحة جوّ المخيم منهم، وتمكين الفصائل من إدارة أمن المخيم. كذلك يجب أن تترافق هذه الخطة مع حوار سياسي لبناني فلسطيني، تنتج منها قوننة عمل الفلسطينيين في لبنان وإقرار حقوقهم المدنية ذات الصلة في المجلس النيابي.
إنَّ هذه المرحلة خطيرة وحساسة، وعلينا أن نتعاطى معها بحكمة ومسؤولية، لنبدأ على المستوى اللبناني بتحقيق الاستقرار الأمني والاجتماعي لأهل المخيمات وجوارها حيث التداخل السكاني بين اللبنانيين والفلسطينيين واسع، ولنعمل معاً على الصعيد العربي لتفعيل كل آليات المقاومة ضد العدو الصهيوني والمشروع الأميركي والأنظمة الرجعية وضد كل قوى التقسيم والتجزيء، وأن نناضل أيضاً بكافة الوسائل من أجل حقوق الشعب العربي في العدالة والمساواة والكرامة في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا الإطار أتت مبادرة اللقاء اليساري العربي في عقد ندوة عربية ــ دولية في أواخر شهر آذار في تونس دعماً للقضية الفلسطينية لمناسبة مرور 100 عامٍ على وعد بلفور، لنعيد تصويب النقاش والنضال باتجاه القضية الأساسية التي يجب أن تلتف حولها القوى التقدمية والوطنية واليسارية العربية وحول العالم.
* افتتاحية مجلة «النداء»