لا أحد من أقطاب نظام المحاصصة في العراق، مثل السيد نوري المالكي، نائب رئيس الجمهورية وزعيم ائتلاف «دولة القانون»، قادر على تلخيص مأزق نظام الحكم بكلمات واضحة وقليلة. ففي آخر لقاء طويل معه، أجرته قناة حزبه «آفاق» قبل أيام قليلة، لخص المالكي الوضع كالآتي: الحل ليس في إلغاء العملية السياسية وكتابة دستور جديد، لأنهما من وجهة نظر ممثلي الأحزاب السنية «المرض الأساسي»، بل لأن الوضع الراهن لا يحتمل ذلك الحل.
فهذا الحل هو نسف للعملية السياسية من أساسها، وفي هذا الكلام حالة من الطموح غير الممكن تحقيقه في ظل الأوضاع الحالية. لم يقل المالكي، لماذا لا يحتمل الوضع ذلك؟ ولكن الجواب معروف، وهو أن حلاً جذرياً كهذا سيؤدي إلى سقوط دولة المكونات وأحزابها الطائفية والعرقية جميعاً. أما الحل الممكن من وجهة نظر المالكي، فسيكون في تشكيل حكومة أغلبية سياسية بعد الانتخابات المحلية والتشريعية التي ستُجرى في نيسان/ أبريل المقبل. ولكن المتحدث يعترف بأن (هناك في الدستور ما ينبغي تصحيحه ويوجد في العملية السياسية ما ينبغي تصحيحه). باختصار شديد، فالمالكي ومن يؤيدونه، يريدون في الواقع ترقيع نظام الحكم الذي سمي بعد الاحتلال «العملية السياسية» الميتة أصلاً، بدلاً من دفنها، أو حتى من دفنها على مراحل، وإطلاق عملية سياسية وطنية وديموقراطية بديلة.
وعطفاً على ما سبق، فالمالكي قال في حديثه إن ورقة التسوية الشيعية التي أطلقها السيد عمار الحكيم زعيم التحالف الوطني «الشيعي» وورقة التسوية الجوابية السنية قد تساقطتا في تقديري، ويجب أن تكون هناك مراجعة للورقتين من الطرفين.
يضيف المالكي بما يذكرنا بالمثل السائر «يكاد المريب يقول خذوني»، فيقول: «ما نريده ليس أغلبية سياسية طائفية ينفرد بها الشيعة في الحكم ويقصون الآخرين، أو أغلبية قومية ينفرد بها العرب ويبعدون الآخرين، بل نريد أغلبية سياسية قائمة على الانتماء الوطني وضرورة إشراك جميع المكونات السياسية في العملية السياسية». المالكي يقفز هنا على واقع حال راسخ، لا يسمح بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، بل هو يريد عملياً أغلبية سياسية طائفية يشارك فيها ممثلو جميع المكونات، ولكن على الضيق، أي أجزاء من جميع زاعمي تمثيل المكونات الطائفية والعرقية بقيادة قسم من زاعمي تمثيل المكون الطائفي الأكبر، الشيعي، وها نحن مجدداً أمام مضمون بيت الشعر القائل: «كأننا والماءُ من حولنا .... قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ».
إن طريق المالكي إلى حكومة يسميها حكومة «أغلبية سياسية وطنية»، لا يمكن أن يكون سالكاً وممكناً وذا جدوى ما لم توجد أحزاب سياسية وطنية غير طائفية، يحكم نشاطها قانون أحزاب ديموقراطي. قانونٌ يحرّم نشاط الأحزاب والشخصيات والرموز والمرجعيات الطائفية الدينية الصريحة وأذرعها المسلحة، تكويناً وبرامج ومرجعيات، ويسمح بنشاط الأحزاب الديموقراطية ذات الخلفية الثقافية الإسلامية التي تعترف بحياد واستقلالية الدولة المعنوي والثقافي والديني، وبوجود دستور يؤسس لدولة المواطنة لا دولة المكونات. وما دام قانون الأحزاب والدستور النافذان قائمين على أساس الطائفية والمكونات ذات الهويات المجتمعية الفرعية، فلا يمكن أن تكون هناك أغلبية سياسية وطنية حاكمة. مثلما لن تكون هناك أقلية معارضة سياسية وطنية، بل سنكون أمام معسكرين أو تحالفين طائفيين تمخض عنهما انشطار نظام الأغلبية والأقلية الطائفية القائم اليوم.

يريد المالكي الإبقاء على نظام المحاصصة، ولكن مع تغيير قناع النظام

لنأخذ مثالاً عملياً متخيلاً، ولنتصور أن المالكي وحلفاءه في التحالف الشيعي فازوا بأغلبية المقاعد في البرلمان في الانتخابات المقبلة، وهذا متوقع وممكن جداً، بما أنَّ «الحمام هو الحمام والطاس هو الطاس» كما يقول العراقيون في مثلهم السائر، وفازت أحزاب المكونات الأخرى بمقاعدها المتوقعة. ثم، لنتصور أنَّ المالكي وتحالفه الشيعي أو قسم منه دخل في أغلبية سياسية مع حزب السيد الطالباني وحركة التغيير وقسم من أحزاب العرب السنّة (والمالكي يعمل على هذه الاستراتيجية منذ عدة أشهر، ولكن يبدو أنَّ عودة حزب الطالباني إلى تحالفه التقليدي مع حزب البارزاني قبل أيام فتح ثغرة في خطط المالكي وبرامجه)، ولنتصور أنهم ضمنوا أغلبية مريحة وشكلوا حكومة، وبالمقابل سيشكل حزب البارزاني والأحزاب الشيعية التي خرجت من التحالف الوطني «الشيعي» وفي مقدمتها التيار الصدري بالإضافة إلى الأحزاب السنية التي لم تتحالف مع المالكي معارضة سياسية داخل البرلمان، فهل هذه الحكومة ومعارضتها هما حكومة ومعارضة سياسيتان وطنيتان أم أنهما طائفيتان جوهراً ومضموناً؟
في واقع الأمر، وبما أنَّ الدستور باقٍ كما هو، والأحزاب الطائفية الدينية الكبيرة هي نفسها، فنحن سنكون حتماً أمام حكومة أغلبية طائفية تمثل أجزاءً من ممثلي كل المكونات الطائفية والعرقية. تقابلها على المقلب الآخر معارضة من ذات النوع. وبما أنَّ أحداً لا يستطيب أو يستحسن الوجود بعيداً عن الحكم ومغانمه والانتقال إلى المعارضة، فإن الصراع سيشتد، وسيكون أعنف مما مضى. وقد يتحول إلى اقتتال طائفي عنيف وصريح. حينها سيدخل العراق في طور دموي أكثر تدميراً، و مرحلة عدم استقرار قد تطول كثيراً.
كل هذا يعني أنَّ المالكي يدرك جيداً أنَّ حكم البلاد بطريقة «حكومات الشراكة» التي يُسهم فيها جميع زاعمي تمثيل الطوائف قد انتهى. ولذلك، فهو يكرر معزوفة «حكومة الأغلبية» مع اقتراب أو انتهاء كل حفلة انتخابية، لأنه يدرك جيداً أن لا مستقبل لهذا النظام بطريقة حكومات الشراكة. ما الحل إذن؟ إنه حكومة أغلبية طائفية، أي حكومة محاصصة على الضيّق. فالمالكي أو سواه من أقطاب الحكم لا يجرؤ على الاقتراب من الحل الوطني الديموقراطي القائم على إنهاء المحاصصة الطائفية وإعادة كتابة الدستور. أي إنها مجرد محاولة ــ بلغة الأمثال العراقية الشعبية ــ لتقديم حلاوة قديمة بقِدْرٍ جديد، ولكنه «مزروف» (مثقوب)!
لنواصل عرضنا للسيناريو المتخيل، الذي سيحدث وفق ما يراه المالكي: فبما أنَّ الفرق في المقاعد بين الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة بعد الانتخابات المقبلة سيكون صغيراً، وقد لا يزيد على عشرين أو ثلاثين مقعداً، فإن أي خلاف مع أي حزب من أحزاب الأغلبية يؤدي إلى انتقاله إلى المعارضة، فتسقط الحكومة بسقوط الأغلبية وسحب الثقة من قبل المعارضة التي أصبحت أغلبية.
بكلمات أوضح: إنَّ مشكلة المالكي، التي كرر الشكوى منها في خلال عهدتيه الرئاسيتين، ألا وهي فقدانه قدرة التقرير وإدارة الحكومة بفعل قيود واشتراطات جميع المشاركين المتنافسين فيها، هذه الشكوى ستكون أعنف وأقوى، فبدلاً من سطوة الأحزاب المتشاركة عليه، سيكون هذه المرة تحت سطوة أي حزب صغير قادر على سحب الثقة من حكومته والانتقال إلى المعارضة!
ولكن ماذا يريد المالكي فعلاً؟ إنه يريد الإبقاء على نظام المحاصصة ودولة المكونات ودستورها، ولكن مع تغيير برقع أو قناع النظام المسمى الآن «حكومة الشراكة الوطنية» التي تعني عملياً مشاركة جميع الأحزاب الطائفية في السلطة ومغانمها ببرقع جديد قادم هو «حكومة الشراكة الجزئية»، والخاصة بعدد منتقى ومتحالف من تلك الأحزاب الممثلة لأجزاء من مكوناتها.
فهل يشكل البرقع الجديد لنظام المحاصصة حلاً، أو جزءاً من الحل، أو طريقاً أقصر إلى الحل؟ هذه الأسئلة ستبقى مفتوحه على مرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة، ولكن الثابت عندي، وهذه وجهة نظر شخصية طبعاً، هو الآتي: لا يمكن أن يقوم نظام ديموقراطي على أيدي لا ديموقراطيين، أسسوا نظام المحاصصة الطائفية وحموه بالتعاون مع واشنطن وطهران ودافعوا عنه ولا يزالون.
ولكن، ولوجه التساؤل والاستشراف لا غير، ألا يوجد مخرج آخر من هذه الأزمة الشاملة التي تأخذ بخناق النظام من داخل النظام نفسه؟ هل يمكن أن نتصور سيناريو آخر يمكن أن تقدم عليه النخبة الحاكمة فتقوم بموجبه بتعديل دستوري تدريجي وتضع قانون أحزاب جديداً بالمواصفات العالمية الأكثر انتشاراً والملائمة لطبيعة المجتمع العراقي التعددي المتنوع طائفياً وقومياً يقوم على التمييز بين الأحزاب الدينية الطائفية فيحظرها والأحزاب الديموقراطية ذات الخلفيات الثقافية والأخلاقية الدينية العامة على شاكلة الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا أو الأحزاب القريبة منها في تركيا والمغرب وتونس؟ ثمة حشد من العوامل والظروف التي تجعل من هذا السيناريو مستحيلاً، منها ما يتعلق بتبعية النظام لواشنطن وطهران، ومنها ما يتعلق بغياب البديل الوطني الديموقراطي العراقي على أرض الميدان، ونمو وترسّخ شبكة هائلة من المنتفعين داخل أحزاب النظام المختلفة، الذين سيتوحدون يقيناً أمام أي محاولة جدية تهدد مصالحهم، غير أن تصاعد حدة الأزمة السياسية وتحولها مستقبلاً إلى أزمة مجتمعية شاملة مرفوقة بانزياح التضليل والدجل الطائفي الذي تضخه الأحزاب الإسلامية عبر عشرات القنوات الفضائية ووسائل الإعلام والبروباغندا الحزبية الأخرى، ومع تقدم بناء ونمو البديل الوطني الديموقراطي، وانكفاء التضليل الليبرالي واليساري البريمري (نسبة إلى بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في خلال سنوات الاحتلال المباشر) على أرض الواقع ستجعل التفكير بسيناريوهات أكثر تفاؤلاً وواقعية وارداً وممكناً.
* كاتب عراقي