جاء مؤتمر طهران الذي اتخذ اسم مؤتمر دعم الانتفاضة في الوقت الذي تشهد فيه مكانة القضية الفلسطينية تراجعاً كبيراً على المستويات كافة بما في ذلك المستوى الفلسطيني نفسه ليؤكد أن القضية الفلسطينية ما زالت على رأس أولويات الأمة، وأن تهميشها غير وارد ما دام هناك رجال عرب مسلمون ومسيحيون ونساء عربيات ماجدات يحملنها في الصدور والقلوب والوجدان.
على مدى يومين شهدت طهران نشاطاً واسعاً في حمل القضية الفلسطينية، وتبنّيها لتبقى الاهتمام الأكبر لأبناء الأمة، وأكدت كل الكلمات التي ألقيت في المؤتمر على مركزية القضية الفلسطينية والاستعداد الذي لا يفتر لتقديم الغالي والرخيص من أجل تحرير فلسطين. كان المؤتمر شعلة قوية الإضاءة في مواجهة المخاطر التي تحيط بالقضية الفلسطينية وشعب فلسطين.
ضم المؤتمر حوالى خمسمئة شخصية عربية وإسلامية من حوالى ثمانين دولة، وفي هذا المشهد ما يؤكد على وحدة الأمة على الرغم من الصراعات الدموية التي تدور على رحاها. لقد اجتمع تحت قبة واحدة المسلم والمسيحي والشيعي والسني والعربي وغير العربي والمتحزب من أهل اليسار ومن أهل الأديان، والمحافظ والمتحرر. وهذا يؤشر إلى أن الأمة تتوحد عندما يكون الهم مشتركاً وتتمزق عندما تضيع البوصلة في لجج المصالح الذاتية. ورسالة ضمنية حملها المؤتمر مفادها أن فلسطين هي الهم الأول الذي يؤرق العرب والمسلمين وأحرار العالم، وهي العنصر الذي تجتمع الأمة حوله، ولا مفر من اعتماده كاهتمام أول لسياسات دول المنطقة إذا أرادت أن توقف حروبها الداخلية والبينية المدمرة. كان المنظر في المؤتمر جميلاً ونحن نرى مختلف الأطياف تلتقي وتجد أمراً واحداً يجمع تصفيق الأيادي.

رسالة الجمهورية الإسلامية

افتتح المؤتمر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، ووضع أمام المؤتمرين نقطتين مهمتين وهما: التأكيد على وحدة المنطقة بغض النظر عن تعدّد الأطياف الاجتماعية والدينية والطائفية، والتأكيد على دعم إيران لكل من يقاوم الكيان الصهيوني. تثني النقطة الأولى على الدعوات المستمرة التي تطلقها طهران نحو توافق دول المنطقة وأنظمتها السياسية لكي ترتقي درجة التعاون فيما بينها ما يؤدي إلى منافع وفوائد تعم الجميع. دأبت إيران على دعوة دول المنطقة بخاصة دول الخليج والسعودية بالذات إلى اللقاء والتحاور والتفاهم، وإلى البحث معاً في أمن المنطقة العربية الإسلامية. إيران لا ترى في أميركا والدول الأوروبية عموماً جهة موثوقاً بها للحفاظ على أمن المنطقة وأمن النفط، وإنما ترى أن أمن المنطقة شأن محلي لأهالي المنطقة، ودول المنطقة قادرة على توفير الحماية لشعوبها وحدودها. وهي ترى أن الدول الغربية ليست معنية بحماية أهالي المنطقة وإنما معنية بالسيطرة والهيمنة من أجل إبقاء الثروات النفطية تحت إبطها. وهي تقول إن النفط ليس موجوداً في أرضنا لكي نخفيه، وإنما لكي نبيعه ونستفيد من مدخولاته في تحقيق التقدم والازدهار وإخراج الناس من دوائر الفقر والجهل والمرض، وتقديم المساعدات الممكنة للآخرين.
أما النقطة الثانية فتشكل قفزة نوعية في التعامل مع فصائل المقاومة. لقد وضع المرشد الأعلى مبدأً حيوياً وهو أن إيران ستدعم كل من يقاوم الكيان الصهيوني بغض النظر عن طيفه السياسي أو الديني. وهذا المبدأ سيشكل مخرجاً هاماً لفصائل المقاومة الفلسطينية وغير الفلسطينية اليسارية مثل الجبهتين الشعبية والديموقراطية. لقد عانت الجبهتان كثيراً بسبب ندرة الأموال لديهما، ولم تكونا تجدان دعماً مالياً يجعلهما قادرتين على تفعيل مقاومة فعالة في مواجهة الصهاينة. وكانت تضطران في أحيان كثيرة للبحث عن مال لدى أعداء المقاومة. وهذا أثر على نشاطهما داخل فلسطين إذ اعتمدتا في بعض الوقت على أموال تخصصها السلطة الفلسطينية لهما. وحيث أن السلطة تقف ضد المقاومة المسلحة كان عليهما الامتثال والمشاركة في كثير من النشاطات الأوسلوية.
وبصورة عامة ستشهد المرحلة المقبلة دعماً إيرانياً متزايداً للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، خصوصاً أن الجزء الأكبر من العقوبات ضدها قد رفع، وتحسن دخلها وإمكاناتها لتقديم مزيد من المال والسلاح والمعرفة العلمية والتقنية.

بنود البيان الختامي للمؤتمر

من المهم أن نحمل في مؤخرة رؤوسنا أن مؤتمر طهران هو مؤتمر شخصيات وليس مؤتمر دول. أي هو مؤتمر مؤثرين في الرأي العام العربي والإسلامي، لكنه ليس مؤتمر أصحاب قرارات وراسمي سياسات. المدعوون يشملون نواباً في برلمانات، وإعلاميين ومفكرين ومثقفين وأصحاب رأي، وبمقدورهم الترويج للقضية الفلسطينية واستقطاب التأييد، لكنهم ليسوا هم الذين يملكون المؤسسات ويصنعون القرارات في بلدانهم.

ستشهد المنطقة بعد المؤتمر تغولاً جديداً في الحملات الإعلامية والسياسية على إيران
ولهذا جاء البيان الختامي متناسباً مع الحضور. فقد شمل البيان بعض عبارات الشجب والاستنكار والتي لا تحتاج اليها القضية الفلسطينية، لكن الأهم أن بعض البنود ركزت على ضرورة دعم الفلسطينيين والقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية بكل ما هو ممكن. وهذا أمر مختلف عما يجري في العديد من الساحات العربية حيث تختفي الأصوات التي تنادي بالمقاومة تدريجياً. قادة دول وحكام لا يجرؤون الآن على التعبير عن دعم المقاومة أو تأييدها، أو الدعوة إلى توجيه السلاح نحو الكيان الصهيوني. يبدو أن الرئيس ميشال عون هو الرئيس الوحيد من بين الرؤساء والملوك العرب الذي ينتمي لقضايا هذه الأمة.
قيمة المؤتمر ليس في بيانه الختامي وإنما في اللقاء بحد ذاته وما استحوذه من تغطية إعلامية بخاصة من قبل قناة «الميادين». لقد نقل الإعلام للشباب والشابات العرب صورة جديدة مغايرة للصورة التي تنقلها العديد من القنوات العربية. لقد خاطب المؤتمرون الوجدان والانتماء والالتزام، ولم يخاطبوا الشهوات والاستهتار والابتذال. وهذا ما سينقله الحاضرون للناس في دولهم من خلال لقاءاتهم التلفازية ومقالاتهم ومحاضراتهم والندوات التي يمكن أن يشاركوا فيها.
لم يكن المؤتمر مريحاً للعديد من الدول العربية والغربية والكيان الصهيوني. بالنسبة الى الصهاينة، كان المؤتمر تحريضياً ضدهم وضد تقارب أنظمة عربية معهم. المؤتمر وقف ضد التطبيع، وضد إقامة علاقات معهم، وكان الحديث موجهاً للحكام العرب الذين يتهالكون على إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني. وكان موجهاً ولو بصورة ضمنية غير مباشرة للسلطة الفلسطينية التي قال عنها رمضان شلح إنها ليست للفلسطينيين، وهي تقوم بدور مهم في حماية الأمن الصهيوني.
الصهاينة يعملون بجهد متواصل على طمس القضية الفلسطينية، وعلى إقامة تعاون بينهم وبين دول عربية، بل إقامة تحالف في مواجهة إيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ولا يرغبون في رؤية لقاءات هامة تنغص عليهم محاولاتهم وغطرستهم، وتفضح الحكام العرب. ولهذا ستشهد ساحة المنطقة تغولا جديدا في الحملات الإعلامية والسياسية على إيران، وسيعمل بعض العرب والصهاينة على تحريض الإدارة الأميركية على إيران لتكريس تصنيفها كأكبر دولة حاضنة للإرهاب، وتحريضها أيضاً ضد الاتفاق النووي على أمل أن تعالج أميركا الأمر بعد ذلك عسكرياً فتدمر المنشآت النووية الإيرانية التي ما زالت قائمة. أي أن المؤتمر سيولد تصرفات رعناء جديدة ضد إيران من قبل التحالف العربي الصهيوني بقدر ما يقدم دفعة للقضية الفلسطينية على الساحات في مختلف أنحاء العالم. وليكن الله في عون المقاومين الذين آثروا عزة أمتهم على مصالحهم.
* كاتب فلسطيني