حتى بعدما أصبحت الأمازيغية لغة رسمية ووطنية في دستور 2016 المعدل، وإجماع الطبقة السياسية الجزائرية على اعتبار الأمازيغية مكوناً من مكونات الهوية الوطنية إلى جانب العربية والإسلام، فإن «قضية الهوية الأمازيغية» التي غالباً ما تُوظف كسلاح إيديولوجي تعبوي، لا تزال في حيز التداول السياسي والفكري، وتستدعي معرفة ولو مبسطة بالسياق التاريخي الذي ظهرت فيه.
تشكُّل «السردية الأمازيغية» ضمن السياق الكولونيالي

تشكّل التركيبة الاجتماعية الجزائرية من مكونين مختلفين: العرب والأمازيغ، لم يؤدِّ، منذ الفتح الاسلامي، إلى حروب ذات طابع إثني بين عرق عربي مهيمن وأمازيغي مُضطهد (كما تروج سردية المظلومية الأمازيغية) فبسبب التداخل الذي حصل بين المكونين (برغم حفاظ كليهما على مميزاته اللغوية والثقافية) بالإضافة إلى التكوين القبلي المتعدد داخل المكون العربي (سواء عرب الفتح أو عرب ما بعد ما يسمى الهجرة الهلالية) والأمازيغي (قبائل زناتة، صنهاجة، كتامة... إلخ)، فإن عوامل التمايز والتنافر تراجعت بين المكونين أمام العوامل الاقتصادية والسياسية التي خلقت علاقات تتطلبها ظروف تحالف العصبيات (وفق التعبير الخلدوني) لتأسيس الدول، كظروف قيام الدولة الرستمية مثلاً على عصبية قبيلة «زناتة»، أوالفاطمية اعتماداً على قبيلة «كتامة»... إلخ، أي أن الحروب لم تأخذ يوماً، شكل الصراع بين المكونين عرب وأمازيغ بقدر ما جعلت المصالح الاقتصادية والسياسية من قبائل عربية وأمازيغية في موقع المتحالف ضد قبائل عربية وأمازيغية أخرى.
بعد سقوط الجزائر في يد الاستعمار سنة 1830، بدأ مسار تشكل السردية الأمازيغية التي ستتبناها التيارات الهوياتية الأمازيغية في ما بعد (القرن العشرين)، والتي يُرسخ مضمونها التميز الثقافي واللغوي للأمازيغ في الجزائر من جهة، و«مظلوميتهم التاريخية»، التي تتطلب منهم تعبئة كل عوامل التميز للتحرر منها، من جهة أخرى، فهي نتاج مباشر «للمجهودات البحثية العلمية» لضباط الجيش الفرنسي والمستكشفين ورجال الدين (دوما، بيجو، جورج فوازان... إلخ)، والتي انكبّت، لأغراض استعمارية بحتة، على دراسة المجتمع الجزائري لغوياً فتم نشر قاموس للأمازيغية المنتشرة في وسط الجزائر سنة 1880 كان قد كتبه قبل ذلك جان ميشال دي بارادي، وقاموس «للشاوية» المنطوق بها في منطقة «الاوراس» كتبه إميل ماسكري وآخر لـ«تامشقت» لغة الطوارق في أقصى جنوب البلاد ألفه الضابط «انوتو»)، وتأسيس المدرسة العليا للآداب سنة 1879 وإدراج تدريس الأمازيغية، وتضمين مقرراتها بأول كتاب مدرسي للأمازيغية سنة 1887، وجهود بذلها لغويان فرنسيان هما هنري باسي وريني باسي في سبيل تقعيد الأمازيغية، وقبلياً بأن تم نشر عشرات الدراسات والبحوث الانتروبولوجية التي عمدت للتأسيس لسرديات هوياتية جزئية بإظهار التمايزات الثقافية والقبلية داخل الإطار الأمازيغي نفسه (القبائل الزناتية والزواوية والتارقية والمزابية... الخ)، في اتجاه لتحويلها لعوامل تقسيم وصراع، وتاريخياً بأن كتبت تاريخ الجزائر على أساس نظرية: تكون المجتمع الجزائري من عنصر عربي بدوي مهيمن مقابل عنصر أمازيغي متخلف ومضطهد لكن لديه القابلية للتفاعل بإيجابية مع «المهمة التحضيرية للاستعمار»، وإن كانت تلك الجهود قد فشلت في احتواء منطقة «القبائل الأمازيغية» بعزلها وتنصيرها، فقد ظلت تقاوم مشاريع السيطرة الاستعمارية تحت ظل الطرق الصوفية الرحمانية والقادرية من الأمير عبد القادر وصولاً إلى المقراني ولآلة فاطمة نسومر، فلقد نجحت في التأسيس لسردية الهوية الامازيغية التي لم تحتج إلا إلى رافد أيديولوجي يحملها.


«الأزمة البربرية».. والجزائر جزائرية

بعد استنفاد المقاومات الشعبية التي قادتها الزوايا الصوفية في القرن 19 (إلى بداية القرن العشرين) لكل وسائلها العنفية وتآكل بناها الثقافية والاجتماعية التقليدية تحت ضربات الاستعمار، بدأ وعي اجتماعي جديد (في أحضان اليسار الفرنسي) في التبلور في أوساط العمال المهاجرين الجزائرين، (وكان أغلبهم من منطقة القبائل الأمازيغية) في المتروبول، سرعان ما تحول على يد مصالي الحاج إلى وعي وطني ثوري، وضمن تراكم تاريخي من النضال (من تأسيس «نجم شمال إفريقيا» إلى «حزب الشعب» وصولاً إلى الثورة الجزائرية) تبلورت الوطنية الجزائرية الحديثة، التي ورغم القطيعة مع الحزب الشيوعي الفرنسي/الجزائري، والتي فوتت على التاريخ الجزائري الحديث فرصة تشكيل حركة تحرر وطني واجتماعي حقيقية، إلا أنها حافظت على مضمونها الاجتماعي التقدمي وعلى وعيها لأساسيات الصراع مع الرأسمالية والامبريالية، وإيمانها بالانتماء لفضاء حضاري عربي/إسلامي يبدأ من المغرب، وعلى هذا الأساس بدأ تعاطيها المبكر (الثلاثينيات) مع قضية فلسطين والعداء للاستعمار الإنجليزي والصهيونية، فاعتبر مصالي الحاج في العشرينيات والثلاثينيات (في موقف راديكالي من الاستعمار لم يكن بالنسبة إلى كل القوى السياسية الجزائرية في ذلك الوقت سوى ضرب من الخيال) الأمة الجزائرية مكتملة التكوين وتستحق الاستقلال التام، متحدياً نظرية موريس توريز القيادي الشيوعي المعروف: «الأمة الجزائرية في طور التكون فهي تتكون من أفراد منحدرين من قوميات مختلفة (بربر، عرب، أتراك، يهود، أوروبيون) وكلهم ينتمون في الأصل الى إلجمهورية الفرنسية التي لا تتجزأ»، وكانت هذه «النظرية» في حقيقة الأمر هي المضمون الفعلي لما أصبح يعرف بشعار «الجزائر جزائرية»، وفي سنة 1949 وبمناسبة إرسال «حزب الشعب» الجزائري بقيادة مصالي تقريراً للأمم المتحدة يطالب باستقلال الجزائر التي أشار أنها موجودة ككيان منذ القرن 7 ميلادي تاريخ الفتح الإسلامي. احتج بعض الشباب الامازيغي (ينحدر كلهم من منطقة القبائل) على ما اعتبروه نفياً لتاريخ الأمازيغ قبل قدوم العرب إلى المغرب وتبنوا طرح «الجزائر جزائرية»، فاندلعت أزمة داخل الحزب الاستقلالي تُسمى اصطلاحاً في تاريخ الجزائر بـ«الأزمة البربرية» والتي انتهت بفصل هؤلاء الشباب من الحزب، التحق أبرزهم وهو الصادق هجرس في الحزب الشيوعي الجزائري ليصبح زعيماً له بعد ذلك (يعيش حالياً في فرنسا)، أثناء حرب التحرير 1954 ــ 1962 صُفي الكثير بقرار من قيادة الثورة آنذاك (وبالذات كريم بلقاسم وعبان رمضان المنحدران أيضاً من منطقة القبائل).
انتقد بعض المؤرخين تصرف مصالي الحاج واعتبروه نتاجاً لتأثره بالطرح القومي العربي لشكيب إرسلان، وقارنوه بالموقف «الإيجابي» للقوى السياسية الأخرى من «الهوية الأمازيغية» كالحزب الشيوعي والليبراليين بل وحتى جمعية العلماء المسلمين، وبعيدا عن رفض أي طرح عروبي شوفيني لا عقلاني ينفي الوجود الأمازيغي في الجزائر والمغرب ككل قبل الفتح الإسلامي، فإن سياق اتخاذ أبي الوطنية الجزائرية الحديثة لقرار فصلهم من الحزب كان قراراً مرتبطاً أساساً بظرف موضوعي لحزب ثوري يوحد الجهود ويعبئ الشعب من أجل إسقاط النظام الكولونيالي ضمن هوية وطنية جامعة ومميزة، فكيف يستطيع تقبل فكرة «الجزائر جزائرية» التي تعني عزلها عن محيطها المغربي والعربي والإسلامي خصوصاً إذا ما عرفنا أن بعض هؤلاء المفصولين (المقيمون في فرنسا خصوصاً علي يحي رشيد وليسوا كلهم للأمانة) أبدوا رفضهم لكل ارتباط بالعرب بل واحتجوا على موقف قيادة الحزب من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين (وهم الذين يُفترض أنهم يناضلون ضد استعمار استيطاني من نفس الشاكلة)، وقد واصلت الثورة الجزائرية تشددها في كل ما تعلق بالوحدة الوطنية، وظلت منطقتي «القبائل» و«الأوراس» الأمازيغيتين من أكبر معاقل جيش التحرير كما كانتا سابقاً معقلاً للحركة الوطنية الثورية.

«الجزائر جزائرية» تعني عزل الجزائر عن محيطها بل واستعدائه

«الجزائر جزائرية» إذاً لا تعني شيئاً، في كل سياقاتها، غير عزل الجزائر عن محيطها الحضاري: العثماني الذي منع عنها مصيراً مشابهاً لدول أميركا اللاتينية أمام الهجمة الإسبانية في القرن 16 أو: المصري الناصري الذي كان له الدور الحاسم في دعم الثورة والوصول إلى الاستقلال الذي لم يكن سهل المنال، ناهيك عن المغربي (تونس والمغرب وليبيا) الذي كان قاعدة خلفية للثورة، وهي أيضاً الإطار الذي اختبأت خلفه مشاريع القبول بهيمنة مليون مستوطن أبيض على ملايين الجزائريين، وليس غريباً أن يستعمل الجنرال شارل ديغول ذات المصطلح في مشروعه «الإصلاحي» لاحتواء الثورة سنة 1960، إعادة استحضار هذا الشعار اليوم في الجزائر لعزلها عن محيطها، بل واستعدائه هو نسخة مغربية عن شعارات تبنّتها قوى انعزالية في المشرق أيضا كـ«لبنان أولاً» والذي يعني عزله عن محيطه العربي واستعداء سوريا أو«مصر أولاً» الذي يسوغ خروجها من الصراع مع إسرائيل فور استرجاعها لأراضيها. فالمآلات التي يوصل إليها يجعلنا نجزم أنه التجسيد الفعلي لشعار «إسرائيل أولاً» أو «الرضوخ للهيمنة الإمبريالية أولاً»... إلخ (تشترك كل هذه القوى الانعزالية في «ضرورة» التحالف مع إسرائيل وتيار فرحات مهني الانفصالي في الجزائر أقرب ما يكون في خطابه لنموذج «القوات اللبنانية» في لبنان في الثمانينيات).
تعاملت الدولة الجزائرية خصوصاً بعد تولي عبد العزيز بوتفليقة (الذي لا ينكر أصوله الأمازيغية) الحكم، بطريقة واعية مع الأمازيغية كمكون أصيل ومتداخل مع العربية، بجعلها لغة وطنية ثم رسمية ولكن أيضاً، وهنا بيت القصيد، باستحضار خطاب الوطنية الجزائرية في تكوينها الأول، والتي لا يمكن لها إلا أن تكون ديموقراطية ــ اجتماعية ومعادية لمشاريع التقسيم الاستعمارية ومقاومة للهيمنة الإمبريالية في مضمونها وهذا يعني تحصينا للدولة وسداً للثغرات التي تنفذ منها الحركات الهوياتية الانعزالية بمختلف أنواعها والتي تتقاطع حتماً مع المشاريع الاستعمارية، ليس أمامنا، في دول المغرب والمشرق، إلا أن نعرف أحجامنا الحقيقية في عالم الأقوياء الذي نعيش فيه، وأن نعي طبيعة الصراعات ضمنه، يومذاك فقط ندرك بوعي إلى أي مصير يمكن أن يأخذنا إليه شعار «الجزائر جزائرية».

*كاتب جزائري