شكلت نتائج الانتخابات النيابية التركية الأخيرة صدمة كبيرة لحزب العدالة والتنمية، ولحلفائه من الاخوان المسلمين وقوى الارهاب التكفيري، الذين يعتمدون في تنفيذ مشروعهم على الدعم الذي قدمه لهم هذا الحزب على مر السنوات السابقة، أثناء تفرده بحكم تركيا من دون منازع.لقد أدت خسارة حزب العدالة لأكثر من تسع نقاط، بالقياس لنتائج الانتخابات السابقة، ليس فقط الى توجيه ضربة قاصمة لمشروع الرئيس رجب طيب اردوغان، الذي كان يراهن على حصد نسبة الثلثين لتعديل الدستور وتحويل النظام البرلماني الى نظام رئاسي يمكنه من ممارسة السلطة الكاملة، بل وأيضاً الى فقدانه الغالبية المطلقة التي كان يحوز عليها في السنين السابقة وتخوله تشكيل الحكومات من دون الحاجة الى الائتلاف مع أي حزب آخر من احزاب المعارضة.
فقد حاز حزب العدالة 257 مقعداً بما نسبته 40,64 في المئة فيما كان قد حصل في انتخابات 2011 على 327 مقعداً بما نسبته 49 في المئة.

وهذا التراجع الكبير في شعبية حزب العدالة تمثل بخسارته 70 مقعداً نيابيا توزعت على حزبي الحركة القومية الذي فاز بـ 82 مقعداً، بزيادة عن 2011 بلغت 32 مقعداً، وحزب الشعوب الديمقراطية الكردي الذي حصد 80 مقعداً بما نسبته 13 في المئة، فيما كان الاكراد يتمثلون كمستقلين في انتخابات 2011 بـ 32 مقعداً وهذا يعني أن حصتهم زادت 48 مقعداً.
تركيا دخلت في
مرحلة جديدة تتسم بإنهاء حقبة السيطرة الأحادية على الحكم

وبالتدقيق في هذه النتائج يتبين أن حزب العدالة خسر أكثر من ثلاثة ملايين صوت كانوا يؤيدنه، قسم منهم من الاكراد، وهذا يشكل دلالة مهمة لأنه لأول مرة منذ عام 2002 يفقد حزب العدالة هذه النسبة من قاعدته المباشرة التي يرتكز اليها، وقام بتعبئة مذهبية كي يحتفظ بها لضمان تربعه على عرش السلطة منفرداً. ما يعني أنه الى جانب خسارته، اصوات العلويين والاكراد والارمن، خسر جزءاً من اصوات قواعده الاعتيادية، الأمر الذي أخل بالتوازنات الانتخابية وجعله يفقد الاستئثار بالحكم.
لكن الاسئلة التي تطرح انطلاقاً من هذه النتائج هي:
ــ ما هي العوامل التي أدت الى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، وخسارة رهانه على تحقيق فوز كاسح، وفقدانه الاكثرية المطلقة؟
ــ وما هو الأثر الذي ستتركه على السياسة التركية الداخلية والخارجية؟
ـ وهل تتشكل حكومة ائتلافية، أم تذهب تركيا بعد ثلاثة اشهر الى انتخابات جديدة مبكرة للخروج من أزمة عدم الاتفاق على تشكيل حكومة بين حزب العدالة والاحزاب المعارضة له؟

أولاً: خمسة عوامل وراء الزلزال

لا يمكن تفسير هذه الخسارة لأردوغان وحزبه بمعزل عن قراءة السياسة التي انتهجها حزب العدالة داخلياً وخارجياً، في أعقاب تفجر ما سمي بالربيع العربي والازمة السورية وشن الحرب الارهابية التكفيرية ضدها، والتي اسهم إسهاماً أساسياً في الوقوف وراءها وتسعير نارها، بهدف اسقاط الدولة الوطنية السورية، واقامة نظام اخواني موال له. غير أن هذه السياسة، وصمود سورية وفشل الرهان على اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد، كان لهما نتائج وتداعيات سلبية على الداخل التركي يمكن اجمالها بخمسة عوامل، هي التي تفسر تراجع شعبية حزب العدالة، وهذه العوامل هي:
1ـ العامل الاقتصادي: لقد أدت سياسة اردوغان في التدخل في شؤون الدول العربية، ولا سيما في سورية ومصر بهدف دعم وصول الاخوان المسلمين الى السلطة واستعادة أمجاد العثمانية الغابرة، الى توتير العلاقات مع الدول العربية والاجهاز على سياسة صفر مشاكل، التي ادت الى تحسين العلاقات مع هذه الدول، والى انعاش الاقتصاد التركي وتحقيق معدلات نمو مرتفعة بلغت 9 في المئة، واحتلال تركيا المرتبة الـ 17 في الترتيب العالمي.
ونتيجة هذه السياسة انقلب الوضع الاقتصادي رأساً على عقب، حيث سجلت الارقام الاقتصادية والاجتماعية عشية الانتخابات تدهوراً خطيراً عكس انهيار كل الانجازات التي حققها حزب العدالة في السنوات السابقة على تدخل اردوغان في شؤون الدول العربية:
ــ النمو الاقتصادي سجل تراجعاً كبيراً من 9 في المئة الى ما دون الـ 3 في المئة.
ــ انخفاض قيمة العملة بنسبة 40 في المئة نتيجة لتراجع الاقتصاد وأدى ذلك الى تدني القدرة الشرائية للاتراك وتدهور وضعهم المعيشي.
ــ ارتفاع نسبة البطالة وتجاوزها عتبة الـ 11 في المئة، وهي نسبة عالية، وتعبّر عن الركود الاقتصادي.
العامل الثاني: ادت سياسة اردوغان، في إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في وسط المجتمع التركي الى إحداث استقطاب حاد لم يعتد عليه الاتراك من قبل، وهو ما أدى إلى توترات وزيادة حدة الازمة السياسية في البلاد.
العامل الثالث: افصاح اردوغان عن عزمه الاستئثار بالحكم عبر تعديل الدستور والتحكم بمفاصل السلطة وحصرها بيده كرئيس للجمهورية، ادى الى استفزاز احزاب المعارضة وسيادة شعور عام بتهديد النظام الديمقراطي التركي.
العامل الرابع: انتشار فضائح الفساد في بطانة حزب العدالة وحكومته، وبين افراد عائلة اردوغان، وإقدام الاخير على التدخل في القضاء والانتقام من بعض القضاة الذين تصدوا لهذه القضايا بإقالتهم، وشن حملة اعتقالات طاولت المؤيدين لجماعة عبد الله غولن، التي تحوز على نفوذ واسع في مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء والشرطة، وكان لها دور اساسي في كشف هذه الفضائح للرأي العام. الأمر الذي نزع عن حزب العدالة الغطاء الاخلاقي الديني الذي يحتمي خلفه لممارسة الفساد.
العامل الخامس: استعداء الأكراد، فبعد ان اخل باتفاقه مع عبد الله اوجلان لاعطاء اكراد تركيا حقوقهم، عمد اردوغان الى التآمر ضد اكراد سورية من خلال دعم داعش وافساح المجال أمامه للسيطرة على مدينة كوباني (عين العرب).
هذه العوامل تضافرت كلها لتصب في صالح الاحزاب المعارضة لحكم وسياسات حزب العدالة، التي نجحت في الاستفادة من سقطات وارتكابات اردوغان، وكشفت قيام مخابراته بتزويد الجماعات الارهابية بالاسلحة، عبر الحدود مع سورية، الى جانب تحميله مسؤولية التدهور في الوضعين الاقتصادي والمعيشي، في حين استفاد حزب الشعوب الديمقراطية من إشهار اردوغان عداءه السافر للاكراد، وعمل على تعبئتهم وتحفيزهم للاقبال على صناديق الاقتراع، الى جانب التعاون بين حزب الشعوب، وحزب الحركة القومية في الانتخابات لإحباط مشروع اردوغان السلطوي القمعي الاقصائي، وكانت النتيجة أن نجحا في ذلك، وأن حصدا أرقاماً فاقت التوقعات التي تحدثت عنها استطلاعات الرأي، عشية الذهاب الى صناديق الاقتراع بأن حزب العدالة سيخسر ثلاثة نقاط، فاذا به يخسر تسعة نقاط، ما أحدث زلزالاً صدم وأذهل قادة حزب العدالة أنفسهم.

ثانياً: أثر النتائج على السياسات الخارجية والداخلية

بعض المراقبين والمحللين يرون أن النتائج المذكورة آنفاً لن يكون لها أثر كبير على السياسات الداخلية والخارجية، التي انتهجها حزب العدالة، انطلاقاً من أن جميع الاحزاب التركية متفقة على استمرار عضوية تركيا في حلف الناتو، وفي العلاقة مع اسرائيل.
لكن أي قراءة موضوعية، بعيداً عن الاحكام المسبقة، لا بد أن تخلص الى عكس ذلك، فأحزاب المعارضة عندما خاضت الحملة الانتخابية وتمكنت من اضعاف حزب العدالة، ركزت في برامجها الانتخابية على النتائج السلبية للسياسات الخارجية والداخلية التي انتهجها هذا الحزب، لا سيما تدخله في دعم وتسليح وتدريب الجماعات الارهابية التكفيرية في سورية، وكذلك دعم الاخوان المسلمين في مصر، وما اسفر عنه ذلك من توتير العلاقات بين تركيا والدول العربية، والحاق الضرر الفادح بمصالح تركيا الاقتصادية، والتسبب بتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، وبالتالي تعهد هذه الاحزاب بتغيير هذه السياسات واقفال الحدود مع سورية بوجه الجماعات الارهابية، والتوقف عن التدخل في شؤون الدول العربية، ووضع حد للسياسات الداخلية القائمة على الفوقية والتحكم والاستئثار ومخالفة القوانين والتدخل بشؤون القضاء وقمع الحريات التي كان يمارسها حزب العدالة.
لذلك من الطبيعي أن يؤدي فوز هذه الاحزاب الى الاصرار على ترجمة برامجها الانتخابية واشتراط ذلك في المفاوضات على تشكيل حكومة ائتلافية للحفاظ على تأييد ناخبيها لها، واخراج تركيا من ازماتها، وبالتالي زيادة رصيدها الشعبي.
من هنا لا يمكن تصور استمرار السياسات السابقة مع أي حكومة ائتلافية جديدة، في حين ان حزب العدالة لم يعد قادراً على فرض رؤيته بعد أن أدرك ان سياساته هي السبب في تراجع شعبيته.

ثالثاً: الاحتمالات

الواضح أن حزب العدالة على الرغم من انه فقد القدرة على التفرد بتشكيل الحكومة، إلا أنه لا يزال هو الحزب الأول الذي حاز 40 في المئة من المقاعد، وهذا يعني أن رئيس الجهورية سيكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة، ولأنه يدرك ان ذلك يحتاج الى الائتلاف مع احزاب المعارضة الاخرى، بدأ يتحدث بلغة جديدة يدعو فيها هذه الاحزاب الى فتح صفحة جديدة للاتفاق على «عقد دستوري جديد وتجنيب البلاد الاضطراب وعدم الاستقرار» في ظل غياب الاتفاق. لكن من الواضح أيضاً أن حزب العدالة يريد من خلال ذلك ابتزاز المعارضة ومحاولة تحميلها تبعات عدم تشكيل حكومة ائتلافية بشروطه، لهذا لن يكون من السهل على أي من احزاب المعارضة الاشتراك مع حزب العدالة في حكومة واحدة من دون اتفاق على تغيير السياسات الخارجية والداخلية، لا سيما وقف دعم الجماعات الإرهابية في سورية واقفال الحدود بوجهها، وهو أمر لن يكون سهلاً الموافقة عليه من قبل حزب العدالة، فيما اعلن حزب الشعوب الديمقراطية رفضه الاشتراك في حكومة فيها حزب العدالة. أما اردوغان فإنه ينوي اذا ما فشل حزب العدالة بتشكيل الحكومة في مهلة الـ45 يوماً عدم تكليف حزب الشعب بهذه المهمة، لقطع الطريق على تشكيل حكومة ائتلافية تضم احزاب المعارضة وتستبعد حزب العدالة، وبالتالي أن يعلن اجراء انتخابات مبكرة بعد 90 يوماً، ما يعني استمرار حكومة حزب العدالة أشهراً اضافية. ريثما تجرى الانتخابات الجديدة. وهو ما يطرح الاسئلة بشأن ما اذا كانت حكومة حزب العدالة ستواصل السياسات الحالية نفسها، أم تأخذ بالاعتبار نتائج الانتخابات وتعمد الى اعادة النظر في هذه السياسات، اقله انتهاج خطاب جديد لاستمالة الجمهور الذي خسره حزب العدالة استعداداً للانتخابات المبكرة. لكن ما هو مؤكد أن تركيا دخلت في مرحلة جديدة تتسم بإنهاء حقبة السيطرة الأحادية لحزب العدالة على الحكم، واستطراداً وضع حد لرهانات اردوغان على التفرد برسم سياسات تركيا الداخلية والخارجية.
* كاتب لبناني