من الأمور الطريفة في تاريخنا السياسي أن موجة أحزاب الستينيات، حين انحسرت، خلّفت وراءها عدداً هائلاً من الأفراد والتنظيمات الصغيرة والشرذمات السياسية التي ما زالت تختزن، حين تتكلم عن نفسها وخياراتها، مفردات «الزمن الجميل» ولغته التي كانت تستخدم لتوصيف استراتيجيات أحزاب حاكمة ومنظمات دولية وقوى عظمى (بعضها مستوحى بالفعل من اللغة الدبلوماسية والنظرية للاتحاد السوفياتي).
أحد هذه المفاهيم هي نظرية «التقاطع السياسي»؛ التعبير الذي تستخدمه العديد من القوى (في لبنان وغيره) لتبرير انضوائها في المعسكر الخليجي، أو لدعمها سياسات اميركية وغزوات خارجية وحركات إبادية ــــ بمعنى أن انضواء «اليسار الديمقراطي» في 14 آذار ما هو الا «تقاطعاً»، والليبراليين العرب «يتقاطعون» مع الرياض، وهكذا دواليك…
هنا، نحن في حاجة للعودة الى الأسس وشرح مفهوم «التقاطع» هذا، وأين ينطبق وأين لا يمكن أن ينطبق. «التقاطع» يحصل حين يكون لديك مشروع خاص بك، يسير في طريقه الذي رسمته، فتلتقي، في موضوع محدد، مع مشروعٍ آخر (قد يكون معادياً) على مصلحة مشتركة، فيحصل التقاطع. سنعطي مثالاً عملياً: اميركا قد يكون في مصلحتها، لأسبابها الخاصة، تسريب أخبار تؤذي القيادة الاسرائيلية، والاثنان أعداء، لكنك قد تستفيد من التسريب الأميركي في وجه عدوك الآخر. هذا اسمه تقاطع.
ولكنك، حين لا تحمل مشروعاً ولا تمثل قوة، فإنك لا «تتقاطع» مع أحد؛ وحين تكون فرداً أو شرذمة فأنت، بالمطلق، لا يحق لك ادعاء «التقاطع»، وحين تنضوي تحت لواء قوة أضخم منك بكثير، وهي تموّلك وتنسّق عملك وتحدّد انحيازاتك وعداواتك، فهذا بالتأكيد ليس اسمه «تقاطع»، ولا حتى تحالف. المشكلة هي أن من اختار، لأسباب مختلفة (كلها سيئة)، أن ينضم الى الحلف الذي يفيض على شعوبنا قتلاً وتخلفاً وتقسيماً ورجعية، يصرّ على أن صفات حلفائه لا تخالطه، فهو ديمقراطي وتقدمي وحداثي (بل وعلماني) ولكنه، ببساطة، يتقاطع مع الاخرين في «هذه المرحلة التاريخية».
ولكن هؤلاء، بترسانتهم الغنية بالتبريرات النظرية، لا يفهمون أبسط مستحيلات السياسة. كما لم يفهموا، في سوريا مثلاً، أنه لا يمكنك أن تدّعي أنك تبغي ديمقراطية ودولة مدنية وحرية لكل السوريين (ولو كانت رغبتك صادقة) بينما، الى جانبك وفي خندقك، أناسٌ تدعو للقتل الطائفي والكراهية والابادة. عليك أن تختار.
حين تكون جزءاً من معسكر يقوم بأفعال سيئة، لا يعود يهمّ رأيك الشخصي وجمالياتك ومشاعرك. لم يكن كل داعمي الحزب النازي وحكمه في المانيا نازيين، ولم يكن كل النازيون عنصريين، ولا أحد يهتم بهذا التفريق اليوم، فما يسجل هو الموقف والمشروع والنتائج التي أوصل اليها.
تبرز مسألة «التقاطع» هذه مع الأخبار التي تكشف أن المخابرات الأميركية ترصد، لمشروع واحد لتسليح ودعم المسلحين في سوريا (تحديداً «الجبهة الجنوبية» و»الجيش الأول»، اللذين يتغنى بهما الجناح التقدمي في «الثورة»)، أكثر من مليار دولار سنوياً، تضاف اليها مليارات أخرى من السعودية وقطر، أي ما يفوق كامل ميزانية الجيش السوري في أيام عزّه. فهل يمثّل أن تصنعك السي آي اي، وتموّلك وتدربك وتوجهك، مجرّد «تقاطع» آخر لثائر حرّ؟