يُقال: إن الحاضنة سببها اضطهاد «فئة» لأخرى، والمقصود دوماً اضطهاد «الشيعة» أو «غير السنّة» للسنّة. والمثل الأكثر شعبوية واستعمالاً هو العراق، لتسويغ مجموعة من التصرفات المغرقة في تطرفها وعنفها تجاه الآخر والغير.نعتذر من القراء لاضطرارنا إلى توظيف مصطلحات نمقتها، لكننا نذكرها كي نكون صريحين مع الطرف الآخر؛ القول: إن تطرف تنظيم الدولة ناتج من سياسة الإدارة الحالية في العراق ونتيجة طبيعية لإقصاء «أهل السنّة» عن المشاركة الفعلية في الحكم تضليلي وغير صحيح. فهل التطرف تجاه الآخر «حق» حصري لطائفة دون أخرى؟! لمَ لا يقال مثلاً: إن تصرفات نظام بغداد الطائفية نتاج طبيعي لاضطهاد «أهل السنّة» «المِتواليون الروافض الكفرة العجم»، المستمر منذ قرون إلى يومنا هذا! إن إهمال هكذا حقائق معروفة وتذكُّر الحاضنة فقط بالعلاقة مع «أهل السنّة» يفضحان حنين فكر طائفي متذاكٍ يحاول التخفي وراء ظله.

لا نحب نظام الحكم في العراق وتقسيمه، أو أي نظام قائم على التحاصص الطائفي أو المذهبي، ونرى أن لا بديل إنسانياً لنظام عِلماني قائم على المواطنة والمساواة إزاء القانون.
ولا نقبل الإشارة إلى الآخر، المختلف، على أنه أقلية أو أقليات الذين هم، من منظور منظري «الأغلبية»، نعوت مثل «الروافض والنصيريين الكفرة والنصارى والمجوس عبدة النار والبربر» وما إلى ذلك من التعبيرات السقيمة. إن مصطلح «الأغلبية» تضليلي بكافة المعايير، لأنه يوحي بشكل من أشكال التعددية، وإن من الطبيعي خضوع الأقلية لأحكام الأكثرية وحكمها؛ لكن هل تقبل تلك «الأغلبية» [هنا] بتطبيق ذلك المبدأ عليها عندما تستحيل «أقلية» في الهند والصين وروسيا وميانمار والفيليبين وأنغولا، على سبيل الذكر؟!
بنية الدولة/ الدول الإسلامية، تماماً كما في غربي أوروبا حتى صلح فستفاليا، لم تكن يوماً قائمة على المواطنة. وإذا كانت تلك سياسة نتاج تلك العصور الغابرة، فمن غير الجائز إطلاقاً قبول ذلك في عصر الدول الوطنية/ القومية، أو حتى محاولة تسويغها. نحن نرفض مقول الحاضنة بالمطلق ولا نبحث عن أي عذر تخفيفي لأي ممارسات تنتمي إلى العصر الحجري، تنتقص من كرامة البشر وحقهم في الحياة. ما نريده الدولة الوطنية العصرية وليس أقل من ذلك.
لنتكلم بالعربية: هل حصلت تلك «الأقليات» يوماً على حقوق المواطنة كاملة، أم أن تلك حق حصري لطائفة «الأغلبية» مفروضة شرعياً على الغير؟!
الحال لم تكن يوماً كذلك، لكن من المهين بل والأنكى أن تجد قيادات «الأقلية» نفسها دوماً في موقع المضطر إلى الدفاع عن النظام و«عدله» المزعوم حتى لا يشك في وطنيتها!
القاعدة، أي تنظيم الدولة وغيره من الحركات الدينية الأصولية التي يتباين بعضها عن بعض فقط في درجة الانعزال والموقف تجاه الضعفاء والأولويات، ظاهرة ليست جديدة. كلنا يعلم انتماءها إلى الفكر الوهابي الذي ينفي كلّ من سواه، بصرف النظر تماماً ليس عن الدين فقط بل حتى عن الطائفة والمذهب.
القاعدة، بمختلف تسمياتها الحالية والمستقبلية، حركة اجتماعية صحراوية الفكر والانتماء والجوهر، لا تعرف سوى الغزو والغنيمة، تمردت على المدينة التي اتهمتها بأنها انغمست في ملذات الحياة الدنيا وتخلت عن أصول الدين وطريق السلف الصالح. لكن بعدما تمكنت منها بدأت تتمتع بكل ملذات المدينة، ما أثار جيلاً جديداً في الصحراء مرة أخرى ضد «المرتدين»، فانتفضت مجدداً، لكن في كل مرة بدرجة من العنف تتجاوز ما سبقها... وهكذا.
هي حركة اجتماعية متواصلة ضمن دائرة مغلقة، تعيد إنتاج نفسها، ووجب فهمها وشرحها وفق قوانين علم الاجتماع وليس من خلال المقولات السياسية المقولبة المتذاكية والمضَلِّلة في آن واحد.