أذكر أنّه في الانتخابات الأميركية الأولى التي شهدتُها «عن قرب» عام 2004، حذّرني المؤرّخ بيتر غران من أخذ الدعاية الانتخابية للحزبين على محمل الجدّ؛ شارحاً أنّ التنافس السياسي بين المرشّحين ومؤيّديهم، وإن تمّ إخراجه كخلافٍ ايديولوجيٍّ وصراعٍ بين الخير والشرّ، هو يكون غالباً على عناصر مصلحيّة واجتماعية لا تشبه الشعارات التي يتمّ إشهارها.
مؤيّدو جون كيري مثلاً، قال غران، ليسوا ديمقراطيين لأنّهم اشتراكيّون، بل لأنّهم أناسٌ «مثلنا»، يسكنون في المدن الكبرى ويعملون في الجامعات والمؤسسات الفدرالية والمستشفيات، وهي كلّها مصالح قريبة من الدولة أو تعتمد عليها وعلى تمويلها بشكلٍ مباشر. هذه الفئات، اذاً، تدعم مرشّحاً يشبهها، يريد دولةً قويّة ولو على حساب ارتفاعٍ في الضرائب، ويرعى النظام «الليبرالي» الذي يسمح بدمج الناس في هذه المؤسسات والمدن (وهي تحتاج الى كفاءات المهاجرين واستقدامهم بشكلٍ مستمرّ، وإلى نظامٍ يسمح بتعايش أعراقٍ وجنسيات مختلفة بشكلٍ سلميّ ومنتج). أمّا الجمهوريّون الذين يعيش أكثرهم في الداخل الأميركي، أضاف المؤرّخ، فإنّ علاقتهم بمؤسسة الدولة والثقافة مختلفةٌ كليّاً، وهم غالباً لا يرون في الإنفاق الحكومي الّا ضرائب وعبئاً عليهم وهدراً للموارد، وهم لا يتماهون مع المساحات الكوزموبولوتية التي خلقتها الرأسمالية الأميركية في المدن الكبرى.
هذه الأيّام، مع الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، أصبحنا ــ في بلادنا ــ على اتصال مع الدعاية السياسية الأميركية من مصدرها مباشرةً، من الحملات التي تشنّها الأحزاب والمجموعات السياسية وصولاً الى البرامج الكوميدية وتعليقات الساخرين من الرئيس وسياساته. ولكنّ الخطر هنا يكمن، ايضاً، في أخذ هذا الخطاب بالصورة التي يقدّم عليها نفسه، والتفاعل مع الدعاية كأنّها واقع. بعد قرارات دونالد ترامب المعادية للمهاجرين ــ والمسلمين منهم تحديداً ــ انتشرت صور التظاهرات الأميركية، واحتجاجات النسويّين واليساريين، والتقريع الدائم للرئيس الجديد من نجوم المجتمع وهوليوود، حتّى يكاد المرء يتخيّل أن «المقاومة» توشك على إطاحة ترامب. هذه الواجهة الإعلاميّة قد تخفي حقيقة أنّ أكثر الأميركيين، كما تقول الاستطلاعات، يؤيّدون قرارات الرئيس (بحسب استطلاع أخير لـ»بوليتيكو» و»مورننغ كونسلت»، يوافق 55% من الأميركيين على المنع ويعارضه 38%)، وأنّ نسبة تأييده بين الناخبين اليوم ــ وفقاً لـ»رويترز» ــ قد ارتفعت الى خمسين في المئة. بل إنّ من يمرّ على المواقع اليمينيّة الأميركيّة، ومراتع «اليمين البديل»، يلاحظ بسرعةٍ حالة الزّهو والحماسة التي يعيشها اليمين المتطرّف اليوم، وأنّه يجذب مؤيّدين جدداً، ويُلهم حركاتٍ مشابهة في اوروبا.
الدعاية قد تنسينا ايضاً أنّ الاحتجاجات التي تقودها «النواة الصلبة» للديمقراطيين واليسار الأميركي (نسويون، أقليات، طلّاب يساريون) لا يمكنها أن تقلب نظاماً، بل هي تلعب في النهاية لمصلحة ترامب حين تقتصر التظاهرات عليهم، إذ تبدو المعارضة له في أيدي «المتطرفين» والأقليّات العرقية والمهاجرين، الذين لا يمكن لهم أن يهيمنوا على «التيار السائد» الوسطي أو أن يؤثّروا فيه. على سبيل المثال، احتفل اليسار في جامعة «بيركلي» بمنع اليمينيّ المتطرّف، ميلو يانوبولوس، من الحديث في الجامعة كأنّه نصر. ولكنّ المفاعيل السياسية لهذا الحدث، بالنسبة الى الجمهور الأعمّ، كانت سلبيّة بالكامل على اليسار ووضعت يانوبولوس ــ العنصري والذكوري والكاره لكلّ ما هو ليس أبيض ومسيحياً ــ في الموقع الذي يريده: مفكّر مُخالفٌ يعاني من اضطهاد المؤسسة الليبرالية الأقلويّة ويتمّ منعه، بالقوّة والشغب، من التعبير عن أفكاره في جامعاتها. بالمعنى نفسه، جاء «احتفاء» العديد من اليساريين الأميركيين بحادثة ضرب أحد العنصريين المشهورين، على الكاميرا، تأكيداً على هذا النمط الذي يسعى الى «اللحظة التلفزيونية» ولكنّه يخسر في السياسة والتكتيك (هل يريد اليساريّون الأميركيون، فعلاً، أن يحوّلوا التنافس بينهم وبين اليمين المتطرّف، الذي يسكن الأرياف ويهوى السلاح، الى مواجهة عنفٍ واستقواء؟).

يمينٌ جديد

في كتابٍ اسمه «مكسيفورنيا» للمنظّر اليميني فيكتور دايفيس هانسون (2003)، نجد عرضاً مبكراً لبعض الأفكار التي تشكّل اليوم عماد ايديولوجيا «اليمين البديل» ونظرته الى المجتمع والهجرة. هانسون في الأساس مؤرّخٌ عسكريّ، ولكنه نال شهرةً كمعلّق سياسيّ في عهد جورج بوش الابن وأصبح يكتب في «ناشيونال ريفيو» وباقي منشورات اليمين أيام حرب العراق. يقدّم هانسون نفسه على أنّه «فلّاح» من عائلة مزارعين، وهو يقيم ويعمل الى اليوم في مزرعته في فريزنو، كاليفورنيا (كاليفورنيا الداخلية، الزراعية والمحافظة والبيضاء، وليس كاليفورنيا الساحل والمدن). الكتاب، وهو فعلياً منشورٌ ضدّ الهجرة اللاتينية الى اميركا، يسرد أكثر الحجج التي تسمعها من أعداء المهاجرين: أنّ كاليفورنيا ستصير مكسيكية مع الزمن، وأنّ النخبة الرأسمالية ــ كي تحافظ على راحتها ومستوى حياتها ــ استقدمت العمّال من المكسيك بالملايين، فخسرت الأرض هويتها واستوطنتها مجموعةٌ ثقافية غريبة، وأنّ المكسيكيين لن «يتأمركوا»، كموجات سابقة من المهاجرين، بل هم يحملون ثقافة ترفض الاندماج وتعتبر كاليفورنيا والجنوب الأميركي الغربي أراضي مكسيكية مسروقة وستعود اليهم عبر الاستيطان، مضيفاً أنّ «التعددية الثقافية» التي راجت في اميركا، وعقيدة المؤسسة الليبرالية والأكاديميا، قد أعطتا هؤلاء المهاجرين مبرّراً لعدم الاندماج والاستمرار في كراهية وطنهم الجديد.
يكتب هانسون، مثلاً، أن كاليفورنيا وأريزونا ونيومكسيكو، وأكثر منها تكساس، كانت مكسيكيّة بالفعل لأكثر من قرنين، ولكنها ظلّت ــ وفق زعمه ــ صحراء قاحلة. طوال هذه الفترة، لم يخاطر آلاف المكسيكيين ويضعوا عائلاتهم في عرباتٍ تجرّها الخيول، ليهاجروا آلاف الأميال عبر الصحراء الى هذه الأرض الغريبة الخطرة، بهدف استيطانها وزراعتها ــ يقول هانسون ــ بل كان المستوطنون الأوروبيون هم من فعلوا ذلك وعمّروا هذه الأقاليم. وحين أصبحت كاليفورنيا اليوم ولاية ثرية ومزدهرة، يحاجج الكاتب اليميني، صار المكسيكيون يريدون استعادتها! يقول هانسون ايضاً إنّ دفاع اليسار الأميركي عن المهاجرين وثقافتهم تحت اسم التقدّمية فيه الكثير من النفاق، فيعدّد مظاهر العنصرية في المجتمع المكسيكي (من عنصرية اللون والأصل الى الطبقية الحادّة) والتي يتجاهلها اليسار الأبيض، والذكورية القاسية في «الثقافة المكسيكية»، وكون أكثر هؤلاء المهاجرين، الذين يتماهى معهم اليسار، متديّنين محافظين.
الجديد في هذا اليمين الأميركي، الذي وصل ترامب بفضله الى السلطة، هو أنّه على عكس اليمين التقليدي لا يركّز على حرية الاقتصاد أو الدولة الصغيرة أو الحريات الفردية أو، حتى، الدين والأخلاقيات المحافظة، بل يذهب مباشرة صوب موضوع الهوية والثقافة. اليمين الجمهوري الأميركي هو «أبيض» تاريخياً (بمعنى التكوين وجمهور الناخبين)، ولكنه كان حريصاً على أن لا يعتمد ايديولوجيا «بيضاء»، وأن يبقي مسافة واضحة بينه وبين الحركات العنصرية الأميركية ــ وإن استفاد من أصواتها في الانتخابات ــ. هذا قد تغيّر اليوم، في اميركا وفي اوروبا، مع صعود يمينٍ يرى مهمّته الدفاع عن الثقافة البيضاء والدين المسيحي. المحافظون الجدد لأيّام بوش كانوا يستخدمون شعارات الثقافة والصراع الديني، ولكن اهتمامهم كان منصبّاً على لعبة القوة العالمية وبناء الامبراطورية، ولكنّ أمثال ستيف بانون ودونالد ترامب هم من طينة مختلفة. الخطير في ستيف بانون الذي يعتبر «منظّر البيت الأبيض حالياً» هو أنّه، حين يتكلّم على الصين مثلاً، فهو يرى الصراع كصراع أديانٍ وثقافاتٍ، وليس كتنافسٍ على القوة والموارد. يقول بانون، في مقابلة على الراديو من العام الماضي، إنّ في الصين مئات ملايين المسيحيين، وإنّهم حلفاء أميركا الذين يجب الاستثمار فيهم، داعياً، فعلياً، الى تحويل الصين الى المسيحيّة. هذه الدعوة الدينية والعرقية تترافق، لدى هؤلاء المنظّرين، مع احتقارٍ واضحٍ للّيبرالية، ومع فكرةٍ ــ لا تقلّ خطراً ــ عن أنّ التهديد يحيق بالغرب وبالعرق الأبيض، وأنّ عكس مسار الأمور (كما حاجج هانسون قبل سنوات) يجب أن يتمّ فوراً وبأيّ ثمنٍ، وإلّا فات الأوان.

الليبرالية: ثقافة نخبة؟

حتّى نفهم شعور «الرجل الأبيض» في أميركا، وخوفه على نفسه وثقافته، يجب أن نتذكّر التغيير الجذري الذي طرأ على ديموغرافيا البلد في نصف القرن الماضي. في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كان البيض يشكّلون 85% من مواطني اميركا؛ بمعنى آخر، هم كانوا يحكمون البلد ويقرّرون شؤونه منفردين، واللاتين كانوا أقلية صغيرة لا تذكر، والسّود لا يشارك أكثرهم في الانتخابات. اليوم، أصبحت نسبة البيض أقل من 63% وهي تتناقص بسرعة، وهذا الوضع الجديد قد أنتج ردّ فعلٍ عنيف.
لا يمكن أن نتنبّأ اليوم بتأثير هذه الايديولوجيا الجديدة على العلاقات الدولية والنظام السياسي والوضع الداخلي في الغرب ــ اذا ما خلعت المؤسسة الغربية ثوبها الليبرالي وأصبحت «بيضاء» عرقيّة واستبدلت نخبتها القديمة بقادةٍ جدد ــ. ما نعرفه هو أنّه لا تمكن المراهنة على القوى التي نراها حاليّاً في الشارع، والتي تمثّل يسار المؤسسة الليبرالية التقليدية، لعكس هذا المدّ ومواجهته (ومن يعتقد أنّ النسويّين واليساريين الأميركيين قد يقودون ثورةً ضدّ ترامب لديه مشكلة في تشخيص الواقع الأميركي). في الحقيقة، كما كتب المعلّق توماس فرانك مؤخّراً، فإنّ الخطاب الليبرالي التقليدي الذي يقرّع مؤيّدي ترامب، ويتهمهم بالعنصرية والذكورية والجهل، خسر فعاليته وقد أصبح ينتج تأثيراً عكسياً لدى الناس في وسط أميركا. لم يعد أهل المدن الصغيرة المحافظون يرون في الكلام الليبرالي تعبيراً عن مثلٍ عليا وقيمٍ مدنيّة مشتركة، يزعم توماس فرانك، بل ينظرون اليه كخطابٍ لأقلية فوقيّة متعجرفة، بعيدة عنهم وتحاول فرض قيمها عليهم، تماماً كما يفرض المتديّنون المتطرّفون قيمهم على الناس، ويحتقرونهم إذا ما خالفوها.
بعد خسارة جون كيري للانتخابات أمام جورج بوش عام 2004، سأل أحد الصحافيين رجلاً من بلدةٍ أميركية صغيرة ما معناه «لماذا يصوّت رجلٌ فقيرٌ مثلك لبوش، وهو رأسماليّ ثريّ صاحب سلطة، وتعتبر في المقابل مرشّحاً ليبرالياً مثل جون كيري «نخبوياً»، وانّك تتماهى مع بوش ولا تقدر على التماهي معه؟». أجاب الريفي الأميركي: «في الحقيقة، لو أنّ ابني عمل بجهدٍ كبير، وكان محظوظاً جدّاً، فهو قد يصبح ثريّاً. وهناك احتمال في عقلي، ولو ضئيلٌ للغاية، لأن يصبح رئيساً للجمهوريّة. ولكن، مهما حصل وفي أيّ عالمٍ محتمل، لا يمكنني أن أتخيّل ابني وقد أصبح المحرّر الثقافي في صحيفة نيويورك تايمز».