في كتابه «الرئاستان»، يميّز عالم السياسة الراحل أرون ولدوفسكي، بين بعدين للرئاسة الأميركيّة: ١) الرئاسة في نطاق السياسة الداخليّة و٢) الرئاسة في نطاق السياسة الخارجيّة. ولدوفسكي على حق في أن الرؤساء يفضّلون صنع السياسات الخارجيّة على صنع السياسات الداخليّة لأن هناك عقبات ومصالح خاصّة ولوبيات تعرقل عمل صنع السياسة.
كما أن أي تغيير في السياسة الداخليّة يمكن أن يثير حساسيات واعتراضات في أوساط الرأي العام: فموضوع إصلاح الرعاية الصحيّة يصطدم دوماً بمصالح متشعّبة (خصوصاً من شركات الأدوية ومن شركات التأمين الصحّي التي تفضّل الخصخصة على التأمين الشامل ولو كان ذلك على حساب الملايين من المرضى الفقراء). ومحاولة الحدّ من انتشار التسلّح يصطدم بلوبيات السلاح. أما صنع السياسة الخارجيّة فهو لا يصطدم بعراقيل، لكن ولدوفسكي ألّف كتابه في عام ١٩٦٤ قبل صعود اللوبي الصهيوني البالغ النفوذ. لكن حاجة اللوبي الصهيوني للاعتراض تقلّصت بعدما زالت الفوارق بين الحزبيْن في دعم وممالأة إسرائيل، ولم يعد الفرق بينهما إلا في نطاق المزايدة بينهما حول حجم تمويل وتسليح دولة العدوّ. كما أن الاعتراض التاريخي للوبي تركّز على منع تسليح الدول العربيّة (الأردن والدول الخليجيّة) فيما هو اليوم يحثّ على تسليحهما بعدما أصبحت تلك الدول متحالفة جهاراً مع العدوّ الإسرائيلي.
لكن دونالد ترامب يمثّل نموذجاً جديداً من أسلوب الحكم الرئاسي. يفصل فْريد غرينستاين في كتابه «الفرق الرئاسي: أسلوب الزعامة من إف.دي.آر إلى أوباما» بين أنواع عدّة من القيادة، لكن الاهتمام بهذا الموضوع في دراسة السياسة في أميركا نشأ عن انبثاق ما يُسمّى بـ«الرئاسة الحديثة» التي رافقت ظاهرة صعود رئاسة فرنكلين روزفلت، الذي كان في تسلّطه ونفوذه السياسي أقرب إلى الإمبراطور (التعديل الرئاسي الذي منع التجديد لأكثر من مرّة واحدة جاء لمنع تكرار تجربته). كان روزفلت لا يأبه لفصل السلطات، ويقول إذا ما ورده خبر عن معارضة من عضو في المحكمة العليا إنه يستطيع (عبر سيطرته على الكونغرس) إقصاءه متى شاء. رئاسته هي التي طبعت الرئاسات التي أتت بعده وإن لم ينجح رئيس بعده في التمتّع بنفس الصلاحيات والسيطرة التي تمتّع بها. إن توسّع سلطات الرئيس كانت موازية لتوسّع سلطات الحكم الفدرالي والبرامج الاجتماعيّة بعد الانهيار الاقتصادي الذريع في عام ١٩٢٩. لكن غرينستاين على حق في أن زيادة طرأت على «احتمال أن الصفات الشخصيّة التي تُميّز رئيساً في سدّة الرئاسة عن آخر ستؤثّر في النتائج السياسيّة» (ص. ٣). باتت المبادرات التشريعيّة الرئاسيّة تنطلق من البيت الأبيض، وحتى تشريعات الكونغرس باتت تتأثّر به وبشخصه (وله حقّ الفيتو على تشريعات الكونغرس، الذي لا يتجاوز الفيتو إلاّ بأكثريّة الثلثيْن الصعبة).
ولجوء ترامب في أيّامه الأولى إلى ما يُسمّى هنا بـ«الأوامر التنفيذيّة» (أي القرارت المُلزِمة التي يستطيع الرئيس أن يصدرها ما لم تُقرّر المحكمة العليا أنها مُخالفة للدستور، وما لم يُصدر الكونغرس الأميركي قرارات مناقضة) محاولة لفرض رئاسة قويّة في الأيام الأولى لعهده. والرئيس المُنتخب من أكثريّة كبيرة (وهذا لا يسري على ترامب) يلجأ غالباً إلى هذا النوع من التشريع لطبع عصر إدارته مبكّراً. وقد لجأ إلى هذا النمط من التشريع كل الرؤساء المتعاقبين، وأفرط في استعمالها ريتشارد نيكسون وبيل كلينتون أكثر من غيرهم. وقد استعمل أوباما هذا النمط من التشريع الرئاسي (أكثر من ترامب في نفس الفترة الزمنيّة) لكن ترامب يُحدث ثورة في السياسات السابقة له. هو يخاطب جمهوره بأنه يعني ما يقول، ويقول ما يعني.
لا شك أننا نتعاطى مع شخص لم يسبق له مثيل في سدّة الرئاسة الأميركيّة. لكن لا يجب أن ندع ظاهرة ترامب تغفر لسلفه خطاياه وجرائمه. لكن هناك إصرار واضح من ترامب على البقاء لثماني سنوات في سدة الرئاسة عبر إقناع جمهوره أنه جدّي في تنفيذ وعوده، حتى تلك التي بدت خياليّة (مثل إنشاء جدار فصل مع المكسيك وإجبار حكومة المكسيك على تكفّل تسديد نفقات تشييده). تعلّم الجمهوريّون من تجربة جورج بوش الأب، الذي وعد بألّا يوقّع على ضرائب جديدة، وخلف وعده، وهذا ما منعه من تولّي الرئاسة لولاية أخرى. والجمهور الجمهوري أكثر مبدئيّة (في الرجعيّة) من الجمهور الديموقراطي، الذي يقبل المساومة والتنازل والتهاون بسبب الضعف والانقسام الذي يعتري صفوفه.
يمكن الفصل بين حكم ترامب في السياسة الداخليّة والخارجيّة. في السياسة الداخليّة، ظهر ترامب أنه متمسّك بخطابه وسياساته من المرحلة الانتخابيّة، وهذا ما يميّزه عن رؤساء سابقين له (من الحزبيْن). عادةً، يتم التعامل مع الوعود الانتخابيّة بمرونة ونسيان، واعتبار أنها فقط وعود انتخابيّة غير قابلة للتنفيذ. وكان التوقّع أن يتخلّى ترامب عن وعوده بسبب ضخامة الوعود تلك وهولها. لكنه سنّها قوانيناً (بـ«أوامر تنفيذيّة»)، من قانون «حظر المسلمين» (وهو بالفعل قانون حظر المسلمين مع أن حكّام الأردن والإمارات والسعوديّة أسبغوا شرعيّة عليه، ونفوا أن يكون هو حظر للمسلمين، ونوّه ترامب بالغطاء الذي وفّره له حكّام «الشرق الأوسط»، كما كتب على «تويتر»)، إلى قانون البدء بإنشاء الجدار (لكن أي مشروع يتطلّب نفقات يحتاج إلى موافقة الكونغرس وهو موالٍ له بأكثريّة جمهوريّة في المجلسيْن) إلى البدء بتغيير نظام الرعاية الصحيّة، مع أن ذلك صعب ويتطلّب سن قوانين معقّدة في الكونغرس، ويحتاج إلى سنتيْن لإنجازه على أقل تقدير. والسياسة الداخليّة هي الصعبة عادة، لكن ترامب بات يحوز على سلطة الرئاسة وعلى المجلسيْن في الكونغرس، وعلى الأكثريّة في المحكمة العليا بعدما سمّى قاضياً لشغل المقعد الشاغر فيه.

من المستبعد أن يمضي ترامب في مغامرة شبيهة بمحاولة بوش تغيير العالم العربي والإسلامي


لكن الوضع في السياسة الخارجيّة يختلف. في الجانب الأكثر قوّة في سلطات الرئيس، خلفَ ترامب بعضاً من وعوده. هو كان قد وعد بأن يمزّق الاتفاقيّة مع إيران في أوّل يوم له (لكن الاتفاقيّة ليست اتفاقيّة بين إيران وأميركا كما يصوّرها ترامب، إذ أنها أصبحت اتفاقيّة دوليّة بعد تبنّيها من قبل مجلس الأمن الدولي). لكن كلام ترامب عن الاتفاقيّة لم يعد كما كان سابقاً: هو لا يزال ينتقدها ويصوّرها من جانبه بأنها أسوأ اتفاقيّة في تاريخ الاتفاقيّات (فيما أصرّ معارضو إيران في العالم العربي على أنها كانت في صالح أميركا وإسرائيل) لكنه لا يقول إنه سيمزّقها أو أنه سيسعى إلى إلغائها. كلامه في ذلك لا يزال ضبابيّاً لأنه يعلم أن التملّص من الاتفاقيّة ليس سهلاً وله مترتبّات قانونيّة دوليّة، كما أن فرض حزمة العقوبات (الدوليّة) مرّة أخرى لا يلزم حلفاء أميركا في مجلس الأمن (ولا يلزم كما في الماضي روسيا والصين، طبعاً).
والرئيس الأميركي كان مصرّاً على أنه سينقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، لكنه لم يفعل ذلك بعد. لكن تهوّره قد يدفع به إلى فعل ذلك في ما بعد. يحاول النظام الأردني أن يزعم أنه أقنع ترامب بتغيير رأيه حول السفارة والمستوطنات (النظام الأردني أراد أن يكسب رضى أميركا المُبكِّر، فطلب ملكه موعداً على عجل، لكن ترامب رفض أن يستقبله في البيت الأبيض أو أن يعطيه موعداً، فانتظر الملك في فندق كان ترامب يخطب فيه، وجلس إلى طاولة في مطعم الفندق حتى ينهي ترامب خطبته، ولم يجلس الأخير معه إلا لدقائق). لم يصدر بعد قرار بشأن السفارة، والرئيس الذي يزهو بأنه ينفذّ كل وعوده تجاهل هذا الموضوع (وطبعاً، ليس بسبب الاعتراض العربي الذي كان غائباً، وإنما خوفاً على مصالح الدول العربيّة المتحالفة مع أميركا، وخوفاً على الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة (كان جون ماتيس، وزير الدفاع الأميركي الجديد من أصحاب نظريّة أن الانحياز الأميركي لإسرائيل وعدم حلّ الصراع العربي ــ الإسرائيلي يشكّل خطراً على حياة الجنود الأميركيّين المنتشرين في المنطقة).
والرئيس الأميركي الجديد لم يكن قد وعد من قبل بالالتزام بما يُسمّى هنا بـ«حل» الدولتيْن للصراع العربي ــ الإسرائيلي. لكن ترامب عاد وأعلن التزام إدارته بهذا الخيار (الذي دشّنه جورج دبليو بوش)، كما أنه أعلن معارضة توسيع الاستيطان لكن من دون وصفها بأنها مُعيقة لـ«عمليّة السلام». والكلام عن المستوطنات الإسرائيليّة (وهم يعنون بها فقط تلك أُنشئت فوق أراضي الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة) تطوّر عبر السنوات، من وصفها بأنها «مُضرّة لمصالحنا» (في عهد ريتشارد نيكسون)، أو «غير قانونيّة» (عهد جيرالد فورد) أو «مناقضة للقانون الدولي وعقبة أمام الختام الناجح لعمليّة السلام» (عهد جيمي كارتر) أو «ليست فقط غير قانونيّة بل هي نتيجة نصيحة فاسدة ومُستفزّة بصورة غير ضروريّة» (عهد رونالد ريغان) أو «أكبر عقبة أمام تحقيق السلام» (عهد جورج بوش الأب) أو «مُضرّة لهدف الحل التفاوضي» (عهد بيل كلينتون) أو «يجب أن يتوقّف النشاط الاستيطاني» (عهد جورج دبليو بوش) أو «غير شرعيّة» (عهد أوباما) إلى أن وصلنا إلى وصف إدارة ترامب بأن المستوطنات هي «ليست عقبة أمام السلام... لكنها قد تكون غير مساعدة لتحقيق الهدف». أي أن إدارة ترامب التزمت بأضعف موقف من المستوطنات مع الإضافة بأن الإدارة لم تتخذ «موقفاً رسميّاً» من النشاط الاستيطاني (كان ترامب وزوج ابنته، جيرالد كوشنر، وسفيره الجديد في دولة الاحتلال، قد موّلوا مستوطنات).
ولم يلتزم ترامب بمواقفه السابقة عبر السنوات من ذم حكّام دول الخليج. وكانت خطب ترامب أثناء الحملة الانتخابيّة زاخرة بالسخرية والهجاء ضد آل سعود، وهو كرّر أكثر من مرّة (في سابقة لمرشح فاز بالرئاسة) أن الحكم السعودي ما كان يمكن له أن يستمرّ في الحكم من دون الدعم الأميركي المباشر، وطالب مراراً بتسديد نفقات تلك الحماية التي لا يريدها مجانيّة. لكن ترامب لم يعد يُكرّر كلامه هذا، وهو تبادل الأحاديث الهاتفيّة مع حاكم السعوديّة والحاكم (الفعلي) في دولة الإمارات. (وعندما أعلن مايكل فلِن «تنبيهه» إلى إيران، تم إبلاغ الحكومة السعوديّة والإسرائيليّة بالأمر قبل الإعلان الرسمي) لكن الطاغية السيسي يظلّ حاكمه المفضّل ربما لميله للحكام العسكريّين.
لكن العداء الرسمي لإيران يتعاظم، في تصريحات رسميّة وتغريدات وفي مقابلات لترامب. لكن كيف سيوفّق ترامب بين هدفه المُعلن بتدمير «داعش» كأولويّة قصوى، وبين الانجرار نحو مواجهة ــ قد تفلت ــ مع إيران. وهنا يتظهّر الجانب المتهوّر في شخصيّة ترامب. هو يستسيغ ممارسة لعبة «حافة الهاوية» من دون أن يكون متقناً لأصول اللعبة. إن ممارسة هذه اللعبة تقتضي معرفة عميقة بشؤون الخصم وبسلوكه في الأزمات. جون كنيدي لم يكن هاوياً في شؤون السياسة الخارجيّة: هو درسها في الجامعة وكان ينوي التخصّص فيها في الدراسات العليا، كما أنه كان يستشير معظم الاختصاصيّين الأكاديميّين في الشأن السوفياتي في أيّام أزمة الصواريخ الكوبيّة. واستعانة كنيدي بأخيه روبرت، في أزمة الصوايخ، أتاح له الاستماع لمشورة مُن يمكن أن يعارضَه بقوّة. لا يتمتّع ترامب بأي من هذه الصفات وليس هناك من فريقه من يجرؤ على معارضته: كما أن هيكليّة مجلس الأمن القومي الجديدة (حسب مقالة ديفيد إغناتيوس عن مقابلته لفلِن) تضرب بالتراتبية التقليديّة وتعطي دوراً كبيراً غير مُحدّد، لستفين بانن. وترامب لا يتمتّع بثقافة عميقة في السياسة الخارجيّة، كما أنه لا يقرأ (لا الكتب ولا التقارير، ويكتفي بقراءة الصحف المحليّة والاعتراض على ما تحتويه من انحياز ضدّه). هو يبني معلوماته من الشاشات الأميركيّة التي لا تتطرّق إلى شؤون السياسة الخارجيّة إلا لماماً. ولا يحيط الرئيس ترامب نفسه، كما جون كنيدي، بمستشارين أكاديميّين يقدّمون له النصح. هو في هذا لا يختلف كثيراً عن جورج دبليو بوش، الذي كان ترامب نفسه يسخر منه ويحمّله مسؤوليّة كوارث غزو العراق، بالنسبة إلى المصالح الأميركيّة.

لجوء ترامب إلى «الأوامر التنفيذيّة» محاولة لفرض رئاسة قويّة في الأيام الأولى لعهده

لكن ترامب سيجد صعوبة في التوفيق بين موقفه الانعزالي التاريخي في السياسة الخارجيّة (أي الموقف الذي يعتبر الانتشار الأميركي العسكري في دول العالم عبئاً ماليّاً وسياسيّاً ثقيلاً)، وبين لهجة العداء لإيران (والتي يظنّها حكّام الخليج ــ وخصوصاً صحيفة «عكاظ» السعوديّة التي تزخر يوميّاً بعناوين لتغريدات ترامب ــ خدمة مجانيّة لهم) وبين الإحجام عن الدخول في حروب جديدة. وسيجد ترامب صعوبة في الاستمرار في دفق التعبير اللفظي اليومي في مواضيع السياسية الخارجيّة. لو أن ترامب كان فعلاً يعني ما يقول في كلامه الحاد عن إيران، فإن الاستمرار في التعبير عن هذا العداء سيفقد مفعوله، أو هو سيكون عرضة لقانون «العائدات المنخضة باستمرار» في الاقتصاد. إما أن التهديد والوعيد سيكون جدياً، وفي هذه الحالة فإن ترامب سيفتعل حرباً جديدة ستكون أصعب وأكثر ضرراً من غزو العراق، أو أنه يكتفي (على طريقة خلفيّته كنجم تلفزيوني) بالتعبير اللفظي الفارغ المضمون؟ في هذه الحالة الأخيرة، فإن قيمة تغريداته ستضعف وتهديداته ستنقص. عندما هدّد أوباما بـ«الخط الأحمر» في سوريا (وهو قال تلك العبارة عفواً في ردّ على سؤال صحافي)، لم تكن العبارة نتيجة قرار أميركي رسمي ومداولات في وزارة الخارجيّة. وقد أدرك أوباما بعدها أن خياراته في سوريا تقلّصت بفعل التهديد الذي أصدره ولم ينفّذه.
وترامب يحاول أن يكون نقيض أوباما، ولهذا هو يكثر من الظهور بمظهر الذكوري التقليدي كي يقول للأميركي الأبيض إنه رئيس مختلف لا يعير اعتباراً لحساسيات الرجل العصري (كُتبَ في الصحافة الأميركيّة أن مساعدي ترامب يحثّونه على فعل أمر ما عندما يقولون له: هذه ما كان يمكن لأوباما أن يفعلها). ولعبة «حافة الهاوية» تتطلّب معلومات عن العدوّ لا يملكها ترامب، وليس من إشارة إلى أنه جاد في معرفتها. هو لم يُرفِق تهديداته بأي اجتماعات طارئة عن الخطر الإيراني. والبيان الرسمي الذي تلاه مايكل فلن (مستشار الرئيس للأمن القومي) عن إيران استعمل عبارة لا معنى لها في المصطلحات الدبلوماسيّة. والعبارة التي ختم بها فلن بيانه تُرجمِت خطأً في الإعلام العربي على أنها «تهديد» فيما هي «تنبيه»، والفارق بين المعنييْن بالغ الدلالة في اللغة الدبلوماسيّة. ولم يطلب ترامب من البنتاغون خطة مواجهة عسكريّة مع إيران قبل إصدار تنبيهه لهم، أي إن خطابه لفظ من دون مضمون.
يبدو عمل الرئيس الأميركي عمل هاو في الإدارة. هو متعوّد أن يسيّر شؤون أعماله بنفسه، مع مجموعة من المستشارين الذين لا يجرؤون عن مخالفته في شيء. والذين أحاط نفسه بهم من وزراء الدفاع والخارجيّة والأمن الداخلي ومسؤولي الاستخبارات ومجلس الأمن القومي لا يبدون من الصنف الذي سيقف في مواجهة ترامب. هذا يعني أن بمستطاعه أن يقفز إلى ما بعد الهاوية من دون أن يريد، لأن ليس هناك في الفريق الحالي مَن سيردعه.
إن الكلام عن تعيين إليوت أبرامز (هل لا يزال وليد جنبلاط يمدّه بصناديق من النبيذ الفاخر، والتي استمرّ مدّه بها حتى بعدما زعم جنبلاط أنه أخطأ في التحالف مع زمرة بوش؟) كنائب لوزير الخارجيّة سيعيد إلى الإدارة الأميركيّة نفوذ المحافظين الجدد الذين كانوا عرضة لانتقادات ترامب، والذين وقّعوا عرائض ضدّه (أبرامز انتقد ترامب بشدّة لكنه لم يوقّع عرائض تعهّد فيها موقّعوها أنهم لن يقبلوا بأي منصب في إدارته). لكن كيف سيوفّق ترامب بين شعار «أميركا أوّلاً» وأصحاب شعار «إسرائيل أوّلاً» وأصحاب مشاريع غزو الدول واحتلال العالم؟
من المستبعد أن يمضي ترامب في مغامرة شبيهة بمحاولة بوش تغيير العالم العربي والإسلامي على صورة المحافظين الجديد. لكنه قد يفجّر كارثة في مكان ما من دون علمه أو حسبانه. قد يصل إلى مرحلة تُشعل فيها تغريداته الصباحيّة (غير الخاضعة لمراجعة المستشارين) أزمة عالميّة حقيقيّة. وترامب لا يكتفي بإضفاء توتّر على علاقة أميركا بدولة واحدة: فهو وتّر علاقة بلاده بالمكسيك والصين وحتى بأستراليا (وهي واحدة من الدول الخمس التي تتشارك في المعلومات الاستخباريّة وتقع في دائرة ما يُسمّى بـ«العيون الخمس»). وهو لم يستقرّ على رأي في العلاقة مع روسيا: فهو من ناحية يصرّ على تحسين العلاقة لكن التكتّل الجمهوري في الكونغرس ألحّ عليه بالحفاظ على العقوبات ضدّها. ثم كيف سيوفّق ترامب بين رغبته في التنسيق مع روسيا في الحرب ضد «داعش» فيما هو يزيد من حدة العداء ضد إيران، والتي تتشارك في العراق وسوريا في المعركة ضد «داعش»؟
كان جورج بوش في بداية عهده من دعاة الانكفاء الأميركي حول العالم. لكنه في غضون أشهر قليلة فقد بعد انتخابه، تحوّل إلى داع لتغيير العالم بالقوّة، ولم يكتفِ بحرب واحدة. قد يكتشف ترامب أن ليس هناك من حروب صغيرة، وأن التدخّلات تكبر (من لاوس وفيتنام إلى زمن العراق وليبيا أفغانستان). والغارة التي شنّتها قوّات البحريّة الأميركيّة الخاصّة في اليمن قبل أيّام (والتي فشلت بكل المقاييس حتى باعتراف الصحافة الأميركيّة) يمكن أن تغيّر من قناعات ترامب بإمكانيّة استخدام القوّات الخاصّة في عمليّات سريّة وقليلة الكلفة (الكلفة تُحسب أميركيّا فقط). وكانت هذه فكرة دونالد رامسفلد في أيّام قبل زيادة عدد القوّات الأميركيّة في العراق).
لا نتعاطى مع رجل عادي هذه المرّة. قيل الكثير عن جنون جورج دبليو بوش. لكن هذا رجل يصعب تصنيفه. هو أذهل الأميركيّين قبل أيّام عندما اعترف أن أميركا هي مثل روسيا، «قاتلة». الاعتراف بالذنب في قضايا القتل ليس من شيم الأميركيّين (ثار ضدّه على هذه العبارة جمهوريّون وديموقراطيّون). لكن إشاراته متناقضة: إذا كان اعتبر أن الحرب في العراق حوّلت أميركا إلى قاتل، فكيف يتهوّر في زيادة منسوب التوّتر في أيام معدودة مع كوريا الشمالية ومع الصين ومع إيران ومع المكسيك ومع أستراليا؟ أم أنه يكتفي بالحروب اللفظيّة لأنها عنده بموازاة الحروب العسكريّة، أو هي بديل منها؟ يبدو أن ترامب سيتسبّب بكارثة ما قبل أن يرعوي. لكن ما هو الثمن الذي سيدفعه العالم (خصوصاً العالم العربي أو الإسلامي، أو الاثنيْن معاً) قبل أن يرعوي؟

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)