الاستنفار الطائفي بعنوان مسيحي (ماروني خصوصاً) بلغ ذروته مع «إعلان النوايا» بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» قبل أكثر من سنة. وهو تبلور وتعمَّق، بعد ذلك، في احتفالات «عودة» الرئيس ميشال عون إلى «قصر الشعب» في بعبدا.
ظلَّت ردود الفعل على تلك التعبئة الطائفية بعنوان مسيحي، كامنة حتى اندلع الصراع حول قانون الانتخابات النيابية التي ينتهي مفعول التمديد الثاني لمجلسها (المنتخب في ربيع عام 2009 )، في أواخر شهر أيار القادم. إحداث تعديل في قانون الانتخاب بما يواصل التعبئة الطائفية المشار إليها ويكرس نتائجها في المجلس العتيد هو مصدر التوتر الرئيسي الراهن والذي يعيق إطلاق العملية الانتخابية بالشكل التقليدي المعتاد. نسوق هذا الإستنتاج المبكر، لأن الفريق الأكثر إلحاحاً على رفض «قانون الستين» اليوم، هو نفسه الذي كان اعتبر إعتماده عام 2009 شرطاً لصحة التمثيل المسيحي.
روَّج فريق رئيس الجمهورية إلى أن الحكومة الحالية ليست هي حكومة العهد. حكومته الأولى، ستكون الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات النيابية في أوائل الصيف المقبل. ذلك يعني بأن الانتخابات النيابية المقبلة يجب أن تفرز ميزان قوى جديداً في البلاد. لكي يكون الأمر كذلك، لا بد أن يقرر فريق العهد، وهو حالياً ثنائي حزب «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية»، مصير التمثيل المسيحي في المجلس القادم بنسبة لا تقل عن 85%. مثل هذه النسبة ستجعل الثنائي الطائفي الجديد الكتلة الأكبر في المجلس النيابي. وسيكون بإمكان هذه الكتلة، وسط الانقسام المرشح للاستمرار بين ممثلي المسلمين السنة والشيعة في لبنان وخارجه، أن تحدد التوجهات العامة للبلاد: في المسائل السياسية والإدارية، الداخلية والخارجية، الاقتصادية والأمنية...
هذا التخطيط الذي توسل شعار «الميثاقية» وتحقيق فعلي لـ«المناصفة»، هو ما يوجه في الشعار والممارسة، في السر وفي العلن، علاقات ومواقف «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» بشكل رئيسي: من صيغة قانون الانتخاب، إلى مشروع التعيينات في الأسلاك المختلفة، إلى استنفار المغتربين من أجل العودة إلى لبنان بهدف تقليص الإختلال الديموغرافي (السكاني) الذي يتفاقم يوماً بعد يوم لغير مصلحة المسيحيين ويضعف أساس «المناصفة» ويهددها لاحقاً.
ما هو القانون الذي يخدم هذا التوجه. إنه، بالأفضلية، «القانون الأرثوذكسي» حيث، على قاعدة التمثيل النسبي، تنتخب كل طائفة نوابها (النسبية هنا لتحجيم «تيار المردة» وحزب «الكتائب»). الصيغ الأخرى التي تمَّ عرض العشرات منها في «اللجنة الرباعية» المشكلة من ممثلي «حزب الله» وحركة «أمل» والتيار «العوني» و«القوات»، تخدم الهدف نفسه. النسبية التي جرى الحديث عنها في صيغة شاملة أو جزئية (عبر مشاريع المختلط بين النسبي والأكثري)، تركِّز، هي الأخرى، على الهدف نفسه وإن بوسائل مختلفة: هي، عموماً، تستنفر العصبيات وتشتت المشتركات الوطنية والقوى التي تعبر عنها.
أثار هذا الأمر جدلاً ضمنياً، ما لبث أن تحول إلى خلاف علني ذي نكهة «طائفية» تزداد يوماً بعد يوم. اعتبر زعيم «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط بأن طائفة الموحدين الدروز مُستهدفة من خلال الطبخات الانتخابية التي يجري إعدادها. «تيار المستقبل» بدوره، عارض إحداث تعديلات جذرية في التوازنات القائمة، عبر الصيغ المقترحة، متمسكاً بقانون «الستين» ومحذراً (على لسان الوزير نهاد المشنوق) من أن يصبح مقام رئاسة الجمهورية موضع خلاف بين اللبنانيين بسبب مواقف الرئيس عون، ومنها التهديد بالفراغ إذا اعتُمد «الستين». باستثناء «حزب الله» الذي يعبِّر عن موقف مبدئي، ولو بصيغ مرنة ومنفتحة على كل بحث قد يؤدي إلى الشيء أو نقيضه، يشارك الرئيس نبيه بري «تيار المستقبل» و«اللقاء الديموقراطي» (فضلاً عن «الكتائب» و«الأحرار» و«المردة» ومستقلين من ضفتي التخندق السابق...) القلق بشأن إحداث تعديل كبير في التوازنات التي استقرت منذ «الطائف» حتى اليوم. نذكر بأن حدثاً كبيراً بحجم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مثلاً، لم يبدل في تلك التوازنات. لقد أشرنا إلى هذا الأمر بشكل مبكِّر حين لاحظنا أن الجمع ما بين الرئاسة و«الميثاقية» هو أمر صعب وسيواجه بمقاومة من المتضررين وهم كثر في منظومة المحاصصة الراهنة. ثم أن الصفقات التي عقدها الرئيس عون وفريقه، في اتجاهات متعاكسة، كان من شأنها، بالطبع أن تفرمل الاندفاعة السياسية والإعلامية التي يواصلها حزبه بتعاون وثيق مع حزب «القوات اللبنانية.
بكلامٍ آخر، منطق «الميثاقية» الطائفية كما يُعبر عنها في «الوجدان» والوعود و«الأحلام» التي بدأت «تحقق» هو منطق «انعزالي» (مجدداً؟!). وراء ذلك جموح ووهم بإمكانية تحقيق مكاسب في السلطة والإدارة عبر التوحد بالعصبية وبالمراهنة على استمرار انقسام الآخرين. لا يلتفت هذا المنطق إلى العوامل الموضوعية التي تحكم سير الأحداث على الصعيدين الداخلي والخارجي. لا يعبأ أصحابه بما يمكن أن يولِّده الصراع الطائفي من توترات سياسية وأمنية وإستجرار للتدخلات الخارجية (بعضها اليوم يتجسد في الإرهاب المنفلت من كل عقل وعقال). هم لا يعبأون، بالضرورة أيضاً، بالشروط السليمة لتقدم البلاد وتوحيدها وتعزيز اللحمة الوطنية بين أبنائها: على أسس المساواة في المواطنة لا المحاصصة والصراعات بين أمراء الطوائف، وعلى أساس بناء دولة قانون ومؤسسات، راسخة ومستقلة، يستظلها جميع اللبنانيين في مناخ من العدالة والحرية.
«النسبية» في قانون الانتخاب، كانت مطلباً تاريخياً للقوى الوطنية الديموقراطية. وهي باتت اليوم سلعة هجينة لا وظيفة لها إلاَّ تعميق الفرز الطائفي وتعزيز الانقسام والتبعية.
ليس إصلاحياً، من لا ينطلق من الدستور في محاولة إقرار قانون انتخاب جديد. الدستور الذي أُهمل طيلة عقدين ونصف العقد يتعرض الآن لعملية تشويه جديدة مقززة، يقف فيها التاريخ على رأسه بدل أن يقف على قدميه (الاستعارة من ماركس). ينص الدستور في المواد 22 و24 و95 (خصوصاً) على إلغاء القيد الطائفي من المؤسسات جميعاً، السياسية والإدارية والأمنية... وإنشاء «مجلس شيوخ» لمتابعة شؤون ذات صفة مصيرية بسبب تراكمات قديمة أو هواجس راهنة. كان يجب أن يحصل ذلك من قبل مجلس نواب عام 1992 المشكّل على أساس المناصفة. يذهب البحث الآن من قبل «الإصلاحيين» في اتجاه معاكس تماماً. حتى النسبية التي هي أساس في صحة التمثيل، يجري تعهيرها لتتحول أداة إضافية لتشويه التمثيل.
ثم ماذا عن وحدة لبنان واللبنانيين إذا كان نوابهم يُنتخبون، ليس بوصفهم نواباً لكل الشعب، بل لفريق منه على أساس طائفي أو مذهبي. وهل سيكون رئيس الجمهورية، مثلاً، رئيساً لكل لبنان إذا انتخبته أكثرية نواب «ملته» وليس أكثرية مجلس النواب اللبناني (وفق الدستور).
لم «يركب» البلد، بعد، بهذا القدر المحدود من التطييف والمذهبية. هو عانى من توترات دائمة، سياسية وأمنية، بينها حرب أهلية دامية ومدمرة استمرت 15 عاماً. كيف سيكون الأمر إذا عُمّمت الطائفية في كل جوانب الحياة والنشاط كما يطالب أمراء المحاصصة القدماء والجدد!
كل المحاصصين يتحملون مسؤولية التدهور الراهن والمخاطر المتوقعة. هم مسؤولون، بالتساوي، عن حالة الانقسام والتفكك والفشل التي تعيشها البلاد.
الإصلاح والتغيير يبدأ من هذا وليس من تعديل الحصص والتوازنات بالعصبية والانقسام والتبعية للخارج.
* كاتب وسياسي لبناني