أحداث الأسبوع الماضي بين واشنطن وطهران، وردود الفعل عليها، تعيد التأكيد على المعادلة الكبرى التي تحكم السّياسة في منطقتنا منذ سنوات: يوجد معسكرٌ يمثّل السياسة الأميركية، كان يسمّي نفسه «محور الإعتدال»، وهو يعتبر أنّ الإمكانيّة الوحيدة لإعادة فرض سيطرته والـ»باكس اميريكانا» في المنطقة، على حساب معسكر «العدو» (الذي يسمّي نفسه «محور المقاومة») لن تكون الّا على شكل ضربةٍ غربية ــــ أو اسرائيلية ــــ تكسر ايران، أو تُسقط النّظام في سوريا، أو تُنهي المقاومة في لبنان.
تفاعل النخب الخليجيّة، مؤخّراً، مع تهديدات ترامب لايران، واستعدادهم لتناسي كلّ ما يمثّله ترامب، وكلّ ما قاله عنهم تحديداً، مقابل أن يحقّق لهم أمنيتهم ويُرسل جيشه الى الخليج ويضرب طهران، كان عرضاً يكشف لنا بجلاء النّظرة السياسيّة لهذه الفئة، ومحتوى آمالها وطموحها، وخططها ورهاناتها.
من ناحيةٍ أخرى، فقد صادف أن بداية عهد دونالد ترامب، وانطلاق تهديدات إدارته لطهران، قد ترافق مع ذكرى الثورة الإسلاميّة، التي يسبقها في كلّ سنةٍ «أسبوع عسكريّ» كامل، تجري فيه مناورات ضخمة للحرس الثوري والجيش، ويتمّ فيه ــــ اعتيادياً ــــ الكشف عن أسلحةٍ ومشاريع دفاعية جديدة. ويكون مستوى السّلاح والخطاب، في كلّ سنة، مرتبطاً بالسياق السياسي العالمي وسقف التهديدات الغربية. من هنا، يبدو أنّ عروض هذا العام ستكون استثنائية، وقد افتتحت المناورات الجويّة (تحت مسمّاها التقليدي، «المدافعون عن سماء الولاية») بالكشف عن أنظمةٍ حديثةٍ مضادة للطيران، ورادارات جديدة، وتقنيات خاصّة لكشف الطائرات الخفيّة التي قد يرسلها ترامب لضرب أهدافٍ في ايران ــــ وكلّ هذا ينطوي على رسائل سياسيّة واضحة.

سياقٌ جديد

لا داعي لتكرار لازمة أنّه لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بشكل «الحرب القادمة» ومسارها، وأنّ أكثر ما نقرأه في إعلام العدو هو إمّا تضليلٌ أو تهويل. وحتّى حين يعترف الصهاينة بقوّة المقاومة أو يحذّرون من خطرها على جيشهم وجبهتهم الدّاخليّة، فهذا لا يكون توصيفاً صادقاً للأحوال بقدر ما هو دعاية لغايات سياسيّة، تتعلق بالوضع الداخلي أو دعم الجيش أو الدّفع لشراء أنظمةٍ دفاعية معيّنة (والحال نفسها في الإعلام الأميركي وتحليلاته عن قوّة روسيا والصّين). قبل حرب 2006، مثلاً، لم يكن أحدٌ يتوقّع أن تستخدم المقاومة اللبنانية الـ»كورنيت» والصواريخ المتقدّمة المضادّة للسفن، وأن تستمرّ بقصف عمق اسرائيل بلا توقّفٍ حتّى نهاية الحرب؛ والتحوّلات التي جرت في العشرية الماضية قد خلقت، بالمعنى العسكري والسياسي، سياقاً جديداً بالكامل قلّما نقرأ عنه في الإعلام.
فلنأخذ الحرب السوريّة مثالاً. الكثير من المحلّلين يقولون إنّ «حزب الله» قد أُشغل في سوريا، وتراكمت خسائره، ولن يعود قادراً على الدّفاع عن جبهته حين تغزوه اسرائيل. البعض الآخر يردّ بالقول إنّ المقاومة اللبنانية اكتسبت خبرةً هائلة في سوريا، ودرّبت أجيالاً من المحاربين المتمرّسين، وحشدت مقاتلين جدداً يفوقون، بأضعافٍ، مقدار الخسائر. ولكنّ هناك جوانب أخرى، وأهمّ، للزلزال السياسي الذي ضرب بلادنا وغيّر كلّ شيء فيها، لا يتمّ طرقه في هذه «الحسابات». حين يقاتل اللبنانيّون اليوم، في سوريا وفي العراق، الى جانب آلاف العراقيين، ويشكّلون قيادات موحّدة وينظّمون سويّة ويحاربون على الجّبهات، فهل هذا لا أثر له على المعادلة بين لبنان والعدوّ الصهيوني؟ هل تعتقدون أنّ العراقي، الذي يقاتل في سوريا ضدّ السلفيين، ليس مستعدّاً للتطوّع إن لزم، وبالآلاف، لرفد الجبهة في لبنان ضدّ الصهاينة؟ وهل تعتقدون أن اسرائيل، حين تخطّط للحرب، لا تأخذ هذه العوامل المحدثة في الحسبان؟
في الماضي، كانت الحرب الاسرائيلية على لبنان تعني لتل ابيب، عسكرياً، حرباً محدودةً ضدّ قوّة معزولة، قد تتلقّى المدد والسّلاح من سوريا ولكنّ الدّولة السوريّة لن تتورّط في حربٍ غير متكافئة الى جانبها. اليوم، الوضع أصبح مختلفاً بالكامل، ومن يعرف شيئاً عن الخريطة العسكرية التي ترتسم على الأرض، بين المتوسّط ونينوى، يفهم أن الحرب القادمة لن تشبه بشيءٍِ حروب الماضي. المقاتلون العراقيّون الذين صاروا أخوة سلاحٍ للمقاومة ليسوا دولةً لها مسؤوليات وكوابح، ولا تخيفهم اسرائيل؛ ولو قاتلوا في الجّنوب، وصار لهم شهداء، وتحمّس لهم أهلهم، تكون اسرائيل قد كسبت عداوةً لن تعرف آخرتها. هذا، قبل الصّواريخ والعتاد، هو أهمّ ما طرأ على ميزان الحرب في السنوات الماضية.

«فجر» و»عماد»

باعتبار أنّنا نميل الى الثقة بشهادات أعدائنا، من الممكن الإحالة الى افتتاحية صدرت مؤخراً في «واشنطن بوست» تحذّر دونالد ترامب من أنّ ايران التي ينوي المواجهة معها تختلف نوعياً عن ايران التي عرفها سلفه قبل ثماني سنوات. اعتمد المقال على دراسة حديثة لـ»معهد دراسة الحرب» الأميركي يوصّف التطوّرات في العقيدة العسكرية للحرس الثوري الايراني، والخبرات التي اكتسبها في سوريا. الخلاصة الأساسية للدراسة هي أنّ تجربة سوريا قد خلقت، تدريجياً، نظاماً يقاتل ضمنه الايرانيون والعراقيون والسوريون واللبنانيون سويّة، وقادرٌ على التنسيق بين تنظيمات وجنسيات مختلفة. وأنّ ايران، للمرّة الأولى في تاريخها الحديث، أصبحت قادرة على ادارة عمليات عسكرية في أقاليم تبعد مئات الأميال عن حدودها، وهو نموذجٌ من الممكن إعادة تطبيقه في مواقع أخرى. تضيف الدراسة أنّ الايرانيين قد تقصّدوا أن تمرّ في سوريا وحداتٌ من مختلف التشكيلات والألوية (من الجيش الرسمي ــــ الآرتش ــــ الى الحرس الثوري والباسيج)، ولم يعتمدوا على قوّة محدّدة مخصوصة، بهدف أن تنتشر هذه الخبرة القتالية بالتوازي مع تفعيل العقيدة الحربية الجديدة للحرس الثوري، والتي بدأ العمل بها منذ عام 2010 (وهي، يقول التقرير، عبارة عن إعادة هيكلة لوحدات الحرس بحيث تعمل بشكلٍ لامركزيٍّ ومرن، وتقدر على تنظيم القتال ضدّ عدوٍّ غربيّ ولو تعرّض البلد الى ضربةٍ جوية كاسحة).
فكرة أنّ ايران، التي تتحضّر باستمرارٍ لغزوٍ غربيٍّ محتمل، تصبح «أكثر خطراً» كلّ بضع سنوات ليست جديدة. الإعلام الأميركي ضجّ بخبر التجربة البالستية الايرانية قبل اسبوع، ولكنّ المهمّ هنا هو ليس تجربة صاروخٍ جديد (أعلن العسكريون الايرانيون عن تطوير أجيال مستقبلية من الصواريخ البالستية، على نمط عائلة «شهاب» و»سجيل»). فإيران قادرةٌ ــــ منذ زمن ــــ على أن تطال أعداءها المحتملين، ومعهم أكثر القواعد الأميركية في المنطقة، وهذه صواريخ دخلت الانتاج منذ فترةٍ طويلة وتراكمت منها أعدادٌ كبيرة. ما طرأ في السّنوات الماضية يتعلّق بدقّة هذه الصواريخ وتأثيرها، وهو يغيّر كامل معنى المنظومة الصاروخية. صاروخ «عماد»، الذي كشفت عنه طهران السّنة الماضية، ليس صاروخاً جديداً، بل هو ــــ فعلياً ــــ عبارةٌ عن رأس حربيّ حديث، يملك نفّاثاتٍ ويناور بعد أن ينفصل عن جسد الصّاروخ، وقادرٌ على توجيه نفسه وضرب أهداف بدقّة عالية. بدلاً أن تكون دائرة الخطأ بمئات الأمتار على الأقل، كما هي حال الصواريخ البالستية التي لا تحوي «توجيهاً نهائياً» للرأس الحربي، تصبح بالأمتار القليلة. الفكرة هي أنّ هذه التقنية تركّب بسهولة على الصواريخ القديمة لتحديثها؛ وبدلاً من أن تضطرّ لإمطار الهدف بعشرات الصّواريخ لضمان إصابته، كما كانت الخطة التقليدية، يصير كلّ صاروخٍ أقرب الى قنبلة «ذكيّة» موجّهة.
في الوقت نفسه، أعلنت صحيفة المانية عن تجربة ايران لصاروخٍ جوّال، يمثّل ايضاً معادلةً جديدة. الصّاروخ، يسمّيه الايرانيّون «سومر»، له قصّة مثيرة. في التسعينيات في اوكرانيا، اختفت عشرات الصواريخ الجوالة من طراز KH-55 (وهو شبيه الى حدٍّ ما بالـ»توماهوك» الأميركي) من قاعدة لأحد الأسراب الاستراتيجية السوفياتية. تمّ اعتقال عددٍ من المسؤولين الأوكران والروس ومحاكمتهم في القضيّة، واعترفوا ببيع الصواريخ الى زبائن أجانب، ويقال إن ما بين 12 وعشرين صاروخاً اقتسمتها ايران والصّين. عام 2015، عرضت ايران صوراً لخطّ انتاج «سومر»، الذي يشبه الصاروخ السوفياتي تماماً، باستثناء أنه مصمّمٌ للإطلاق من قاعدة أرضية، وليس من طائرة. نحن هنا نتكلّم على صاروخٍ مداه بين الألفين والثلاثة آلاف كيلومتر، يطير على ارتفاعٍ منخفض ويستهدي بالتضاريس الأرضية، ولا تنفع لمواجهته كل الوسائط التي تحمي من الصواريخ البالستية. على مستوىً موازٍ، وفي رسالة تقنية ذات مضمون سياسي ايضاً، أعلنت طهران أنها قد بدأت باختبار الجيل الجديد من أجهزة الطّرد المركزي الذي يستخدم للتخصيب (وتطوير هذه الأجيال الجديدة يسمح به الاتفاق النووي)، والايرانيون يدّعون أنّ النموذج الحديث من أجهزة الطّرد، IR-8، لديه قدرة تخصيبٍ تفوق تلك الحالية بعشرين مرّة (أي أنّ مصفوفةً من ألف جهاز طرد، فقط، توازي العشرين ألف جهازٍ التي تشغّلها ايران اليوم).

أسلحة الفقراء

أمّا في ما يعنينا في لبنان من هذه «العروض العسكرية»، فقد برز سلاحان سينتبه اليهما الصهاينة. الأوّل هو صاروخٌ متقدّمٌ مضادّ للطيران يُطلق عن الكتف، والثاني هو الجيل الجديد من صواريخ «فجر ــــ 5» (التي ضرب اللبنانيون بها حيفا عام 2006، والفلسطينيون تل ابيب عام 2014)؛ والذي كان عبارةً عن قذيفة راجمةٍ بدائيّة وأصبح بشكله الجديد، كالصواريخ البالستية أعلاه، صاروخاً موجّهاً «ذكياً»، يقدر على إرسال شحنةٍ متفجرة وزنها مئتا كيلوغرام الى أكثر من 150 كيلومتراً، وبدقّةٍ تقلّ عن عشرات الأمتار. على الهامش: السّلاح يبدو أنّه نسخةٌ عن صاروخٍ صينيّ اسمه SY-300. المسافة القصيرة بين تايوان والبرّ الصيني دفعت بيجينغ الى تطوير أسلحةٍ صاروخية خفيفة وبسيطة وقصيرة المدى، ولكنها موجّهة ودقيقة، تقدر على استبدال الصواريخ البالستية المعقّدة والضخمة وتحقيق أثرٍ أفعل (فأنت تقدر على رمي أكثر من ستة صواريخٍ من طراز «فجر ــــ 5» في رشقة واحدة، ومن على شاحنةٍ صغيرة، بينما الصاروخ البالستي يحتاج الى جهدٍ وتحضير). سيناريو المواجهة بين تايوان والصّين يشبه، للمصادفة، حاجات ايران العسكرية في محيطها و، بشكلٍ أكثر مثالية، حاجتنا في وجه اسرائيل ــــ وايضاً سيناريو المواجهة بين كوريا الشمالية وسيول (وكلّ هذه القوى قد عرضت نسخةً محليّة من الصاروخ الصيني المذكور).
بالمقاييس الغربيّة، هذه كلّها تقنيّات متواضعة ورخيصة الثمن (كلفة سربٍ أو اثنين من الطائرات السعودية أكثر من كامل المنظومة الصاروخية في ايران)، ولكّنها كلّ ما في وسع الفقراء أن يشهروه في وجه أعدائهم. وكسر الاحتكار التكنولوجي في المجال العسكريّ ليس هيّناً ولا يأتي بسهولة، وكلّ تقدّمٍ تقنيّ بسيطٍ يعطي المُدافع، في هذه الحالة، دفعاً نوعياً في الميدان. الّا أنّ السّلاح الأقوى للفقراء يظلّ، تاريخياً، في تنظيمهم وعددهم وارادتهم؛ ومن هذه الزاوية تحديداً يمكن أن نجزم بأنّ اسرائيل أو الغرب (أو الإثنين معاً) سيواجهون في الحرب القادمة ــــ وهي آتية، طال الزمان أو قصر ــــ جيلاً جديداً وصراعاً من نوعٍ مختلف، من ريف العمارة الى قرى بنت جبيل.