أصبحت صنعة التأريخ في وقتنا الحاضر أشبه ما تكون بأركيولوجيا معرفيّة، تنقّب في ما بعد الحدث المباشر بحثاً عن التيارات والخطوط العريضة التي أفرزت حالة تاريخيّة معينة، ولم يعد مقبولاً للعقل المعاصر نسب التحولات التاريخيّة الكبرى إلى أحداث صغيرة بعينها، مهما كانت تلك الأحداث شديدة الإيحاء والرمزيّة.
فاقتحام سجن الباستيل في الرابع عشر من تموز ١٧٨٩ لم يعد عند خبراء الثورة الفرنسيّة ذا قيمة تذكر في محاولة فهمهم للتحولات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي ألمت بالمجتمع الفرنسي في مرحلة بدايات نشوء المجتمع الرأسمالي المعاصر. وبالتأكيد فإن اقتحام ثلّة من البلاشفة الروس الشجعان للقصر الشتوي في سان بطرسبورغ ليلة السادس والعشرين من أكتوبر ١٩١٧ لم يكن سوى نبضة صغيرة في سياق ثوري متصاعد في روسيا، تشكّل عبر عقود سابقة لتلك الليلة الخريفيّة الجميلة.
مع ذلك، فإنه ما يزال مغرياً ــ أقله في السرديّات التاريخيّة الشعبيّة ــ اتخاذ نقاط معزولة وأحداث مكثّفة بوصفها شرارات كان لا بدّ منها ربما لدفع عجلة التحولات التاريخيّة المتراكمة نحو تغيرات نوعية. فالطلقات القليلة التي قتلت فرانز فرديناند، أرشيدوق النمسا في سيراييفو في الثامن والعشرين من حزيران ١٩١٤، بدت، في حينه على الأقل، وكأنّها الحادثة التي كانت الأجواء السياسيّة المتأزمة بين برجوازيّات أوروبا المتنافسة بانتظارها لإطلاق حرب عالميّة عبثية قضى فيها عدة ملايين من البشر.
"البريكست" (الاستفتاء الشعبي البريطاني على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والذي أجري في الثالث والعشرين من حزيران ٢٠١٦) ينتمي بالتأكيد إلى ذات نوعيّة الأحداث الرمزيّة المكثفة، التي ستُرى في سياق نشوء النظام العالمي "الترامبي" الجديد في الدراسات التاريخيّة مستقبلاً وكأنها طلقات غافريلو برنسيب الغادرة في سيراييفو في بدايات القرن العشرين. فمنذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة وإلى وقت قريب، كانت سياسة الإمبراطوريّة الأميركيّة تقوم على نظريّة توحيد كل الدول الرأسماليّة الكبرى ــ ومناطق نفوذها في أشباه الدول ــ في نطاق معولم هائل، عابر للحدود القوميّة، وضمن تنظيم شديد التعقيد لمنظمات إقليميّة كان أهمها بالطبع الاتحاد الأوروبي، بوصفه "الميكانيزم" الذي تدير من خلاله واشنطن أهم تجمع للبرجوازيات في العالم، وفي ذات الوقت تواجه من خلاله ــ على الأرض ــ التهديد الذي مثلّته الفكرة النظرّية للاتحاد السوفياتي كإمبراطوريّة نقيضة، وطريق ثانٍ ممكن لتطور البشريّة. لقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً هائلة لمصلحة ضم بريطانيا للمجموعة الأوروبيّة كأداتها المثاليّة لمنع تحول ذلك "الميكانيزم" الإداري إلى عملاق أوروبي عبر تقارب حقيقي بين ألمانيا وفرنسا، يمكن أن ينافس المركز الإمبراطوري في يوم من الأيام.
هذه الصيغة الإداريّة من أعمال الإمبراطوريّة بدأت تفقد مبررات وجودها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في ١٩٩١ وتحوّل روسيا إلى دولة رأسماليّة أخرى، وبشكل أوضح بعد الأزمة الماليّة العالميّة في ٢٠٠٨، بعدما تأكد فشل ألمانيا في فرض أي صيغة أوروبيّة موحدة على شكل استجابة الاتحاد الأوروبي للأزمة العاصفة واكتفائها بحماية مصالح الرأسمال الألماني فحسب، وهو ما تسبب بفقدان ثقة عميق بالألمان من قبل الشركاء المعدمين في شريط أوروبا الجنوبي من أثينا إلى لشبونة، وجعل مسألة خروج، أو حتى طرد، بعض الدول من الاتحاد مسألة وقت لا أكثر. وهكذا، كان لترامب أن يتساءل اليوم عن معنى بقاء مؤسسات غير ذات صلة ــ على حد تعبيره ــ كالاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، وكلّها يمثل تكلفة على حسابات الإمبراطوريّة بينما هي الفضاءات التي كادت أن تكون الحاضنة الممكنة لقيام "ولايات متحدة" أوروبيّة منافسة بقيادة ألمانيّة لو أن مكر التاريخ أخذنا هناك. وهكذا تبدو توجهات الإمبراطوريّة الأميركيّة في العهد الترامبي واضحة في الانتهاء من الاتحاد الأوروبي، وإلزام التابع البريطاني باستكمال عمليّة الخروج من الاتحاد ــ رغم المعارضة الشعبيّة المحليّة المتسعة لذلك ــ، والتمهيد لتصعيد سياسيي اليمين في انتخابات أوروبا المحليّة (خاصة ماري لو بين، مرشحة اليمين الفرنسي المتطرف إلى انتخابات الرئاسة الفرنسيّة المقبلة، وهي التي وعدت في حال انتخابها بعمل "فريكست"، أي استفتاء فرنسي حول البقاء في الاتحاد الأوروبي على نسق "البريكست" البريطاني).

قامت سياسة الإمبراطوريّة الأميركيّة على توحيد الدول الرأسماليّة الكبرى في نطاق معولم



القادة الأوروبيّون الذين صعقوا من تحولات السياسة الخارجيّة الأميركية الحاسمة والتي خالفت ما اعتادوا عليه لسبعين عاماً، يعلمون تماماً أن عليهم أن ينخرطوا في مواجهة كبرى الآن إن هم رغبوا في حماية مصالحهم البرجوازيّة في مواجهة "الغول" الأميركي. وبدأنا نسمع فعلاً لغة معادية للمشروع الأميركي على ألسنة نخبة القارة السياسيّة لم تكن واردة قبل أشهر قليلة. جاي فيرهوفستات، رئيس وزراء بلجيكا السابق والمفاوض المعين عن الاتحاد الأوروبي لإدارة "البريكست" يقول مثلاً في محاضرته الأسبوع الماضي في لندن إن "ترامب يمثل تهديداً ثالثاً لأوروبا إلى جانب روسيا فلاديمير بوتين والتطرف الإسلامي"، وهو حذّر من أن ستيف بانون ــ المنظر الأهم في جوقة ترامب ــ وعضو مجلس الأمن القومي الأميركي ــ عازم على تفكيك الاتحاد الأوروبي، ويدفع باتجاه إعادة تنظيم أوروبا حول الهويات القوميّة، "في قارة قدمت عشرات الملايين من الأرواح بسبب القوميّات وسياسات التطهير العرقي".
فيرهوفستات، ومثله قادة أوروبيون آخرون، يرون في البريكست فرصة "ذهبيّة" تاريخيّة قد لا تتكرر أمام أوروبا للتخلص من البريطاني المشاغب بسرعة، والتركيز على إعادة ترتيب البيت الأوروبي بل، وربما الدّفع باتجاه تشبيك أوثق بين دوله على مستوى يأخذ الاتحاد إلى مرحلة ثانية متقدمة تجعل من مساهمة أوروبا في الشراكة العالميّة عبر الناتو مساهمة الند للند مقابل العملاق الأميركي، بدلاً من علاقة التبعيّة ــ الذليلة ــ التي استمرت عقوداً. وهو ما ردده جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبي، عندما قال إن أوروبا لا يمكنها الاستمرار في الاعتماد في حماية أمنها على "الآخرين" داعياً إلى تنسيق أعمق في إدارة منظومات الدفاع ــ حيث أوروبا تشغّل ١٥٤ منظومة مختلفة بين مجموع دولها، بينما يشغّل الأميركيون المهيمنون على معظم الكوكب ٢٧ منظومة فقط. الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي يعيش آخر أشهر في منصبه، كان أوضح قليلاً من الجميع في أحاديثه سواء حول "البريكست" أو السياسات الحمائية الأميركيّة، وهو اعتبر سياسات ترامب الانعزاليّة بمثابة "فيروس" أميركي لا يتوافق مع "الجينوم" الأوروبي.
صيغة الاستجابة للتحدي الأميركي كما يقول الخبراء الأوروبيّون ينبغي لها أن تأخذ شكل سياسة نهوض اقتصاديّ أوروبيّ شامل على نسق الاستجابة الأميركيّة للأزمة الماليّة العالميّة من حيث تنظيف الديون العالقة منذ وقت الأزمة، والإنفاق الواسع على مشاريع البنية التحتية عبر القارة لامتصاص البطالة، وتخفيف إجراءات التقشف التي كانت أفقدت القيادات الأوروبيّة شعبيتها خلال العقد الماضي، وربما بناء تحالفات اقتصاديّة أوثق مع شركاء خارجيين أيضاً. "بريطانيا بتحولها إلى دولة تابعة للأميركي"، يقول ماريو جيرو نائب وزير الخارجية الإيطالي، "فإنها تدفعنا بالتأكيد إلى ما سيكون حرباً اقتصادية باردة وصراع مصالح" بين أوروبا من جهة والولايات المتحدة وتابعتها بريطانيا من جهة أخرى.
الأميركيون لا يظهرون في المقابل أي تردد في توجهاتهم العدائيّة الجديدة. فقد شن بيتر نافارو، رئيس مجلس التجارة القومي الأميركي الجديد، في أول مقابلة له مع "فايننشال تايمز" بعد تعيينه، هجوماً سافراً على ألمانيا، معتبراً أن "اليورو هو مارك ألماني متنكر"، وأن "القيمة المنخفضة لليورو مقابل الدولار الأميركي تعطي ميزة تفضيليّة للاقتصاد الألماني"، و"تسمح لألمانيا باستغلال الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين الآخرين"!. نافارو كان صريحاً في تحديد رؤية الولايات المتحدة لألمانيا كأحد المعوقات الرئيسة التي تمنع بناء علاقات اقتصادية أوثق مع أوروبا بسبب ميلان ميزان التجارة الألماني دائماً لمصلحة برلين على حساب الجميع. محاولة أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانيّة، تهدئة الأمور من خلال التعليق على تصريحات نافارو في مؤتمرها الصحافي مع رئيس وزراء السويد بأن "ألمانيا لا تدير اليورو، وأنها دفعت دائماً باتجاه بناء سياسة نقديّة مستقلة للبنك المركزي الأوروبي" لم تنفع كثيراً فيما يبدو، وكان جواب واشنطن سريعاً في فتح ملف شركة "فولكس فاجن" وشريكتها الصغرى "بوش" في مطالبات جديدة، رغم تسديد عملاق صناعة السيارات الألماني أكثر من ٢٠ ملياراً من الدولارات إلى حد الآن كتسويات وغرامات نتيجة قضية التحايل على نظام الانبعاثات في سياراتها المباعة في الولايات المتحدة. من الواضح أن قواعد اللعبة في العصر الترامبي ستختلف تماماً عنها في العقود السابقة، منذ الخمسينيات إلى اليوم، وما لم يتحرك القادة الأوروبيون بسرعة وحزم لبناء توازن قوى جديد يعطيهم أوراقاً أفضل في صراع تنافس البورجوازيات الذي لا ينتهي، فإنهم بالاتحاد الأوروبي بصيغته الحاليّة أو من دونه سيتحولون بحكم اتجاه الأحداث، إلى ملعب هامشي يحترب داخلياً، بينما تنتقل الأضواء إلى جدالات تعاون ــ تنافسي أكبر بين اللاعبين الكبار: الولايات المتحدة، وروسيا والصين، والذين لا يعاني أيّ منهم أزمات هويّة أو أخطار تقسيم وتفتيت.
* كاتب عربي