في مقالة سابقة («القضية الفلسطينية في ميزان حلب»، العدد ٣٠٨١ في ١٧ كانون الثاني ٢٠١٧)، تم الحديث باستفاضة عن الارتدادات السلبية لبعض المواقف الفلسطينية بشأن قضايا خارجية عموماً، ومنها على وجه التحديد سوريا، وكيف أن هذه المواقف ينتج عنها ردود فعل تنعكس على عموم القضية الفلسطينية، بدلاً من فصائل معينة أو أشخاص بحد ذاتهم، وذلك داخل بيئتين: الأولى الواسعة التي صارت تسمى في الإعلام الخليجي «أهل السنة»، والبيئة الأضيق حجماً، التي يصطلح عليها أحياناً ببيئة المقاومة أو بيئة الأقليات. وكما لا يصح الترويج لسردية أن الاضطهاد يمارس على «أهل السنة» الأوسع انتشاراً والأكثر حجماً وحدهم، لا يصح الادعاء أن جنون «داعش» و«النصرة» لم يمسّ هذه الفئة، بل أوقع فيها من القتلى والخراب أكثر من غيرها. مع ذلك، لا يُعفي الاستعراض والنقد (الفلسطيني) الداخلي ودراسة تراجع القضية الفلسطينية لدى تلك البيئة الواسعة، الكتّابَ والباحثين، من استطلاع التغيّر في مواقف البيئات الأصغر، لذلك سنركز على ما أصاب البيئة المقابلة، خاصة أن الحرب السورية استخرجت ما كان مدفوناً في الماضي القريب من شعور بالكره اتجاه الفلسطيني بعدما كانت «وحدة الحال والمصير» هي شعار المرحلة لسنوات، ولا سيما التي تراوحت ما بين حرب تموز 2006 وحرب غزة الأولى 2009.
هذه التغيرات، تحديداً في لبنان الذي يعامل الفلسطينيين معاملة دونيّة، أعادت النظرة العنصرية اللبنانية ــ لدى مجمل الطوائف ــ التي ترى في الفلسطيني خائناً جملة وتفصيلاً، مع موقف تعميميّ خطير لدى الطائفة الشيعية تحديداً، تكاد تعجز مرجعياتها وقياداتها عن احتوائه؛ هذا في حال افترضنا أن احتواءه محل إجماع لدى هذه النخبة الحاكمة لبيئة قدّمت كثيراً على طريق التحرير وفلسطين.
أما معاملة لبنان مع الفلسطينيين، فتستوجب وقفة خاصة، أقلّه بمقارنتها مع تجارب عربية عدة: الأردن، مثلاً، وُصف من البداية بأنه كيان وظيفي، وفعلاً نجح في وظيفته عبر استيعاب ملايين الفلسطينيين (ما بين 4 ــ 4.5 مليون) وتجنيس غالبيتهم وإبعادهم عن دائرة الصراع. مصر أيضاً رفعت يدها من اللاجئين إليها، إما عبر احتواء بعضهم في سيناء وتجنيسهم هناك مع التعامل معهم كمواطنين من درجة ثالثة، وإما بمنع أي حامل لـ«وثيقة السفر المصرية» من العودة إلى القاهرة في حال تجاوز غيابه عنها ستة أشهر إلا بتأشيرة دخول!

لا يُعقل أن يتأثر الفلسطينيون بالتحريض على الشيعة ولا يتأثر هؤلاء بما يُحكى عنهم

سوريا كانت على عكس ذلك، فقد وقفت بين حدّين حسّاسين استطاعت أن تخرج منهما بحلّ منطقي، فلا هي جنّست الفلسطيني ودخلت في مشروع التوطين، ولا هي أهانت الفلسطيني وحرمته ووضعته في ما يشبه «الغيتوهات»؛ بذلك يُفهم الوفاء من الفلسطيني ــ السوري لسوريا ولشعبها ولدولتها، وهو ما منع الفتنة أن تكبر بين الشعبين المتصاهرين والمتخالطين إلى حدّ بات لا يشعر فيه فلسطيني داخل سوريا بأنه غريب أو ضيف، وأتمنى أن ينكر أحد ذلك. بالعودة إلى لبنان، هنا كبرت كذبة التوطين حتى صارت مصدّقة لدى الطوائف جميعها، علماً بأنه مرت مراحل ما جُنّس فيها فلسطينيون بالجنسية اللبنانية بناء على حاجات سياسية ضيقة، ما يؤكد أن فزّاعة التوطين، التي هي أصلاً ليست مطلباً فلسطينياً، كذبة صدّقها ساستها وأرادوا أن يصدقها مرؤوسوهم.
لقد كان خطاب السيد حسن نصر الله، في «يوم القدس العالمي» عام 2013، الذي قال فيه جملته الشهيرة («نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نتخلى عن فلسطين...»)، خطاباً موجهاً في حقيقته إلى البيت الشيعي، وليس إلى «أهل السنة» كما حاول بعض البسطاء أو الدجّالين وضعه (الخطاب) في ذلك السياق آنذاك، وكان هذا ردّاً على ضجة كبيرة ومفتعلة تلت وتزامنت مع اشتداد التفجيرات الإرهابية التي استهدفت وتستهدف لبنان.
من المهم هنا التأمل في هذه الجزئية من الخطاب، وتكرارها ضمن السياق الذي أشرت إليه، أي أنها رسالة داخل البيت الشيعي. آنذاك، قال السيد: «نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم لن نتخلى عن فلسطين ولا عن شعب فلسطين ولا عن مقدسات الأمة في فلسطين. قولوا عنا رافضة، قولوا إرهابيين، قولوا مجرمين، قولوا ما شئتم واقتلونا تحت كل حجر ومدر، اقتلونا تحت كل حجر ومدر، اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة وعلى باب كل حسينية ومسجد... نحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك فلسطين».
لقد رسم نصر الله منذ ذلك الوقت القاعدة الأساسية في التعامل مع «الملف» الفلسطيني للسنوات المقبلة، وهي القاعدة التي ــ للأسف ــ مرهونة كما يبدو بحضوره وبتوصياته شخصياً، وهو ما يطرح السؤال الجوهري: هل حزب الله، وبيئة حزب الله في لبنان ومؤيدوه خارجها، سيبقون على هذه القاعدة والوفاء لفلسطين ما بعد سيّد المقاومة؟ (أطال الله في عمره وصحته). هذا السؤال مهم ويبقى برسم هذه البيئة والمسؤولين فيها، الذين بات لا يشعرنا كلامهم ــ رغم الخطابات والكليشيهات المكرّرة ــ أنهم على النسق نفسه مع السيد، بالإخلاص، أو بالهمة نفسها.
من الصحيح أن التفجيرات، التي نفّذها لبنانيون وفلسطينيون وسوريون ومن جنسيات أخرى، أدّت إلى رفع الاحتقان إلى أقصى درجاته، خاصة في ظل منظومة خلقت من الفلسطيني عدواً خفياً ومتربصاً، وبنت على ماضي «منظمة التحرير» رواية يصعب تفكيكها والتمحيص فيها اليوم. أصلاً، كيف يمكن علاج ذلك، ولدينا جيل لبناني قيادي من المحاربين القدامى في الحرب الأهلية قد لبس البدلات والقرافات وغسل يده من الدم؛ على أساس أنه دخل مرحلة جديدة وأن «ما فات مات»، وهو الآن يحكم لبنان في زمن صارت تحاصر أهله فيه القمامة دون حلّ لا في زمن «المعادلة الخشبية» ولا في زمن الفراغ ولا في «العهد الجديد»، بل لم يكلّف ذلك الجيل خاطره حتى الإجابة عن مصير المفقودين في تلك الحرب؟
كذلك كان لتفجير برج البراجنة الشهير، الذي نفذه أكثر من انتحاري وقضى فيه فلسطينيون، علامة بارزة في العلاقة الفلسطينية ــ اللبنانية، وفعلاً أثبت السيد نصر الله أنه ضابط الإيقاع في هذه القضية، وقد أعلن سابقاً أن الخائن كائناً ما كانت جنسيته لا يمثل دينه ولا طائفته ولا حتى عائلته، وذلك رغم أننا لا ننكر مبادرة جهات لبنانية وفلسطينية كثيرة إلى احتواء تداعيات ذلك التفجير، الذي لو كان قد حدث قرب مخيم آخر، كنهر البارد أو عين الحلوة، لأخذ منحى آخر. لعلّ السبب أن لشاتيلا ولبرج البراجنة سمة خاصة، مثل مخيمات أخرى في مدن ثانية، هي وجود مستوى أفضل من الاختلاط والتصاهر بين الفلسطينيين واللبنانيين، ولا سيما لدى الطبقات الفقيرة والمسحوقة التي تعرف حقاً ما هو معنى الموت، وقبله، تدرك كيف تكون الحياة مثل الأموات!
أيضاً، لا تزال قضية نهر البارد، التي شاركت في خلق أسبابها أيادٍ لبنانية مغرّرة وأيادٍ فلسطينية مغرَّر بها، علامة فارقة في التعاطي مع الفلسطينيين ــ اللبنانيين، ونظرة الأخيرين إلى التعامل اللبناني معهم. تكفي جولة سريعة على طريقة تغطية الصحافة اللبنانية، منذ ما بعد نهر البارد حتى اليوم، مع أي حدث أمني في هذه المخيمات، ليتبين حجم الضخّ في اللاوعي الشعبي اللبناني، وآثار ذلك على الطوائف كلّها، بلحاظ خصوصية تجربة كل طائفة مع «منظمة التحرير».
بعض الزملاء والأصدقاء، ممن لم تكن لديهم رغبة في خروج هذه المقالة من باب أنه يكفي بيئة المقاومة ما أصابها وأن الزمن كفيل بالعلاج، كانوا يصفون ما يصدر حالياً من أصوات شيعية تسبّ الفلسطينيين أو فلسطين ولا ترى فيها قضية مركزية، بل سبباً في كل الويلات، بأنها أصوات هامشية، رغم أنها بعضها صادر عن اعتقادات دينية متشددة لا ترى ــ مثلاً ــ في المسجد الأقصى في القدس إلا مسجداً أموياً (يُستند أيضاً إلى رواية ضعيفة ومرفوضة لدى الغالبية العلمائية في الحوزات عن كون الأقصى الذي عرج إليه الرسول محمد ــ ص ــ مسجداً في السماء لا في الأرض). ويدفعون عن وجهة نظرهم بالحديث عن أن كل ما يحدث «جعجعة في الهواء»، وحينما تأتي لحظة التكليف الشرعي ستجد كل الشيعة واقفين على بوابات التحرير، وأن ما يحدث حالياً ليس أكثر من ردّ فعل مرحلي بالقياس إلى ما يرونه عبر وسائل إعلام ومواقع (مثل وكالة «شهاب») تحرّض ضدهم في كل محطة وحدث.
لعلّ في هذا الاحتجاج بعض الصحة، ولكن المركَّب البشري/الإنساني يبقى طاغياً في ظل التشويش القائم على الجبهتين، بل لا يُعقل أن يتأثر الفلسطينيون بمواد التحريض على الشيعة ولا يتأثر هؤلاء بما يصدر من فلسطينيين كثر بشأنهم، أو بالرواية العراقية والكويتية عن الفلسطينيين، خاصة أنهم غير محصنين من ذلك، فضلاً على أن خطاب الكره كان موجوداً منذ عقدين، والأنكى أنه استحضر عام 2006 حينما لم تكن مصيبة «داعش» قد وقعت، وحينما كانت المواجهة مباشرة مع العدو الإسرائيلي.
إن الخطر هو أن تتحول المزحة، التي تقول إن أوّل من سيطلق النار على حزب الله عندما يحرر/يساهم في تحرير فلسطين هم الفلسطينيون أنفسهم، إلى قناعة تعشّش في عقول أبناء بيئة المقاومة سنّة وشيعة وغيرهم. هذه الإشكالية هي برسم الفلسطينيين أولاً وهم مسؤولون عن الإجابة عنها حتى لا تتحول إلى قناعة تمرّ عبر طرافة سمجة. كذلك الحال بالنسبة إلى الخطاب الغبي الذي صدر عن بعض فلسطينيين، وفحواه أنه لا حاجة لنا إلى فلسطين إذا كان حزب الله سيحرّرها، وهؤلاء تحديداً لا ينفع معهم سوى أن يُلقموا حجراً في أفواههم، التي أكلت بقصد أو بغير قصد من خير المقاومة، وهم اليوم يتناسون أنهم يؤيّدون بصوت عالٍ خيارات لا ترى في فلسطين إلا 10% من حدودها التاريخية، ويرون في التحرير عملية ترف!
من المهم التذكير بأنّ الدفاع عن القدس هو أولاً دفاع عن بيروت ودمشق وكل عواصم العرب، كما أنه من نافلة القول التذكير بالأطماع الإسرائيلية في كل ما تصل إليه اليد الصهيونية في المنطقة وحتى في قارات بعيدة، لكن يجب تذكير أي شخص يحاول تحميل الفلسطينيين «جميلة المقاومة» والدفاع عنهم، بأن من اتخذ قرار المقاومة والسير في طريق الشهادة انطلق أساساً من واجب ديني وإنساني وأخلاقي قبل كل شيء، هو الدفاع عن النفس العربية والمسلمة، وعن جغرافيا اعتدت عليها وتطمع فيها إسرائيل ليل نهار، ولم يفكر يوماً في ما له، بل ما عليه.
في المقابل، على الفلسطينيين فهْم واقعهم جيداً، ومحاولة الاسترخاء قليلاً لمراجعة مواقفهم ومعرفة العدوّ من الصديق، والحليف الوفي من الحليف الخادع، ثم عليهم أن يرجموا من قادتهم من وضعهم ويضعهم في مواجهات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وجعلت ذكرهم سبباً لكره العرب، وحوّلت جواز سفرهم إلى حالة ارتباك كبيرة في يد أي موظف جوازات عربي.
* من أسرة الأخبار