«من هنا، فإنّ مراكمة الثروة في قطبٍ ما تعني، في الوقت ذاته، مراكمةً للبؤس والشقاء والعبودية والجهل والتحطيم النفسي في القطب الآخر»كارل ماركس

«الرأسمالية من دون امبرياليّة هي استحالة»
اوتسا وبرابات باتنايك


في أوّل «يوم عملٍ» فعليٍّ له في البيت الأبيض، قام الرئيس الأميركي الجديد بالتوقيع على أمرٍ رئاسيّ ينهي المفاوضات حول مشروع الشراكة عبر المحيط الهادىء. بالنسبة الى الكثير من وسائل الإعلام، كان ذلك فعلاً رمزياً أكثر منه قراراً جريئاً، فالمعاهدة ــــ وهي مشروعٌ لأوباما ــــ كان الكونغرس سيرفضها في كلّ الأحوال.

وكلّ المرشّحين الى الرئاسة ــــ من ترامب الى بيرني ساندرز وهيلاري كلينتون ــــ انتقدوا مشروع الشراكة التجارية وصرّحوا بأنهم سيقومون بإلغائه أو إعادة النظر فيه لو وصلوا الى الرئاسة.
في اليوم نفسه، عقد الرئيس لقاء حظي بتغطيةٍ أقلّ بكثير، اجتمع فيه الى قادة أكبر الشركات الأميركية ــــ من «لوكهيد» و»دِلّ» الى «فورد» و»جونسون اند جونسون» ــــ ووعدهم بحسمٍ هائل على ضرائب الشركات (من 35% حالياً الى 15 أو 20%، على حدّ قوله) وبإزالة التنظيمات والقوانين التي «تعيق» عملهم وأرباحهم ــــ قال ترامب أنه سيزيل «75% من التنظيمات». وقد خرج مدير شركة «داو» الكيميائية الهائلة من الإجتماع جذلاً، وهو يمدح الرئيس الجديد ويستبشر بالعهد القادم.
البعض يعتبر أنّ ترامب يمثّل، بالفعل، «قوميّة اقتصادية» ستغيّر وجه أميركا، وسياسة حمائيّة جديدة تقطع مع مفهوم حرية التجارة الذي يحرّك الاقتصاد العالمي اليوم. البعض الآخر يقول إنّه لا يرمي الى أكثر من تغييراتٍ «تجميلية» وابتزاز حلفائه وشركائه للحصول على «صفقة أفضل». في كلّ الحالات، فإنّ فكرة التحوّل الاقتصادي الجذري ليست مستحيلة، وقد خضعت الولايات المتحدة في السّابق لتغيير مسارٍ من هذا النّوع، في رئاسة هوفر وفرانكلن روزفلت وغيرهما، ولكنّ هذا النمط من التحوّل لا يحصل بقرارٍ رئاسيّ أو بتوقيع قانون يُفرض على الشركات؛ بل هو يحتاج الى توافقٍ سياسيّ واسع، ودعمٍ من المصالح التجاريّة الكبرى لخطّة الرئيس وإجماعٍ عليها (والّا فهم لن يتعاونوا معك، وسينهار السوق والاقتصاد). على الهامش: لو كان ترامب ينوي فعلاً خوض «حربٍ تجارية» ضدّ الصّين، فإنّ إجهاض شراكة المحيط الهادىء، التي صُمّمت تحديداً لإقصاء الصين ولخلق كتلةٍ تجارية في وجهها، قد لا يكون الطريق الأنسب لذلك.

نظرة أخرى

في الكتاب الجديد للاقتصاديين الهنديين برابات واوتسا باتنايك، «نظرية عن الامبريالية» (2017)، نقاشٌ لهذا السؤال بالذات: هل في وسع القوّة الامبريالية «القائدة» أن تلجأ الى الحمائية والانغلاق حين تواجه عجزاً متراكماً في ميزانها التجاري؟ الإجابة مثيرة، الكاتبان يقولان إنّ القوة الامبريالية «القائدة» تكون دوماً في حالة عجزٍ تجاري، وبخاصة مقابل القوى الرأسمالية «الصاعدة». فكانت الامبراطورية البريطانية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، تراكم عجزاً مستمرّاً في تبادلاتها مع المانيا وفرنسا، واميركا اليوم تواجه حالةً شبيهةً مع الصين والمانيا. هذا «طبيعي» الى حدّ ما، وأحد أسبابه أنّ كلفة الانتاج في الدّول «الصّاعدة» تكون غالباً أقلّ منها في الدّولة «القائدة». معالجة هذا العجز عبر الحمائية مستحيلٌ، يقطع الباحثان، اذ أنه يؤدّي الى انهيار نظام التجارة العالمي و، وهذا أهمّ، خسارة الدولار (أو الاسترليني سابقاً) وظيفته كعملةٍ عالمية وكمخزنٍ للثروة، فينتهي ــــ فعلياً ــــ النظام الرأسمالي كما نعرفه.
السؤال الدائم هو في كيفية التّعامل مع هذا العجز وليس في تلافيه أو الغائه. في الحالة البريطانية، كانت المستعمرات تلعب دور «الميزان» لصالح الامبراطورية (كان الفائض التجاري لبريطانيا في علاقتها مع الهند المستعمَرة يوازي، على الدّوام، العجز الذي تحمله بريطانيا من التجارة مع اوروبا). أمّا مع أميركا، التي لا تملك مستعمرات بمعنى الحكم المباشر، فإن تغطية العجز التجاري يأتي تقليدياً عبر الاستدانة. وحتّى تتمكّن أميركا من خدمة دينها والاستمرار في الاستدانة، فهي تحتاج ــــ أكثر من أي شيء آخر ــــ الى إبقاء الدّولار عملةً عالميّة، له قيمةٌ ثابتة وقابلية لخزن الثروة.
الكتاب يقدّم نظريّة اقتصاديّة معقّدة، لا مجال لشرحها بشكلٍ وافٍ هنا. الكاتبان يحاولان الإجابة على سؤال «هل الإمبرياليّة ضروريّة للرأسماليّة ومتلازمة معها، أم من الممكن تخيّل نظامٍ عالميّ رأسمالي ولكنه ليس امبريالياً؟». بتبسيطٍ مخلّ، يمكن اختصار حجّة الكاتبين المركزية في ثلاث خطوات: 1ــــ فكرة التجارة عند ريكاردو والاقتصاديين الكلاسيكيين خاطئة، لأنهم يفترضون عالماً «مسطّحاً»، يمكنك فيه أن تنتج أي سلعة تريد وانت تختار المنتوجات التي تملك فيها «أفضلية تنافسية»؛ في الحقيقة، فإنّ الجغرافيا والمناخ يقسمان العالم الى أقاليم «معتدلة» وأقاليم «استوائية»، والكثير من منتجات المناطق الاستوائية (من الزيوت الى الخامات والنفط والكاكاو والبن والسكر، الخ) لا مجال لانتاجها في أقاليم الشمال، أو انتاجها على طول السنة، وهي كلّها عناصر أساسية للتصنيع والاقتصاد وحياة الناس في دول المركز. 2ــــ لو تركت الأمور على حالها، من المفترض أن يرتفع سعر هذه المواد بشكلٍ مستمرّ، لأنّ الطّلب عليها يتزايد وكتلة الأرض الاستوائية ثابتة؛ ولو حصل هذا الارتفاع «الطبيعي» للأسعار، فهو سيجعل النظام المالي العالمي غير قابلٍ للاستمرار (هنا، ايضاً، مرافعة اقتصادية معقّدة، ولكن مختصرها هو أنّك، لو كنت تعرف أنّ سعر السكّر سيزداد على الدوام، ليس لدورة تجارية واحدة، بل سيزداد 10% كلّ سنة من دون توقّف مقابل الدّولار، فأنت ستفضّل الاحتفاظ بالسكّر بدلاً من تحويله الى دولار، ولو كان سعر الذّهب ثابتاً بالنسبة الى قيمة السّلع، فإنّك ستفضّل الذّهب ايضاً، كوسيلة تبادل، على الدولار، وسينصرف الناس عن العملة كمستودع للقيمة والثروة). 3ــــ بالنّظر الى هذا الواقع، فإنّ الوسيلة الوحيدة لضمان النّظام المالي العالمي هي في منع أسعار المنتجات الاستوائية من الارتفاع، رغم ازدياد الطلب عليها في الغرب، وهذا لا يمكن أن يحصل الّا عبر «انكماش الدخل» بشكلٍ مستمرٍّ في دول الجنوب. بمعنى أنّ استهلاك أهل الهند وافريقيا والشرق الأوسط لموادهم الأوّليّة يجب أن يتناقص بمقدار ارتفاع التصدير نحو المركز. عمليّة «تدمير الدّخل» هذه، لدى باتنايك وباتنايك، هي ببساطة «الامبريالية»، وهي تعكس مقولة ماركس أعلاه عن تراكم الثروة في قطبٍ مقابل تراكم البؤس في قطبٍ آخر (وما هي، بدورها، الا ترجمة حديثة لمقولة الإمام علي الشهيرة «ما جاع فقيرٌ الّا بما متّع به غنيّ»).

100 غرامٍ من الحبوب

لو شئنا أن نختصر إنجازات الدّولة الوطنية في الهند، وكامل مرحلة التحرّر من الاستعمار وبناء الاشتراكية والإقتصاد الموجّه فهي توازي، تقريباً، مئة غرامٍ من الحبوب يوميّاً لكلّ مواطن هندي، أو 500 سعرة حرارية في اليوم؛ هي لا تبدو شيئاً مهمّاً بالمقاييس الاستهلاكية الغربية ولكنّها، بالنسبة الى مليار هندي، تعني فرقاً عظيماً. بين أوائل القرن العشرين واستقلال الهند، يقول باتنايك وباتنايك، هبط نصيب الفرد الهندي من الحبوب، تحت الحكم البريطاني، من ما يقارب 200 كيلوغرام سنويا الى أقل من 137 كيلوغراماً عام استقلال الهند. أمّا في فترة الإقتصاد الموجّه ودعم الزّراعة عبر الدولة بعد الخروج البريطاني فقد ارتفع هذا المعدّل، تدريجياً، ليعود بحلول عام 1990ــــ 1991 (عام عودة النيوليبرالية في الهند) الى 177 كيلوغراماً للفرد، رغم الزيادة السكانية الهائلة، وهو مقدارٌ يقارب حصّة المواطن الهندي في بداية القرن. منذ الانقلاب على الاقتصاد الموجّه وانهاء الكثير من السياسات الداعمة للمزارعين في العقود الماضية ــــ تحت شعار التقشّف والانضباط المالي ــــ عادت حصّة المواطن الهندي من الحبوب الى الإنخفاض، ببطءٍ ولكن بثبات، حتّى وصلت عام 2011 الى 159 كيلوغراماً سنوياً، لتمحو أكثر ما قدّمته الدولة الوطنية (على قلّته).
من المهمّ أن نميّز الزّمن التاريخي الذي نعيش فيه. بالنّسبة الى المنظّرين الهنديّين، فإنّ العالم قد مرّ بثلاث مراحلٍ أساسية في القرن الماضي. في المرحلة الكولونيالية كانت رؤوس الأموال تسيل بحريّة ــــ نسبية ــــ حول العالم، ودول الجنوب تحكمها إدارات استعمارية، مجبرة على تقديم موازنات «تقشفية» (كما اليوم) ما منعها من الاستثمار في زيادة الانتاج واستهلاك النّاس، كبناء السدود ومشاريع الري ودعم المزارعين وتدريبهم، وهو ما أدّى الى عمليّة «تدمير الدخل» التي شهدتها الهند وغيرها تحت الاستعمار (استخراج الفوائض والسّلع من المستعمرات من دون الاستثمار فيها أدّى، في حالاته القصوى، الى مجاعاتٍ وموت الملايين. مجاعة البنغال عام 1942ــــ 1943 التي قتلت أكثر من ثلاثة ملايين هندي يرجعها الكاتبان، بصلةٍ مباشرة، الى ازدياد الاحتياجات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية).
في مرحلة «الاقتصاد الموجّه» و»الدولة الوطنية»، التي تلت خروج الاستعمار في العالم الثالث واستمرّت حتى أوائل السبعينيات، حصل ــــ للمرّة الأولى منذ قرن ــــ استثمارٌ فعليّ في تنمية دول الجنوب، مع حكومات تتمتّعٍ بقدرٍ من الاستقلالية؛ بالتوازي مع نظام اقتصادي «كينزيّ» في الغرب، ينسّق الاستهلاك والانتاج لضمان استمرار النموّ. أمّا مع بزوغ المرحلة النيوليبراليّة في العقود الأخيرة، فقد عادت «دولة التقشّف» الى المستعمرات السابقة، لتمنع التنمية تحت شعارات «الحوكمة» والتوازن المالي وتوجيهات صندوق النقد وتوابعه. بدلاً من حكومة احتلالٍ أجنبيّة، يقول باتنايك وباتنايك، أصبحت الحكومات المحليّة في عهد النيوليبرالية تجثو أمام رأس المال المعولم، وقوانينه ومطالبه. في لبنان مثلاً، نجد التعبير الأوضح لهذه الوضعية الجديدة في شخص ودور حاكم المصرف المركزيّ. حين يخاطبنا رياض سلامة ويوجّه نصائحه وتحذيراته الينا، لا تعرف إن كان يتكلّم كمواطنٍ ومسؤولٍ لبنانيّ، أو كسفيرٍ لرأس المال العالمي في لبنان. ودفاعه عن نفسه وسياساته لا يقوم على تعداد انجازاتٍ تنموية واقتصاديّة قد حقّقها، بل على تهديدٍ ــــ مبطّن أحياناً وصريح في حالات كثيرة ــــ بأنّه وأصدقاءه في الداخل والخارج قادرون على ضرب عملتنا، وسحق اقتصادنا، و»رمينا في المجهول» اذا ما أغضبناه، أو خالفنا توجيهاته، أو فكّرنا في استبداله.

الضرورة التاريخية

في الغرب ودول المركز، حين تحلّ الأزمة، قد يتجمّد دخل العامل أو يتوقّف عن الإرتفاع، ولكن من الصّعب جدّاً على السّلطات أن تحاول نهش المداخيل واختزالها (بالفعل، فإنّ ما يشتكي منه أمثال هوارد زِِن ودايفيد هارفي بالنسبة الى العمّال في أميركا هو أنّ دخلهم «الحقيقي» لم يرتفع منذ السبعينيات. بمعنى أن الرواتب ارتفعت، ولكن بشكلٍ لا يفوق ارتفاع الأسعار). أمّا في دول الجنوب في عصر العولمة، فإنّ عمليّة «تدمير المداخيل» تجري بشكلٍ روتيني، يحاجج الكاتبان، وبخاصّة في الدّول التي لم تنتج أنظمة قادرة على الدفاع عن سيادتها الاقتصادية. لو نظرنا الى افريقيا والشرق الأوسط وأجزاء كبيرة من آسيا، فإنّ مليارات الناس (أغلبهم من الفلاحين والفقراء) قد شهدوا تراجعاً ملحوظاً في ظروف حياتهم، وسيعيش ملايين الشباب اليوم ــــ من الجزائر الى مصر وسوريا وغيرها ــــ في ظروفٍ مادية اسوأ من تلك التي عرفها آباؤهم.
«القوميّة الاقتصاديّة» تأخذ صيتاً سيّئاً مع ترامب، ولكنّ المفكّر الهندي عقيل بلغرامي، معلّقاً على كتاب زميليه باتنايك، يقول إنّ السيادة الاقتصادية وانتزاع معاش النّاس من هيمنة رأس المال المعولم تمثّل الشكل الوحيد الصحيح للقوميّة، الذي لا يتحوّل الى تنابذ إثنيّ وأساطير، بل ينطلق من مصلحة الفقراء ويوجّههم صوب عدوّهم الحقيقي. حين نتكلّم على مفاهيم «السّيادة» والتحرّر من الإحتلال والهيمنة، فهذه ليست شعارات ايديولوجية أو سعياً نحو عظمة قوميّة أو كراهية عصابية للغرب، بل هي تمثّل الفارق بين أن يعيش شعبك عزيزاً، آمناً، شبِعاً، وبين أن يُحكم عليه بالفقر والجهل والجوع؛ وأن يهجّر جماعياً بشكلٍ دوريّ، ويموت بلا ثمن في حروب الأقوياء. هذه ليست خيارات يمكن التّفاوض عليها أو المساومة فيها لكلّ من يملك ضميراً، أو أي مفهومٍ للمصلحة العامّة. بالمناسبة: الدّولة الوطنية لن تعود عبر «النضال الديمقراطي» الإنتخابي (وفكرة أن تتوقّع من النّخب التابعة التي تستغلّ بلادك أن تبني لك ديمقراطية، حتى تنقلب عليها من خلالها، هي طرحٌ مضحك)، بل سترجع كما فرضت كلّ دولة وطنية في الجنوب نفسها خلال القرن الماضي، عبر القوّة والتنظيم والإنقلاب. المسألة ليست خياراً، وسؤال الشّرعيّة يأتي لاحقاً.