إنّ وصول رئيسٍ أميركيٍّ جديدٍ الى سدّة الحكم هو، كبداية سنة جديدة ، يشبه «عتبةً» رمزية تسمح بالترويج لوهم أنّنا قد دخلنا حقبةً جديدة، مختلفة نوعياً، ما يفتح ميداناً خصباً للتمنيّات والتنبّؤات و»القرارات» (بل إنّ علماء النفس يقولون إنّ حلاقة الشعر تنتج أثراً مشابهاً لدى الإنسان؛ أي فكرة موت القديم وطرحه جانباً وولادة الجديد وما الى ذلك).
ولكنّ هذه النّزعة تمنعنا أحياناً عن التمييز بين التغيير الشكلي والتغيير الفعلي، وتعمينا عن ثبات المصالح والقوّة، وقدرتها الدائمة على إعادة تكوين نفسها وفرض عقليتها. هل تذكرون، مثلاً، كمّ الترقّب الذي ساد بداية رئاسة اوباما، وانساق خلفه الكثير من العرب؟ والتوقّعات بسياسة خارجية تقطع جذرياً مع عقيدة بوش ومن سبقه؟ اليوم، مع مرور الزمن، صار واضحاً أنّه من الأجدى دراسة عهد اوباما كاستمرارية وتطويرٍ لعهد جورج بوش، وليس كقطيعةٍ معه. حتّى احتمال «الانسحاب الغربي» من بلادنا، الذي يثير هلع مثقفي المؤسسة العرب، بدأت خطواته (كالجلاء عن العراق وافغانستان، والتهدئة مع ايران وسوريا) في أواخر عهد جورج بوش وليس مع اوباما، ولأسباب ــــ أقسم لكم ــــ لا علاقة لها بالايديولوجيا أو الفارق الفكري والفلسفي بين المحافظين الجدد وبين اوباما وهيلاري (بل يمكن القول إنّ اوباما قد دشّن عودةً أميركيّة الى المنطقة، وبشكلٍ عسكريّ ومدمّر، وليس انسحاباً وتراجعاً).

مصالح ثابتة

لا يمكن لأحدٍ اليوم أن يتنبّأ بما ستكون عليه رئاسة دونالد ترامب وما سيكون شكلها (عدا عن أنّها ستكون، بلا شك، ملأى بالإثارة واللحظات التلفزيونية ــــ هذا رئيسٌ يهاجم خصومه على «تويتر» ويدخل معهم في جدالات وشتائم)؛ وكلّ التحليلات عن سياسات ترامب اليوم هي محض تكهّنات. ولكنّ الواضح هو أنّ الكلام عن نهاية العالم وانقلاب نظام الحكم في اميركا، في حال وصل ترامب الى السلطة، كان مجرّد دعايةٍ انتخابية. عوامل «الثبات» والاستمرارية وتمثيل المصالح بدأت تظهر. سوق الأسهم الأميركية، مثلاً، لم يشهد انهياراً بعد انتخاب ترامب، بل ارتفع بأعلى مقدارٍ خلال أي فترة انتقالٍ رئاسي في الماضي القريب. هذا يعني أنّ قادة السوق ليسوا متيقّنين من أن ترامب سينفّذ كلّ الأمور الجذريّة ــــ والمتناقضة ــــ التي قالها خلال حملته ولكنّهم، من الجهةٍ الأخرى، متأكّدون من أنّه سيخفض الضرائب على الأرباح والشركات ومداخيل الأثرياء، وهذا «جيّدٌ» للسوق (هذه النتيجة تعني ايضاً أن «وول ستريت» مقتنعٌ بأنّ ازدهار اقتصاد اميركا أو كساده ليسا في يد الرئيس ولا يرتبطان بشخصه).
قامت حملة دونالد ترامب على لعن «وول ستريت» ومضاربيه، وتوعّدهم برئيسٍ «خارجيّ» يقضّ مضاجعهم، وقد صوّت له ملايين البسطاء على هذا الأساس، فإذ بنا نجد ترامب يستكمل «تقليداً» رئاسياً أميركياً في العهود الماضية يتلخّص بانتقاء أحد كبار مديري مصرف «غولدمان ــــ ساكس»، وجعله وزيراً للخزانة ومقرّراً اقتصادياً (هو هنا ستيف منوشن، الذي كان المسؤول المالي لحملة ترامب الانتخابية، وقد كانت مهارته في جمع التبرعات والإدارة من أهم عناصر الفوز). في الحقيقة، فإنّ ترامب لم يكتفِ باستيراد وزيرٍ من المصرف الذي اشتهر بممارسة صنوف المضاربة غير القانونية، التي نفخت ثمّ دمّرت السوق العقاري وقضت على مدّخرات الملايين، بل إنّ منوشن يأتي، تحديداً، من دائرة الموظفين الذين تورّطوا في هذه الأفعال وخدعوا عملاءهم وزبائنهم ــــ وإن كان، شخصياً، قد نجا من السّجن. هناك، في هذا المقام، قصّة طريفة عن انضمام ستيف منوشن الى فريق ترامب، وذلك في وقتٍ كان الجميع فيه يتوقّع خسارته أمام هيلاري، وكان مجرّد الارتباط باسم ترامب مصدر سمعةٍ سيئة في نيويورك و»وول ستريت». في تحقيقٍ عن منوشن من آب الماضي، قال رجل الأعمال ما معناه أنّه، حين تمّت مفاتحته في الإنضمام الى فريق ترامب، كانت الإحصاءات تشير الى أنّه يملك فرصة تقارب الـ 28.5% للفوز على هيلاري. هذه تبدو معادلةً سيئة بمقاييس السياسة ولكن، في عالم الأعمال، هي تعتبر احتماليّةً مقبولة. وجد منوشن أنّه، لو تحقّق السيناريو الأسوأ وهُزم ترامب، سيكون فعلياً قد خسر بضعة أشهرٍ من العمل غير المدفوع، وسيتعرّض الى سخرية زملائه وهذه حدود المسألة. أمّا على الجانب الآخر، لو فاز ترامب، فهو سيصبح وزيراً للخزانة الأميركية و، في نظر الكثيرين، أقوى رجلٍ في العالم.
ولكن، بالمعنى الأعمق، لاحظوا الفرق بين الإشكاليات التي تركّز عليها الصحافة الأميركية اليوم وبين تلك التي انفجرت إثر فوز ترامب، حين كان الجميع في الوسط السياسي والفكري الأميركي لا يزال تحت أثر الصدمة والهزيمة. خرجت كمية مهولة من مقالات «النقد الذاتي» التي تلوم نخبة الحزب الديمقراطي على الفشل وخسارة الناخبين، وتذكّر بضرورة الانتباه الى فعل العولمة والنيوليبرالية على الطبقات الفقيرة في الغرب، وتعترف بتواطؤ الديمقراطيين في أميركا في عملية الإفقار هذه، والتي حصد ثمارها مرشّحٌ شعبويٌّ مثل ترامب. كلّ هذه التحليلات اختفت اليوم، والجميع يتكلّم عن قضيّة «الإختراق الروسي» ونظرية تأثير موسكو على الانتخابات الرئاسية، والفيلم الجنسي الذي قيل إنّ السلطات الروسية قد سجّلته لدونالد ترامب، فيتمّ حرف النّقاش الى «التدخل الخارجي» (على الطريقة اللبنانية)، وتجنّب كلّ الأسئلة الجوهرية الصعبة في الداخل.

السياسة كملهاة

في المناسبة، قضية «القرصنة الروسية» هي فضيحة حقيقية من جهة غياب النقدية لدى الإعلام المهيمن، وقابليته لتصديق ما يُراد له أن يصدّق، ولأن ينقل تسريبات المخابرات بلا تشكيك، ويحوّل أيّة قضيّة، ولو كانت بلا أساس، الى محور السياسة وملهاتها. حكمت «واشنطن بوست» و»نيويورك تايمز» بأنّ تسريب وثائق الحزب الديمقراطي كان بسبب قرصنة الكترونية، وكان مصدرها روسيّاً حكومياً، بغية «التأثير» على الناخب الأميركي وترجيح كفّة ترامب. المشكلة هي أنّه لم ترافق هذه الإدّعاءات أيّة دلائل، وقد نُشر (اثر الانتخابات مباشرةً) تحقيقٌ طويل في دوريّة أميركيّة يشرح، بتفاصيل دقيقة وتقنية، «كيف قامت روسيا بقرصنة الانتخابات»، ولكنّه ــــ كما لاحظ غلين غرينوولد ــــ يفتقر الى مصدرٍ واضحٍ واحد يسند هذه الادّعاءات. حين نشرت المخابرات الأميركية، أخيراً، تقريرها عن الموضوع، كانت المفاجأة أكبر، اذ لم يتمّ تقديم أي صلة واضحة بين الروس وتسريب الملفّات، وقيل إنّه تمّ حجب الدليل لـ»أسباب أمنية». حتّى نعطي فكرة عن مستوى الإثبات في التقرير، فإنّ ثلث صفحاته (التي يفترض أن تشرح لنا كيف تدخّلت المخابرات الروسية، بالسرّ وبالحيلة، لإفساد الانتخابات وتخريب الديمقراطية الأميركية) مكرّسة لقناة «آر تي» والإعلام الحكومي الرّوسي، وبعضها الآخر يتكلّم على «عفاريت» الانترنت، الذين ينشرون آراء سياسية ويهاجمون الخصوم على «فايسبوك» والمنتديات ــــ والادّعاء هنا هو أنّ هؤلاء المستخدمين هم جزءٌ من حملةٍ خفيّة للمخابرات الروسية تصنع الرأي العام وتضلّله. حتّى مطبوعة «ذا هيل»، التي تتعاطف مع ادارة اوباما، قالت بأنّه ــــ بالمعنى التقني ــــ التقرير لا يتوافق مع الادّعاءات، التي يتعامل معها الإعلام على أنها واقع، واستخلصت مطبوعةٌ أخرى الى أنّ الدلائل، أو غيابها، يشير حقيقةً الى أنّه لم تحصل قرصنة الكترونية في الأصل، بل قام أحدهم، ببساطة وعلى الطريقة التقليدية، من نسخ الملفات من داخل مكاتب الحزب وتسريبها (أمّا في بلادنا، فقد تجاوز المنظّرون في الإعلام الخليجي هذه الحدود وأعلن بعضهم ترامب «عميلاً» لروسيا. الطريف هنا هو أنّ ترامب، بالفعل، لا يملك مصالح مالية مهمة في روسيا أو ارتباطات تجارية برجال أعمالها، فيما هيلاري كلينتون ثبت أنّها تلقّت ملايين من الدولارات من أوليغارشيين روس).
على الهامش: زعم «الفيلم الفاضح» الذي صوّره الرّوس ويبتزّون به ترامب هو ايضاً من غير دليل، ولكنّ له سوابق. عام 1957، وقع الصحافي الأميركي الشهير، جو آلسوب (الذي كان أحد شخصيات العاصمة المعروفة لعقود، وصاحب عمودٍ سياسي شهير) في موقفٍ مشابهٍ تماماً أثناء زيارته الى موسكو. كان آلسوب مثليّاً، في الخفاء كما درجت العادة في المجتمع «الراقي»، والمثليّة في اميركا كانت لا تزال مجرّمة وعاراً على من يمارسها. استدرج شابٌّ روسيّ آلسوب الى غرفته، ثمّ استدعاه ضبّاط روس شرحوا له أنّ كل ما جرى بينهما مسجّلٌ وسيتمّ كشفه إن لم يتعاون آلسوب مع المخابرات السوفياتية. ذعر الصحافي وادّعى الموافقة، ثم هرع ــــ ما أن وصل الى واشنطن ــــ الى أصدقائه في السي آي اي واعترف بكلّ شيء، فطمأنوه وطلبوا منه عدم الإمتثال للروس. فجأةً، بدأت تصل مغلّفات الى أصدقاء آلسوب وصحافيين معروفين ورجال المجتمع في واشنطن، مجهولة المرسل، وفيها صورٌ فاضحة للرجل. ظلّ دفق «الرسائل» هذه مستمرّاً لسنوات، والمخابرات الأميركية تساعد على كتم الموضوع، حتّى حصل تدخّلٌ دبلوماسيّ على مستوىً عالٍ وتوقّف إرسال الصّور.

حربٌ أم لا حرب؟

لا يمكن لأحدٍ أن يتنبّأ بسياسات ترامب وقراراته، ولكن واهمٌ من يعتقد أن أميركا لن تعود أميركا. من هنا، يجب أن يرتاح مثقّفو المؤسّسة العرب، الذين يندبون «انسحاب» الغرب و»ضعفه» وانحرافه عن «مبادئه»، فأميركا باقية لهم، وتدخّلاتها باقية. وترامب، حين تصبح له إدارة وسياسة وحروب، سيستوعبهم على الأرجح، ولو كانوا يشتمونه اليوم (ولم لا؟ إن كان جورج بوش قد استوعبهم، وتماهى المثقفون العرب مع حروبه وعملوا في الدعاية الأميركية وبعضهم يدافع عنه الى اليوم، وهو متديّنٌ متطرّف وعنصريٌ جاهل). فوق ذلك، فإنّ عقيدة اوباما\ هيلاري التي يخشى هؤلاء الردّة عليها هي، كما كانت ترمز اليها المرشّحة الديمقراطية في كلامها عن السياسة الخارجية، «القدرة على فعل الكثير من الأمور من دون استخدام الغزو المباشر؛ القوّات الخاصّة، دعم قوى موالية، الخ». بمعنى آخر: الحرب الأهليّة في بلادنا، والحرب الأهلية المستمرّة والمعمّمة؛ لأنّ اميركا إن كانت تستطيع غزو بلدٍ واحد فحسب، فهي تقدر على إدارة وتمويل وتسعير خمس حروبٍ أهلية في وقتٍ واحد، وبكلفةٍ ضئيلة، وهذه كانت سياسة اوباما في المنطقة. فيا لها من خسارة لـ»الحداثة» و»الأخلاق» و»الضمير العالمي» أن نُحرم من هيلاري.
يقول معلّقٌ أميركي في مجلّة «اميريكان بروسبكت» الليبرالية أنّ ترامب هو من طينة الرؤساء الذين يشعلون حروباً في عهدهم (خاصّة حين يدشّنونه بمقولة إنهم لا يريدون الحرب)، ولكننا لا نعرف بالتّحديد مع من سيكون الصّدام. حتّى في هذه الحالة، يجدر بنا أن نكون أقلّ النّاس قلقاً تجاه سياسة ترامب. بلادنا تعيش أصلاً حالة الحرب الشاملة، واميركا تقاتل في كلّ مكان، من ليبيا الى اليمن وسوريا والعراق، ولم يتبقّ لنا كثيرٌ لنخسره. من النّاحية الأخرى فإنّنا منذ عام 2003 وما قبل، لم نطوّر ونتقن في هذه البلاد الّا صنعةً واحدة هي صناعة الحرب، فإن شاء ترامب أن يحاربنا مباشرةً يكون قد انتقى اسوأ خصمٍ في العالم.