هل يكرّر التاريخ نفسه أم نكرّر ــ نحن ــ أخطاءنا؟ قبل السلطة الفلسطينية، حاولت إسرائيل ابتكار نموذج يساعدها في حكم الفلسطينيين عبر «نخبة» محلية تعيّنها هي وتفصّل لها مقاسات عملها ودورها، لكن هذا النموذج أسقطه الفلسطينيون بوعيهم قبل نضالاتهم... تلك التجربة كان اسمها روابط القرى.
لم يكن ليغيب عن بال مناحم ميلسون، الذي كان مستشار الشؤون العربية في الحكم العسكري الإسرائيلي، أهمية ما طرحه الحاكم العسكري لمدينة الخليل يغئال كرمون على مأدبة العشاء في أحد ليالي تموز الحارة من عام 1979، في بيت الشيخ محمد علي الجعبري في الخليل حول إيجاد قيادات فلسطينية متواطئة مع الحكم العسكري الإسرائيلي، وبديلة من «منظمة التحرير الفلسطينية»، فهو الخبير والمتخصص بالأدب العربي والمحاضر به في الجامعة العبرية، لذلك سارع إلى دراسة المقترح ووضع التصوّرات العملية لتطبيقه على الأرض.
جاءت فكرة روابط القرى إسرائيلياً بعد عدد من الأحداث التي دقت ناقوس الخطر خاصة بعد انتخابات البلدية عام 1976، التي فازت فيها «قائمة لجنة التوجيه الوطني» الممثلة عن المنظمة. يقول بسام الشكعة، الذي كان رئيس بلدية نابلس، «لقد حاول الاحتلال من أجل تحقيق غاياته طرح شعار الحكم الذاتي من أجل تمريره وتطبيقه في الأرض المحتلة، لكنه فشل، لذلك سعى لأن تتسلم البلديات إدارة شؤون المواطنين الفلسطينيين، فأجرى انتخابات بلديات في 1973 ثم انتخابات أخرى في 1976، كان من الواضح أن الاحتلال أراد تطبيق الحكم الذاتي كي يفصل فلسطينيي الداخل عن المنظمة في الخارج».
يضيف الشكعة في شهادته على تلك المرحلة أن «القوى السياسية والجماهير بدأت مقاومة هذه النوايا، فعينوا موعد الانتخابات، وكانت الفترة التي مضت فترة وعي الجماهير حول طبيعة الحكم الذاتي وأهدافه، والأخطار التي ترتبط به... تشكلت قوائم تشمل التيار الوطني من كل الفئات ونجحت قوائم لجان البلديات في كل المواقع في الوطن».
كان من الواضح آنذاك أن إسرائيل، وبعد فشلها في السيطرة على رؤساء البلديات الجدد، ستسعى لتشكيل قيادة موازية تتواطأ وسياساتها الداعية للسيطرة على السكان وتمرير مخططاتها السياسية على الشعب الفلسطيني، بعد إبعاد «منظمة التحرير» عن تمثيل فلسطينيي الداخل.
حاولت إسرائيل ممارسة الضغوط على مجالس البلديات من أجل استعمالها أدوات لتصفية القضية الفلسطينية، لكن هذه المجالس قاومت، فبدأ الاحتلال اتهامهم بالتورط في النشاط السياسي.
يروي الشكعة أنه عندما ترأس المجلس البلدي في نابلس، حضر (الرئيس الإسرائيلي الراحل) شمعون بيريز ليسلمه أوراق التعيين. ويضيف: «كان واضحاً من كلامه (بيريز) أن شرط استمرارنا هو تطبيق القوانين وقرارات السلطات الإسرائيلية، وأنا قلت له بصراحة: نحن تحت احتلال وعلاقتنا بالاحتلال تحددها القوانين الدولية والمحلية، الأمر الذي لم يرق له نهائياً. أثناء العمل مع الحكام العسكريين تكرر الكلام نفسه: من أجل نجاحكم في مهمتكم عليكم التزام تطبيق القرارات العسكرية، لكن موقفنا كان واضحاً وصريحاً منذ اليوم الأول لتسلّمنا مهام عملنا في المجالس: مهمتنا كما وكّلنا بها الشعب أن لا نطبق القرارات العسكرية وأن نطبق قرارات شعبنا واحتياجاته».
بعد زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وقبوله اتفاق كامب ديفيد، كُلفت «لجنة التوجيه الوطني» على أساس أنها قيادة تمثل الذراع القوية في الداخل للمنظمة، وكانت تضم كل الفصائل والأحزاب ومجالس البلديات ومؤسسات أخرى. كان هذا قوة نفوذ ضخمة للحركة الوطنية في الأراضي المحتلة، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى تجديد أساليبها، لذلك شكلت روابط للقرى بديلة من مجالس البلدية و«لجنة التوجيه الوطني» وأيضاً من المنظمة.
لقد وضع مناحم ميلسون كامل خبرته الأكاديمية بما يحمله من معرفة بالعقلية العربية وإمكانات التأثير فيها، وخبرته العسكرية بكونه مستشاراً للشؤون العربية لدى الحاكم العسكري التي أثمرت معرفة واسعة بطبيعة المجتمع الفلسطيني، ليحكم رؤيته حول تشكيل روابط القرى، وأراد منها تحقيق عدة أهداف أهمها محاولة تهميش وتجاوز القيادة الوطنية الفلسطينية، التي كانت قد صارت شرعية بانتخابها في المجالس البلدية، وليس أخيراً الدفع إلى تكريس «المناطقية» بإنشاء هذه التشكيلات من «المتعاونين» من القرى التي تقع خارج صلاحيات مجالس البلدية، وذلك في محاولة مكشوفة لإحداث شرخ بين «المدينة» و«القرية»، والبحث عن شخصيات يمكنها أن تماثل الشخصيات الوطنية التابعة لـ«منظمة التحرير»، كما يمكنها أن تؤدي هذا الدور بإتقان يجعلها تنجح فيه.
وجد ميلسون غايته في مصطفى دودين، وهو وزير سابق في الحكومة الأردنية، وابن إحدى العائلات المعروفة في بلدة دورا في جبل الخليل، الذي لبى طلبه ووافق عليه ليُعلن تشكيل روابط القرى في 1979، وقد أعطيت لها صلاحيات واسعة سياسية وخدماتية واقتصادية، لتكون بديلاً حقيقياً من المجالس البلدية والقروية التي لم تكن تخضع لرؤية إسرائيل.

أُريد من الروابط
إضعاف صلاحيات البلديات وإحداث شرخ بين «المدينة» و«القرية»

وكما كانت تلك المجالس أدوات في يد «منظمة التحرير»، ستكون الروابط أداة في يد إسرائيل، التي أعطت لدودين نفوذاً كبيراً شمل حتى النفوذ الأمني حتى لو بصورة بسيطة. كان الهدف منه واضحاً، وهو ترويع السكان، ومقابل هذا النفوذ ثمة ثمن واضح هو «إعادة توجيه السلوك السياسي الفلسطيني» ليصير وفق رغبتها وسياساتها المختلفة.
إن الرؤية الإستراتيجية لميلسون في التعامل مع فكرة روابط القرى كانت تنبع من رؤيته إلى العناصر المركزية الثلاثة التي رأى ميلسون أنها تحدد الولاء السياسي الفلسطيني، أي المال، والتوصل إلى مراكز القرار، والقدرة على إلقاء القدر الأكبر من الخوف في نفوس السكان، وهذه جميعها أُعطيت لروابط القرى في جرعات متزايدة بالتدريج، كما حددها الباحث جيفري أرونسون.
إن محاولات إسرائيل اللعب على الأصول العائلية و«المناطقية» لم يكن لها تأثير في الشكعة تحديداً، الذي كان في ذلك الوقت قائداً لـ«منظمة التحرير» في الأراضي المحتلة، كما وصفه الجنرال داني ماط، الذي كان آنذاك منسق أنشطة الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. ومع أن الأخير كان يرجع بالأساس إلى ما كانت هذه العائلات تلقاه من احترام واضح داخل المجتمع الفلسطيني، فإنه كان يعلم أيضاّ طبيعة الحساسيات الشديدة بين تلك العائلات ورغبة كل منها في تصدر العمل السياسي العام.
الشكعة، مثلاً، ينحدر من إحدى العائلات المعروفة والمرموقة في مدينة نابلس، وهذا ما حاول الحاكم العسكري للمدينة آنذاك صنعه حين طلب لقاء الشكعة في مكتبه. يقول الأخير: «دعاني الحاكم العسكري وكان اسمه مصافي، وحينما وصلت كان أمامه مجموعة من الأوراق، فقال لي: بسام نحن حرنا في أسباب المظاهرات في نابلس، وبعد استخدام مخابراتنا وجدنا أنك السبب، وأن هناك عائلات تتظاهر ضد عائلتك وهي عائلة المصري؛ في محاولة للإيقاع بيننا. قلت له ما يجب أن تعرفه أنكم غرباء في هذه البلد وأنتم احتلال ولا تعرفون الوضع الاجتماعي في مدينتنا. إن في دار المصري 12 رجلاً ينادونني بخالي، كما أن نائبي في البلدية هو من عائلة المصري، ظافر المصري، وكان هذا الرد كفيلاً بإنهاء المقابلة لإخفاق الهدف منها».
لقد كان من الواضح أن ميلسون بكامل خبرته وعقليته الاستشراقية، التي تتعامل مع الواقع الفلسطيني بحرفة المستشرق، وذكاء الأكاديمي، وحسم العسكري، عجز عن التعامل مع بسام الشكعة بوطنيته وشعوره النضالي وقوة صوته كونه منتخباً من أبناء شعبه وليس معيَّناً. لقد كان يحمل في داخله قوة أبناء شعبه الفلسطيني عامة، وأبناء مدينته نابلس خاصة، وهنا يبدو ملحوظاً الشرعية التي كان يحظى بها هؤلاء القادة والقوة التي كانوا يمتلكونها في تلك المرحلة خلال تعامل الاحتلال معهم، ورفضهم إملاءه وتهديده، مقابل غيابها في هذه الأيام.
بالتوازي مع ذلك، باشر مصطفى دودين العمل على نشر فكرة الروابط وتعميمها في مختلف المناطق في الضفة المحتلة بعد تشكيله رابطة القرى في الخليل، التي حاول تمريرها في البداية بين المواطنين من خلال الإعلان ظاهرياً أنها تعمل على التنمية الريفية، واستند بها إلى الجمعية الزراعية التي كان يترأسها شقيقه.
بعد النجاح النسبي للرابطة في الخليل، توسعت الروابط لتصير في سبع مناطق إدارية في الضفة: رابطة قرى الخليل برئاسة مصطفى دودين، ورابطة قرى بيت لحم برئاسة بشارة قمصية، ورابطة قرى نابلس برئاسة جودت صوالحة، ورابطة قرى طولكرم برئاسة مصطفى مرزوق، ورابطة قرى رام الله برئاسة جميل الخطيب، ورابطة قرى جنين برئاسة يونس الحنتولي، ورابطة قرى قباطية برئاسة محمد الراغب.
لقد كان النجاح النسبي للروابط نابعاً من الإجراءات التي مارستها سلطات الاحتلال بسحبها الصلاحيات التابعة للمجالس البلدية كمنح رخص البناء، بالإضافة إلى امتياز تقديم طلبات لمّ الشمل وإصدار التصاريح، كما أعطتها صلاحيات تتعلق بالتعليم والصحة، الأمر الذي دعاها إلى تطوير هيكليتها التنظيمية لتناسب عملها، ثم إصدار صحف ناطقة باسمها ومعبّرة عن رؤيتها السياسية كـ«المرآة» و«أم القرى».
رابطة القرى في نابلس (عصيرة الشمالية) تأخرت عن مثيلاتها من الروابط في الضفة، فقد أنشئت بقيادة جودت صوالحة، الذي اختير ليكون نائباً أول لدودين في قيادة روابط القرى، وذلك في 3/6/1982، وفق رواية سعيد ياسين أحد أهم الشهود على تلك المرحلة ورئيس بلدية عصيرة من عام 2005 حتى 2007، وكان أيضاً أحد قادة إضراب المعلمين عام 1981.
يقول ياسين إن تأسيس الروابط في قرية عصيرة كان وصمة عار، لذلك أحرقت الشوادر (الخيم) التي وُضعت للاحتفال، واندلعت اشتباكات. ويواصل: «كنت أعمل مدرساً في بيتا وشرحت للطلاب خطورة روابط القرى وأثرها في المجتمع الفلسطيني وسيئاتها وأنهم قيادة بديلة من منظمة التحرير في ذلك الوقت. فُصلت من عملي في 1981 حتى قدوم السلطة الوطنية في 1994، وفي ذلك الوقت فتحت محلاً لتصليح الكهربائيات أغلقته المخابرات الإسرائيلية لمدة 90 يوماً، بالإضافة إلى منعي من السفر».
كانت أياماً سوداً وقاتمة على ياسين الذي أكد أنه كان لروابط القرى في عصيرة تأثير قوي، ففي بداية تشكيلها، قُتل ناشط من منظمة التحرير ورُمي على طريق عصيرة نابلس. ويستدرك: «استطعنا بعد مدة إيضاح الأمور لأهل القرية وإقناعهم بمدى سوء روابط القرى، وبأن الهدف منها أن تكون بديلاً من منظمة التحرير وأنها صنيعة الاحتلال، وهي خارجة عن نطاق المجتمع الفلسطيني وأعرافه... ساعدنا آنذاك المساوئ التي كانوا يمارسونها، كما ساعدنا في ذلك الوقت وجود تصريح في صحيفة القدس من إيهود باراك قال فيه نحن (الإسرائيليين) حولنا روابط القرى إلى جهاز المخابرات الإسرائيلية، وهنا فهم سكان عصيرة خطورتها وبدؤوا بمحاربتها معنا.

عجز ميلسون رغم عقليته الاستشراقية وخلفيته الأكاديمية والعسكرية عن كسب الشكعة

ويواصل المعلم حديثه: «عندما قدنا نضالنا ضد الاحتلال، وقف إلى جانبنا المناضل بسام الشكعة في مواجهتنا روابط القرى أو في إضراب المعلمين، كما وضع تحت تصرفنا قاعة الاجتماعات في البلدية... كان هؤلاء القادة القوة الموازية لمنظمة التحرير في الداخل وقادوا العمل ضد الاحتلال».
في نابلس تحديداً، بدا الرفض الكامل لروابط القرى، ثم انتقل إلى باقي القرى حتى أحبطت ذلك المشروع، فكانت النتيجة أنّ الاحتلال أقدم على إبعاد رؤساء البلديات في المدن الرئيسية، وعمل على تحويل الحكم العسكري في فلسطين إلى إدارة سماها الإدارة المدنية حتى تكون مدخلاً لإدارة مدنية فلسطينية، لكنها، وفق رؤية الشكعة «حكم ذاتي». ويضيف: «الاحتلال قرر شيئاً كان الناس قد سبقوه في رفضه جماعياً، ففشلوا في هذا المقترح... لم يكن جوّ القرى غريباً عن المدن، وكان الرأي العام في القرى موازياً للذي في المدن».
بعد افتتاح «الإدارة المدنية» الإسرائيلية في الأول من تشرين الثاني 1981، رفضتها «لجنة التوجيه الوطني» ورأت أنها تكتيك هدفه إنكار حق الفلسطينيين في تقرير المصير وفي دولة لهم. كان الشكعة، كما يقول جيفري أرونسون، مثل ميلسون نفسه، يرى أن «الإدارة المدنية» ليست أداة للمصالحة بل للمجابهة، فقد أعلن أن «هذه الهيئات العدوانية ستقاتل المؤسسات الوطنية بالوسائل كافة». ومن أوّل ما فعله ميلسون في ذلك الوقت الأمر بإغلاق جامعة بير زيت لمدة شهرين لكونها انطلقت مع أخواتها من الجامعات في الضفة كجامعة النجاح الوطنية وغيرها في مظاهرات رافضة لـ«الإدارة المدنية»، فيما عمل الإسرائيليون على إبعاد الشكعة وزملائه من رؤساء البلدليات ككريم خلف وإبراهيم الطويل، كما حاولوا اغتيالهم.
ولسلطة الحكم العسكري الإسرائيلي تجربة سابقة في 1979 حينما أمرت بإبعاد الشكعة واعتقلته بانتظار تنفيذ القرار، والسبب كان رفضه المتكرر مقابلة الجنرال داني ماط، الذي كان منسق أنشطة الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وكان يريد ربط شبكتي المياه والكهرباء النابلسيتين بشبكتي إسرائيل، لكن عملية الإبعاد غُلّفت بالادعاء الإسرائيلي أن الشكعة «أقر قتل الإرهابيين الفلسطينيين للمدنيين الإسرائيليين على الطريق الساحلي في آذار 1978»، في إشارة إلى عملية دلال المغربي.
وإن كان عيزر وايزمان، وهو الرئيس الإسرائيلي السابق، قد صرح بأن ما قاله الشكعة ليس هو السبب، بل الموقف الذي تصدر عنه الكلمات، فقد سلم وايزمان بأن الأسباب الداعية إلى إبعاد الشكعة لا تستند إلى المحادثة بينه وبين الجنرال ماط، فقد كانت المحادثة نهاية الحكاية وجزءاً من معلومات كثيرة متراكمة عن رئيس البلدية، خاصة أنه «حُذر في السابق من المضي في نشاطاته الاستفزازية».
في ذلك الوقت، طرحت روابط القرى رؤيتها السياسية دون تحفظ أو مواربة، وكانت تنشرها في المقابلات التي كانت تجريها صحفها الخاصة مع قياداتها الأولى، أو بالتصريحات التي كانت تعطيها لوسائل الإعلام المختلفة. هم بداية يعترفون بإسرائيل، وهم دعاة سلام يطالبون إسرائيل بالاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقوقه، وطالبوا بإنهاء الاحتلال ليكون هناك بدلاً منه «علاقات حسن جوار تتسم بالثقة والمحبة»، كما قال دودين في اجتماع لجميع الروابط نشرته صحيفة «الأنباء» الإسرائيلية الناطقة بالعربية في عددها في 26/12/1982. وقال دودين أيضاً: «نعلن بكل صراحة أننا لسنا على استعداد للدخول في أي مفاوضات تؤدي إلى التنازل عن أي شيء من حقوقنا وإننا نؤمن إيماناً مطلقاً بأن هذه الحقوق ستتحقق في يوم ما ولكن بأسلوب السلام وليس بأسلوب الإرهاب»، كما نقلت عنه «الأنباء» في 19/11/1982.
أما جودت صوالحة، فقال في حفل تأبين يوسف الخطيب (رئيس رابطة القرى في رام الله الذي اغتيل على يد «منظمة التحرير»)، إننا «من هنا ننادي ونطالب بالتفاهم وبالتفاوض المباشر مع جميع الأطراف المعنية لحل هذه المشكلة (الفلسطينية)»، كما نقلت الصحيفة نفسها في 2/12/1982. هذه المواقف السياسية التي كانت في ذلك الوقت شديدة التحريم ولاقت رفضاً شعبياً ووطنياً ودفعت إلى نبذ روابط القرى والتعامل معها بصفتها جهة خيانية تتبع قوات الاحتلال. وساهم في هذا ممارسات الرابطة عبر استخدام السلاح ضد المواطنين الآمنين وترويعهم والاعتداء على ممتلكاتهم، وكلها أمور عجلت في نهاية الروابط عام 1984.
خلال تصفح كتب التاريخ المعاصر في المنهاج الفلسطيني وغيره يُلاحظ تغييب هذه المرحلة من تاريخ الشعب الفلسطيني، ليس من كتب التربية الوطنية في المدارس فحسب، إنما من مناهج الجامعات، خاصة أنه بالمقارنة اللازمة ما بين مرحلتين بشخوصها وبآليات عملها وبمواقفها، مع الاعتراف باختلاف الواقع وتطوره بين المرحلتين (راوبط القرى ــ السلطة)، فإن هناك ما يرجعنا إلى هذه المقارنة في الموقف السياسي وطبيعة الردود على الجانب الإسرائيلي بل حتى في أبجديات التفاوض معه.
إن جدال داني ماط وبسام الشكعة حول عملية دلال المغربي، التي نقلتها بالحرفية الصحف الإسرائيلية، يجب أن يدرسه كل سياسيينا الذين يمارسون العمل السياسي والإداري أيضاً، وكذلك رده العنيف والقوي النابع من تعامل أعدائه معه من منطلق أنه إنسان شريف، كما وصفه ميلسون شخصياً رغم عدائه الواضح له. وحينما رفض الحاكم العسكري لنابلس لقاءه، فرفض الشكعة في المقابل أن يلتقي به حينما طلب ذلك، خاطبه ذلك الحاكم بكل غطرسة: «أنت على ما يبدو لا تعرف أمام من تقف، أنت أمام الحاكم العسكري الذي يستطيع سجنك وإبعادك»؛ هنا رد الشكعة: «أعرف أني أمام الحاكم العسكري المعيّن لمدينة نابلس يوسف لونتس. لكن على ما يبدو أنك من لا يعرف أمام من يقف»، وقال له بنبرة قوية: «أنت أمام بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس المنتخب، الذي من واجبه الحفاظ على كرامته وكرامة بلده، يحق لي رفض مقابلتك كما رفضت مقابلتي».
إن هذا الخطاب السياسي القوي لا ينبع من قوة البلاغة وحجتها بمقدار ما يعبّر عن الموقف الحقيقي لما يجب أن يكون عليه القائد من قوة وهيبة. لقد كان جزء من قوة الشكعة ورفاقه نابعاً من قوة شعبه الذي يثق به، كما كان يعرف دوره جيداً وحجم التفويض المعطى له. نحتاج إلى أكثر من هذا النصّ لنعدل شيئاً من بوصلتنا التي لا تشير إلى أهداف المشروع الوطني الحقيقي الذي نسعى خلفه.
* كاتبة وإعلامية فلسطينية