لطالما كان الخوف عند الإنسان بحسب طبيعة موقعه وحجم مساهماته من العوائق الأساسية أمام توجّهه المطلوب نحو تركيز مصلحته القائمة على الصحة والسلامة في التصور والفكر والممارسة.
وهذا ما يناقض تماماً الجرأة كقوّة ناعمة تُبرز الرفض للمقاربات الفقهية والمعرفية بالطريقة السطحية التي لا تمتلك تجذّراً وعمقاً، بل تعمل متسلحة بالوعي والحكمة على تشكيل عقلٍ إنتاجي تحليلي رافضٍ للبقاء ضمن إطلاق التبريرات والذرائع لما هو مطروح.
فغياب العقل المحلِّل الدافع إلى مواجهة الضعف والقصور أوجد بيئة خصبة لنبات ذهنيات منحرفة ومتطرفة في تناولها للنصوص وتفاعلها معها واقعاً، حتى إذا ما جاءت المصالح السياسية وجدت هذه الذهنيات حاضرة كي تستثمر من خلالها ما تريد، وحتى الحركات المتطرفة في أدبياتها وخطاباتها التعبوية والحماسية تستفيد هي الأخرى من المصالح السياسية للدول الكبرى وتعطي المسألة لوناً دينياً لشدّ العصب لجماعاتها.
وما دام العقل العربي الإسلامي محكوم للتبرير والذرائعية بحيث يجعل من النص التراثي الديني والفكري مادة أو مجالاً لحركته، فإن انعزاليته ستستمر في القعود عن ممارسة الدور المطلوب للنهوض، لأن الارتهان لإرادة الخوف تدفع للاستسلام ثم التبرير مصحوباً بجوقة انفعالية حماسية مغلقة بعبارات دينية منمّقة ممارسةٍ لسلطة قهرية بيدٍ ناعمةٍ تزيد من التورم الديني والفكري المريض نفسياً.
لذا ترى المهادنة طاغية مع النص التراثي حيث الاستزلام للنص الذي يسلب الإرادة، فيما الأصل أن يكون مواجهاً يعطي الإرادة حريتها في الفعل التغييري وللعقل ما يلزمه من آفاق الاستنتاج والتحليل المنسجمين مع ذهنية العصر ومفرداته وطموحاته.
هذا الفعل التغييري الذي يُحسن التعامل مع الحداثة كمظهر من مظاهر محاولة انعتاق العقل من سطوة النص التراثي المشدود إلى تمظهرات بيئية وعرفية ضاربة في التاريخ، لم يعد لديها محل في عقل اليوم الذي يريد نمطاً خطابياً ومقاربةً بمستوى الإجابات الكبرى المفتوحة غير المغلقة على اجترار كلامي لا طائل منه.
وليس من هذا الكلام معاداة النص أو شطبه، بل محاولة الانتفاع منه للتأسيس عليه اليوم بما يؤصّل الذات ويعيد لها كرامتها من خلال إعمال العقل المحلِّل والمستنتج والباحث الذي يقرأ ليعالج ويفتح الطريق أمام جذوة الإبداع ليصلها بلحظات التكامل، هذه الذات التي للأسف اليوم أضحت مهمّشة وأداة لنزوات الآخرين وعدوانهم المعنوي والمادي الرخيص..
فنحن لا نريد عقولاً معلّبة ومغلقة، فالتاريخ الإسلامي يشهد بكثير من الحركات الأصولية التي لا تزال ويلات فكرها تحصد أرواحاً وتحطّم أذهاناً كنّا لنتمنّى أن تكون جسر عبورٍ لتكاملٍ معرفي نحو غاية أصيلة.
فالعقل دوماً يبحث عن لحظة لا بد أن نكون مستعدين لما تحيله علينا من فتح نوافذ للحياة الفكرية والروحية التي تنعكس راحة على الحياة اليومية وسكينةً لقساوتها.
فأين المتنوّرين من فعل الإصلاح وصوته الثائر على تقليدية المؤسسة الدينية الفاشلة المستعطفة للتراث والمستجدية لنصوص بالية من أجل ضمان استمراريتها الصورية، فهل كُتب علينا البقاء مستسلمين لهكذا مؤسسات وخطابات ونصفق لها؟!
أو أننا ننتظر جائزة وهمية منها، فالإصلاح لم يكن يوماً إلا تعبيراً راقياً عن كرامة مفقودة تسعى نحو عودة الذات إلى سلّم الوجود، ولم يكن مجرد مهنةٍ أو وظيفةٍ روتينيةٍ نُوهم أنفسنا أننا قد فرغنا منها وذمتنا بريئة من كل تبعات.
كأننا اليوم نستعيد نفس الذهنية التي حكمت عصوراً قبلنا ومزّقت ناسها، ذهنية حبّ البروز والأنانية المفرطة وتسجيلاً للنقاط بين بعض المفكرين الحداثويين الذين يعتبرون أنفسهم هم الحقيقة الكاملة والمطلقة متجاهلين تراثاً بأكمله ومعتبرين إياه معيقاً للحداثة، وبين الفقيه الذي يعتبر نفسه حارساً أميناً لحقيقة النص الديني وسرّه المقدّس، فهما بنظره ليسا لدفع الحياة اليومية إلى الأمام، بل جرعات لإرضاء المشاعر الإيمانية الملتهبة لدى البسطاء وإشباعها بالطريقة التي يراها مناسبة لعقليته المرضية، فيما المطلوب وبشكل عاجل مصارحة حقيقية بين المفكر والفقيه ومصالحة عقلانية منضبطة تقارب الأمور بعيداً عن الشكليات بأن هذا يمثل الدين وله منطقته، وذلك يمثل الحداثة وهذه حدوده ومنطقته، بل بذهنية الإنسان الباحث عن الحقيقة دوماً، الساعي للتكامل الدائم مع لغة الحياة ومقتضياتها وإشكالاتها الملحّة، باحثاً عن إجابات شافية تحاكي عطش النفس وما تطلبه من غذاءٍ معرفي وروحي، لا أن تزيدها عطشاً ونفوراً من كل شيء وضياعاً على مستوى السلوك والفكر وبالتالي زعزعةٍ للرؤية وكسرها في ظل ثقل الحياة وضغوطاتها، وهذا ما نشهده ونسمع به كثيراً اليوم من ابتعاد عن الدين والمعرفة واللجوء إلى العبثية والانحلالية من كل شيء.
وأمام كلّ ذلك، هناك مساحة مشتركة كبيرة بين العقل والإيمان، لماذا لا يجري فتح نقاشٍ جدي بأسلوب مرن وفاعل حولها، أم هي لعبة مستحكمة تزيد حالنا تمييعاً واغتراباً؟
فالحداثة لا تعني انقطاعاً عن التراث كما أنها لا تعني الاستسلام له، إنها همزة وصلٍ بين لحظات الإنسان المبدعة الباعثة على ضرورة الربط والتحليل والخلوص بنتائج تعثر فيها على روح العصر وما تستدعيه لغته من انفتاح ووعي يعقلن الأمور ويوازن بينها.
وفي ظل هذا المشهد حان الوقت للاعتراف وعدم الخوف والتلطي بأننا فعلاً عاجزون عن وضع استراتيجية لإعادة بناء الثقة بين المفكر الحداثوي وبين الفقيه وبين الإنسان المتعطش لواقعٍ يستطيع استيعاب همّه الوجودي وقلقه المعرفي، وإبداعه الدفين المقموع من السطوة الدينية التقليدية، ومن عنجهيات الحداثويين ولغتهم البرّاقة.
قد كفانا مصادرةً لكرامة الناس المتمثلة بالقمع القهري لعقولهم ومشاعرهم عندما جعلها البعض مجرّد صدى لأهوائه، وجعل أصحابها عبيداً وظيفتهم التصفيق، وممنوعٌ عليهم في لحظةٍ مجرد التفكير والمناقشة والفهم، فبعض الحداثويين المتعجرفين أنانيون كما بعض الفقهاء لا يطيقون سماع الآخرين بأنهم بدأوا التفكير في حالهم وما هم عليه.
ونبقى أن نشير إلى أن تحرير ذهنية الناس تنطلق من تحرير ذهنية من يمارس التسلط عليهم فكرياً ودينياً وهذا يستدعي صوتاً شجاعاً حراً واعياً لا حسابات عنده سوى المساهمة في إحياء عقول الناس وتربية مشاعرهم أفضل لربطهم بما يدور حولهم وما هو مطلوب منهم.
من المعيب التذبذب اليوم وعدم اتخاذ موقف صائب لتصويب الأمور، فالانشداد إلى اللاموقف وضعنا في حالة جمود متخمة بالروح الانهزامية التي انعكست موتاً يلفُّ مجمل ساحات الحياة، فلا بد من فعلٍ ثقافي إبداعي يعبِّر حقيقةً عن اللحظات القلقة لوجود يبحث عن توازنٍ مفقود بين قواه، توازن يلغي فعل التعطيل للعقل والنص، بل يُعملهما بما يحقق الفائدة المرجوّة.
فمن غير الجائز أن يستغل الفقيه بساطة الناس لتمرير تعطيله للعقل وتغييبه حفاظاً على سلطته وشأنه الدنيوي الاعتباري الدنيء، أو أن يستغل المفكر موقعه لممارسة الاستبداد عبر تعميق الاغتراب والقطيعة بين الناس وما يريدونه من فكر للنهوض بهم فعلاً، وكأن الثقافة لديه ترف ذهني أو لذة يحصل عليها كلما أراد ذلك كباقي الأشياء.
لا نريد عقلاً رجعياً خرافياً يميت النص ويحبسه، ولا نريد حداثويين بعيدين عن الواقع، بل حواراً ومنهجية جديدة تقارب الأمور بلا حسابات وخلفيات، بل الإخلاص بغية الإصلاح والنهوض ولو تدريجياً بما تبقّى في واقع مأزوم.
ويبقى على الفرد مسؤولية البحث والتفهّم لمعرفة موقعه فيما يدور حوله وليمارس التأثير بمحيطه ولو بنسبة، على الأقل لربما نجحت مساعينا كأفراد ينشدون الحرية والإرادة والكمال، ريثما تتحقق العودة المنتظرة للعلاقة الطبيعية بين المفكر والفقيه، وتتكامل الأدوار وتنضج المعطيات.
*كاتب لبناني