لا أحد يستطيع أن يستهين بالدور الروسي في القضية السورية، ليس في الحرب أو الأزمة الأخيرة فحسب، بل إن الحضور الروسي في المسألة السورية، وبالتالي في صلب السياسة السورية، الداخلية والخارجية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستراتيجية، كان ولا يزال ذا مكانة وأهمية تاريخية كبيرة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، في الشأن السوري.
إلا أن السلوك الروسي إبان الحرب السورية، وبالتالي التأثير أو النفوذ الروسي فيها، يكتسبان أهمية استراتيجية مضاعفة، وكبرى بل قصوى، حتى أن مقاربة هذا الموضوع تبدو مفيدة وممتعة، وتحمل الكثير من الدروس والعبر، على أن تتوخى الخوض في جوانبه ومضامينه، دون الانحياز ضد أو إلى جانب وجهة النظر أو المصلحة الروسية، وإنما تسمية الأمور بأسمائها، وقول الحقيقة كما هي، ونقل الواقع كما هو.
إن مقاربة الدور الروسي في الأزمة السورية من زاوية الواقعية السياسية، وكذلك محاولة توصيف هذا الدور في هذه الأزمة بطريقة غير منحازة وغير متسرعة، يفترضان إجراء مقارنة سريعة وشاملة بين المقاصد أو الأهداف الروسية في المسألة السورية من جهة، والموارد المرصدة والإمكانات المستخدمة لإنجاز هذه الأهداف وبلوغ هذه المقاصد من جهة أخرى، بمعنى مقابلة أو موازنة المقاصد والأهداف مع الموارد والإمكانات، أي القدرات المادية واللوجستية، المعدة أو المستهلكة. فهذه المقارنة تقودنا إلى التأكيد، ومن دون شك أو تردد، على أن ما بذلته وتكبدته الدولة الروسية من خسائر أو أثمان، بشرية وعسكرية ومادية ولوجستية، في إطار الحرب السورية، أو بالأحرى الحرب الدائرة في سوريا، وهي الحرب العالمية الثالثة على الأراضي السورية، بأساليب وأشكال وأدوات جديدة ومختلفة، تبقى دون سقف الطموحات الكبيرة، التي رسمتها القيادة السياسية والعسكرية الروسية، وقبلها الهواجس الخطيرة، التي لمستها، أو الأخطار المحدقة التي حسبتها وتحسبت لها. بهذا المعنى، تبدو الأعباء، سواء الأثمان أو التضحيات، مهما كانت، والتي تحملتها ودفعتها روسيا في سوريا، في إشارة إلى الأعباء المالية، والعسكرية والتقنية واللوجستية، ذات الطبيعة التكتيكية، وحتى البشرية، أقل، في الواقع وبالميزان الاستراتيجي والجيوسياسي، أو حتى الجيوپوليتيكي، من الأهداف المرسومة، أو بمعنى أصح المتبلورة، أي المقاصد التي ترمي لها، في إشارة إلى الأهداف السياسية والاستراتيجية الكبرى، أو ذات الطبيعة السياسية والاستراتيجية.

لم يكن التدخل الروسي في الحرب السورية مغامرة أو مقامرة

وقد تمكنت روسيا في السنوات القليلة المنصرمة من الأزمة والحرب في سوريا، من تحقيق بعض الأهداف، وبالتالي المحافظة على مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، ولا سيما المشرق العربي وشرقي البحر الأبيض المتوسط، وهو أمر في غاية الأهمية والخطورة بالمعنى الجيوپوليتيكي وبالتحليل السياسي البانورامي. لقد استطاعت روسيا فرض خطوط حمراء في سوريا، وتأمين الالتزام بها أو عدم تجاوزها وتخطيها، ونجحت في بناء التوازن الاستراتيجي مع الغرب أو الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي في سوريا، وبالتالي إعادة بناء التوازن الدولي بكامله، أو لنقل توازن القوى في النظام الدولي، بعدما اختل ميزان القوى الدولية لمصلحة واشنطن وحلفائها في الغرب، في أميركا وأوروبا، وفي العالم بأسره؛ كما تمكنت من منع أو ربما لجم التدخل العسكري الغربي، المباشر والكبير، في الأحداث أو المعارك السورية. وقد بدأت الدولة الروسية بضرب الإرهاب الدولي، وبخاصة الإرهاب الإسلامي أو التكفيري، في إطار الاستراتيجية التي أطلقتها لمحاربته بقصد مكافحته، ليس من داخل الدولة السورية وعلى امتداد مساحة إقليمها ومجالها الجغرافي فحسب، وإنما في أنحاء عدة وفي أماكن مختلفة من خارطة المنطقة والجغرافيا السياسية العالمية. كذلك، تمكنت موسكو من المحافظة، حتى حينه، على وحدة الدولة السورية وضمانها ومنع التقسيم أو الفدرلة، ومعها في ذلك حلفاؤها وأصدقاؤها بطبيعة الحال، على الرغم مما يقال وما يحصل في الميدان، ناهيك عن تأمين بقاء واستمرار النظام السوري والرئيس السوري على رأسه، أو لنقل السلطة السياسية التي يجسدها الرئيس بشار الأسد، وما تمثله على المستويين الداخلي والخارجي، ذلك أن نظام الحكم السياسي في سوريا لم يعد هو نفسه بعد كل هذه المستجدات.
كان الحضور أو الأداء الروسي في الأزمة السورية، منذ البداية، يتطور ويتقدم بصورة تصاعدية أو متصاعدة، وينتقل من مرحلة زمنية وسياسية سابقة إلى أخرى لاحقة بطريقة تدريجية أو متدرجة. كانت روسيا تسير بخطوات ثابتة، مدروسة ومحسوبة، فلم تكن أبداً متسرعة، وبالتالي متهورة، ولم تكن مربكة، أو لنقل لم تبد كذلك، حتى في أصعب وأحلك الظروف أو الأوضاع الميدانية، العسكرية والأمنية، والدولية، السياسية والدبلوماسية، وإن كانت، في العديد من المرات، في موقع الدفاع، وربما الانكفاء أو التراجع أو الانحسار، من دون أن يعني ذلك الهزيمة أو الخسارة، لا في موقع الهجوم أو القدرة على المبادرة. ولكن القيادة الروسية، السياسية بالدرجة الأولى، ومن خلفها العسكرية والأمنية بالدرجة الثانية، كانت تعرف ما الذي تريد، وتدرك طبيعة وحجم المخاطر والمحاذير وأبعادهما التكتيكية والاستراتيجية، المعلنة أو المتوقعة والمبطنة أو غير المرئية منهما. وهي، لذلك، كانت تجيد، باللغة الدبلوماسية، المفاوضة والمناورة، وبالمعنى السياسي، الاستثمار وصقل الأرباح أو المكاسب السياسية، وتعلم متى وكيف تتقدم، فتربح، وربما تنتصر، أو تتراجع، وتمنح، من دون أن تخسر، ومتى وكيف تأخذ، وتستحصل، ثم تستزيد، أو تتنازل، من دون أن تخضع أو ترضخ، حتى تعود وتستعيد. وهي ليست أبداً بالأمور أو الخيارات السهلة والبسيطة، إلا أنها أتقنت اللعبة الدولية والدبلوماسية هذه المرة، في المسألة السورية، إلى درجة متناهية في الدقة والحذر، بل في غاية البراعة أو الاحتراف والدهاء السياسي. إذاً، لم تكن روسيا متسرعة في سوريا، فتقدم على خطوة ناقصة، أو جرعة زائدة، طائشة في كلتي الحالتين، كما أنها لم تكن مستعجلة أو في عجلة من أمرها، ولا حتى محرجة، على الرغم من الضغوطات التي تعرضت لها، أو الأعباء التي تصدت لها.
ويبدو أن روسيا ستكون أكثر حزماً وحسماً من حيث إمكان أو مقدار التأثير في مسار الأحداث في سوريا والقدرة على تمرير وتظهير هذه الإرادة في التأثير وممارسة النفوذ السياسي والمعنوي، أو حتى استخدام القوة المادية أو العسكرية، وذلك بعد معركة حلب الأخيرة وعلى إثر تصفية السفير الروسي لدى أنقرة. هذا يعني تصاعد الدور الروسي في الأزمة السورية في المستقبل، بما في ذلك الحضور السياسي والحراك الدبلوماسي في المحافل أو على المنابر الدولية، كما في كواليس السياسة الدولية، وكذلك تصعيد الدور العسكري، أو بالأحرى التدخل العسكري المباشر في الميدان السوري. سيزداد حجم أو مقدار التأثير الروسي في مسار الحل السوري وفي مصير المسألة السورية، وربما ستكون روسيا أكثر قدرة على المبادرة والحركة، وفي وضع أو موقع أفضل على طاولة المفاوضات السياسية والدولية والدبلوماسية بشأن سوريا وحولها، إذ لا أحد يمكنه أن ينتظر أو يتصور أو يتخيل إمكان، أو حتى احتمال، الانكفاء أو التراجع الروسي في الموضوع السوري، من هذه اللحظة السياسية في تاريخ المسألة السورية المعاصر، وبعد كل هذه المزايدات والمناقصات والاستثمارات في المزاد السوري من قبل الجميع. من هنا، ربما تحظى روسيا بفرصة المساهمة والمشاركة أو «الضلوع» في إيجاد خارطة الحل السياسي أو التسوية السياسية للقضية السورية وصياغتها، وذلك، بطبيعة الحال، مع القوى أو الأطراف الدولية الأخرى والإقليمية، المعنية بالشأن السوري، ووضعها على سكة التنفيذ الصحيحة، أو الدفع باتجاه هذا الخيار السياسي، ولا شيء سواه، وربما فرضه، على أن يبدأ هذا المسار السياسي، أو هذه العملية السياسية، بوقف الأعمال الحربية والعمليات العسكرية، وإنهاء حالة الحرب في سوريا والاستباحة والاستنزاف للدولة السورية.
في المحصلة، يمكن أن نخلص، من هذه المقاربة السياسية، إلى أن الدور الروسي في القضية السورية المعاصرة، أو بالأحرى التدخل الروسي في الأزمة أو الحرب السورية، بكل صراحة، لم يكن أبداً مغامرة أو مقامرة أو أي شيء آخر من هذا القبيل. من وجهة النظر الروسية، سواء القيادة أو النخب، أو بالنسبة إلى الروس، ومن زاوية المصالح الروسية، كما من زاوية التحليل السياسي العلمي أو الصحافي، كان الحضور قويّاً ووازناً ومؤثراً، وكان الدور محوريّاً ومركزيّاً، وكان الأداء محترفاً، ويختلف، في بعض الأحيان، وبكل وضوح، عنه في قضايا أو ملفات أخرى.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية