يذكر الكاتب ستفن غوانز أنّ جوزف ستالين نظر، في السنة التي توفّي فيها (1954)، الى المنظومة الأميركية التي كانت قد تشكّلت وبانت معالمها وقيمها وأساليبها، وتساءل عمّا سيحصل لو أنّ هذه القوّة تمكّنت بالفعل من هزيمة خصمها، والهيمنة منفردةً على العالم: "ما الذي سيحصل لو نجحت الرأسمالية في تهشيم جمهورية السوفيات؟ هذا سيجلب حقبة هي من أكلح حقبات الرجعية في كلّ البلدان الرأسمالية والمستَعمرة. سوف يُقبض على الطبقة العاملة وعلى الشعوب المقهورة من خناقها، وستضيع كلّ مكاسب الشيوعية العالمية". من وجهة نظر معيّنة، فإن من الممكن اعتبار الكوارث والحروب التي حلّت في بلادنا، منذ بزوغ "العصر الأميركي"، الى الوضع الراهن في المشرق العربي تحديداً، كتجلٍّ مأسويّ لنبوءة ستالين.
كان هدف غوانز من مقاله دحض فكرةٍ محدّدة ولّدها سقوط الاتحاد السوفياتي (من بين مسلّمات كثيرة انتصرت كـ"حقائق" مع انتصار الأمريكان) وهي أنّ التخطيط المركزي وملكيّة الدولة والمؤسسات العامّة "أثبتت" أنها وسائل غير فعّالة لإدارة الاقتصاد ــ بدليل سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياره. هذه بالفعل حجّة قد تكرّست رغم أنّها تخالف الكثير من الوقائع البسيطة: بين عامي 1928 و1988، يقول غوانز، سبق الاتحاد السوفياتي في معدّلات النمو كلّ البلاد الغربية الصناعية، وأغلب الدول النامية، باستثناء اليابان وكوريا وتايوان. هذا الاقتصاد "المخطّط المركزي" قد نجح أيضاً، على طول هذه الفترة الزمنية المديدة، قي تحقيق نموٍّ مستمرّ وبلا انقطاع، حتّى بعد حلول مرحلة الركود في السبعينيات، بينما الاقتصادات الرأسمالية كانت تخضع ــ ولم تزل ــ لدورات صعودٍ وهبوط، وأزمات حادّة وقاسية. أطلق ستالين خطته الخمسية الأولى وحجم اقتصاد الاتحاد السوفياتي يوازي خُمس نظيره الأميركي، فأصبح كنصفه في أواخر الخمسينيات، وستين في المئة منه في أواخر الستينيات؛ فكيف يكون هذا النظام، بمقاييس الأداء الاقتصادي، متخلّفاً وعاجزاً؟
يفنّد غوانز العديد من الكليشيهات التي تتكرر حول التجربة السوفياتية: كيف تكون ملكية الدولة والاشتراكية "قاتلة للإبداع"، كما يفترض العديدون بثقة، فيما السوفيات قد باروا الغربيين وسبقوهم في العديد من المجالات العلمية؟ (الطريف هنا، يشير الكاتب، هو أنّ برامج الأبحاث الأميركية نفسها، كما يعرف كلّ من اطّلع عليها، تقوم على تمويل الدولة على الطريقة الاشتراكية. 77 من 88 اكتشافاً علمياً أساسياً أنجزه الأميركيون في العقود الماضية، يقول غوانز، جاء تمويلها بالكامل من الدولة). لماذا، إذاً، يجري التندّر على نظامٍ اقتصادي أمّن لمئات الملايين توظيفاً كاملاً (في الدستور السوفياتي، العمل حقّ وواجب)، وضمانات في السكن والصحة (لم يشكّل الإيجار أكثر من 2 ــ 3 في المئة من دخل الأسرة السوفياتية)، ونقل عام ممتازاً وشبه مجاني، وحقوق تعليم وتقاعد وإجازات مثبتة في الدستور، وكلّ ذلك مع تحقيقٍ نموّ عال ومستقرّ، ورفع مستوى حياة المواطنين باستمرار؟
يهدف غوانز الى إثبات أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن لعلّة كامنة في "الاقتصاد الموجّه"، بل لضغوطٍ مختلفة، أهمّها خارجي المصدر، وقد وصلت الى مرحلة "الحرب الاقتصادية" في أيام ريغان (قامت السياسات الأميركية الهادفة الى ضرب الاقتصاد السوفياتي على سلسلة من "قرارات أمن قومي" وقّعها الرئيس، بعضها يدعو مباشرة الى تخريب اقتصاد روسيا، وبعضها الآخر الى رفع كلفة الانتاج فيه، وهكذا دواليك). منذ البداية، عرف الاتحاد السوفياتي أنّه لن يتمكن من الاعتماد على السوق العالمية لاستيراد المواد الأساسية أو التكنولوجيا، لأنها ستستخدم حينها كسلاحٍ ضدّه (وهو ما حصل تالياً بالضبط)، فكان عليه الاعتماد على موارده الخاصة حصراً وتلك الموجودة ضمن أراضيه، حتى ولو لم يكن ذلك مجدياً اقتصادياً وله كلفة متزايدة على الانتاج والتنافسية.
في الوقت ذاته، كان الاتحاد السوفياتي، واقتصاده أصغر بكثير من مثيله الغربي، مجبراً على تحقيق توازنٍ عسكري مع الـ"ناتو"، وهو ما يعني صرف نسبة أكبر بكثير من دخله القومي على الدفاع والتكنولوجيا العسكرية من منافسيه في الغرب. كان السوفيات في حالة "لحاق" دائم واضطرار الى ضخّ موارد إضافية للحفاظ على التوازن العسكري؛ يذكر الكاتب أن كلّ الفتوحات في التكنولوجيا العسكرية بعد الحرب العالمية تقريباً، من القنبلة الذرية الى القنبلة الهيدروجينية الى الصواريخ البالستية التي تطلق من غواصات، كانت غربية المنشأ، تدخل جيوش الـ"ناتو" ثم يجتهد العلماء الروس لمكافأتها في أقصر فترة زمنية ممكنة. حين يشتكي البعض من رداءة البضائع الاستهلاكية السوفياتية، أو التقشّف في بعض مناحي الحياة، عليهم أن يتذكروا أنّ جزءاً هائلاً من الموارد والعقول والأبحاث السوفياتية كان عليها أن توجّه الى الميدان العسكري، بدلاً من استثمارها في تحسين حياة الناس وتلبية حاجاتهم وتنمية الاقتصاد المدني (يذكر غوانز، مثلاً، أنّ نصف الآلات الصناعية في الاتحاد وأكثر من نصف ميزانية الأبحاث العلمية فيه كانت مسخّرة للقطاع الحربي). لهذه الأسباب، مثلاً، لم يتمكّن السوفيات من تطوير صناعة نفطٍ متقدّمة، أو صناعة سيارات، وغيرها من أمورٍ كانت ممكنة تقنياً، ولكن دونها سلّم الأولويات.
العامل الثالث في السقوط السوفياتي كان كلفة دعم الحلفاء، وضرورة تمويل عددٍ كبير من الأنظمة والحركات في العالم اتقاءً لحصارٍ غربي ظلّ يضيق، وسياسة أميركية عنيدة سعت الى شغل الاتحاد السوفياتي بالاشتباكات والمشاكل في كلّ مكان، من أفغانستان الى بولندا وأفريقيا والشرق الأوسط، حتّى وصلت كلفة دعم الحلفاء الخارجيين، في الثمانينيات، الى أكثر من 44 مليار دولار، وهو أكثر من الدخل النفطي الروسي يومها برمّته.
على الهامش: نشرت "امبراطورية الشر" السوفياتية 96,000 "مستشار اقتصادي" حول العالم وفي بلاد الجنوب الفقيرة، للمساعدة في البناء والتخطيط والاستثمار، مقابل 16,000 "مستشار عسكري"؛ فلنقارن ــ قبل أن نتكلّم على دروس الاتحاد السوفياتي ومعاني سقوطه ــ تلك الحال مع النير الأميركي الذي أرخى بثقله على كوكبنا.