يكثر الحديث اليوم عن تجنيس المغتربين اللبنانيين والمتحدرين من أصلٍ لبنانيّ، ويسارع السياسيون، على نمطهم المعروف، إلى استغلال المناسبة بإظهار غيرتهم على إعادة الجنسية اللبنانية إلى شطر لبنان المقيم خارج الحدود... حتى لا يفقد الوطن هذا الفريق العزيز من أبنائه بل يغتني بهم عدداً وإمكانياتٍ مادية وعملية، مضخّمين أعدادهم إلى حدٍّ يتخطى الواقع بكثير، وهم، كما لا نجهل، مسيحيون في معظمهم، ما يخيف اللبنانيين الآخرين الذين يخيَّل إليهم، تجاه هذا التضخيم العدديّ، أن هذا الأمر سوف يطيح بالتوازن الداخليّ ويقلب المعادلة، في حين أن إعلاء الصوت في هذا الموضوع لا يهدف منه أصحاب التصريحات والتعليقات إلى أكثر من إحراز مكاسب شعبية في أوساطهم، ولكن بتقديراتٍ بعيدة عن الدقة وعن المعقول.
إزاء هذا اللغو الكلاميّ رأينا أن نقدّم لقرّاء «الأخبار» نص رسالة بعث بها المؤرخ اللبنانيّ الكبير الدكتور فيليب حتي، أستاذ التاريخ الشرقي في حينه في جامعة برنستون، احدى أكبر الجامعات في الولايات المتحدة الأميركية، إلى الدكتور وليم نعمه الذي كان إذ ذاك أستاذاً لعلم الأمراض الهضمية في كلية الطب في جامعة مكسيكو عاصمة المكسيك، وهو أيضاً مؤرخ وصاحب الكتاب الوحيد باللغة الاسبانية عن تاريخ لبنان، وكذلك شاعر باللغات العربية والانكليزية والاسبانية وكاتب بهذه اللغات الثلاث، وموسيقيّ وملحّن.
يسارع السياسيون إلى إظهار
غيرتهم على إعادة الجنسية اللبنانية إلى المغتربين

هذه الرسالة مؤرخة في 20 آذار سنة 1946، وقد تطرَّق فيها الدكتور حتي إلى المغتربين اللبنانيين وعددهم، وذلك بما هو عليه من الدقة العلمية والجدّية والرصانة والموضوعية، وأين كل ذلك من التهريج الإعلاميّ الذي نسمعه الآن.
وهذا نص هذه الرسالة:
20 آذار 1946
جامعة برنستون
ولاية نيو جرسي
قسم اللغات والآداب الشرقية
عزيزي الحكيم وليم،
عذراً عن تأخري بالجواب. كنت وعدت بإرسال كلمة عن المهاجرين للعالم الغربي، ثم جاءت الأسئلة فسأكتفي بالجواب عليها مع اعترافي أولاً بأني لم أُعطِ للآن تاريخ لبنان الحديث حقه من الاستقراء والتنقيب ثانياً أنه ليس لنا كتب يوثق بها.
1- لا شك أن الحاج كيوان كان مسيحياً، وكانوا يطلقون هذا اللقب على من زار القدس.
2- أعلى قمم لبنان ضهر القضيب حسب التقارير السالفة، أما آخر قياس جعل القرنة السوداء أعلى قمة فهي 11024 قدماً.
3- رسالة لويس التاسع لا أستطيع الحكم في أمرها لأني اطّلعت على نسخ منها ولم اطّلع عليها.
4- نعم آل شهاب أصلاً كلهم مسلمون وهم ينتمون لسلالة قريش، إذا كان بعضهم اعتنق الدرزية فلا علم لي؟
5- نهر العاصي منبعه قرب بعلبك وله هناك عدة مصادر أهمها العين الزرقاء وعين اللبوة وكلها في أسفل لبنان من الجهة الشرقية، ومصبّه عند قدم الجبل الأقرع (CASIUS) قرب السويدية.
6- مياه شالوف جزين من نبع جزين بأعلى القرية، وبعد أن تجتاز البلدة تصل إلى صخر منقطع عمودياً كالجدار فوق الوادي، فتنحدر عن علوّ 70 متراً وتتَّحد على بُعد 3 أميال بعد ذاك بمياه الأوَّلي التي تُسمّى في أعلى مسيرها نهر الباروك.
7- كان كسروان آهلاً بالدروز والمتاولة قبل أن يأهله الموارنة وذلك بتسرُّبهم من الشمال وهو مركزهم الأوَّلي.
8- كان في سواحل لبنان روم قبل أن يجيء الموارنة إلى لبنان من منشأهم الأصلي وهو شمالي سوريا وضفاف العاصي.
9- نعم انشقاق الطائفة الكاثوليكية الملكية عن الكنيسة الأرثوذكسية كان في العصر الحديث، ولكنَّ أبناء الطائفة الكاثوليكية هذه يقولون إنهم مع الروم كانوا أصلاً كاثوليك وانهم «لم ينشقّوا» بل عادوا فاتَّصلوا بالكنيسة الأصلية.
10- لا أظن أن عدد المهاجرين اللبنانيين منذ مائة عام لليوم بلغ المليونين أو شيئاً من ذلك ولو أحصينا سلالتهم في بلاد الهجرة. فأبناء لبنان كلهم لا يعدُّون المليون فكيف يستطيعون أن يرسلوا إلى الخارج عدداً يزيد عددهم؟ ليس ثمةَ من إحصاءات ولكني لا أعتقد ان المهاجرين اليوم من لبنان في سائر أنحاء المعمورة مع الجيل الأول من مواليدهم يقرب ثلاثة أرباع المليون على الأكثر. فإن شعبنا عن غير قصد يبالغ بالأعداد ولا يستطيع أن يقدّر عدداً كبيراً بما يقرب من الدقة وذلك لأنه أبداً يعالج أعداداً صغيرة محدودة فمتى زاد العدد «برم رأسه». أسمع وأقرأ ان المهاجرين المتكلمين بالعربية في العالم الجديد نصف مليون وهم بالأكثر مع مواليدهم على أضبط تقدير تجده في كتابي “Syrians in America” ربع مليون. حتى الجرائد هنا تقول ان عدد المجنّدين منهم في هذه الحرب (المقصود الحرب العالمية الثانية) كان 50 ألفاً!!؟ وعلى أضبط تقدير لا يزيد عن 15 ألفاً... إلخ إلخ.
أما بعد، اني عازم على السفر بعد بضعة أسابيع بدعوة من حكومة لبنان، وبدعوة من النظارة الأميركية، لزيارة بلدان الشرق الأدنى وسأعود ان شاء الله في آخر الصيف، فعسى أن نجتمع هناك ان كنت قد قرّرت السفر.
أظن أنه بمخابرتك أولي الشأن في جامعة المكسيك حسبت أني على استعداد لقبول الدعوة ان كانت ممكنة هذا الصيف. والذي أذكره أنني صرَّحت لك أني لست أرمي من سؤالي إلى شيء من ذلك، إنما أردت أن أدرس ماذا وراء ما ذكرته بشأن كرم.
وعلى ذكره أقول إني خابرته لما كان هنا بشأن إقامة صلة بين أصحابنا في المكسيك لدعم مشاريع الجامعة الأميركية، وهو أظهر حماساً ووعد خيراً وأكد إرسال أسماء وقوائم كيما تصير مخابرتهم.
وللآن لم يتمّ شيء من ذلك. فإذا كان لديك متسع من الوقت وأردت بالاشتراك معه أن ترسل أسماء لبعض المتخرجين والأصدقاء لمكتب الجامعة Albert STAUB Near East Colleges وتذكر له انك ترسلها بناءً على طلبي.
أخوك
فيليب
* عميد ركن متقاعد