خلال ربع قرن مضى، حصل فراغ في السلطة في بلدان عديدة: صومال ما بعد محمد زياد بري (1991)، أفغانستان ما بعد محمد نجيب الله (1992)، وليبيا ما بعد معمر القذافي (2011).عاد الصومال مع انهيار الديكتاتور العسكري إلى وضعيته التي كان عليها مع استقلال 1960 لما جرى تركيب وحدة بين الصومال الايطالي والصومال البريطاني، حيث في نطاق الأخير تم تأسيس «جمهورية أرض الصومال» بالشمال في 18 أيار 1991 بعد أربعة أشهر من سقوط حكم زياد بري. كان الانقسام القبلي ــ الجهوي سبباً في تشتت المعارضة الصومالية طوال حكم زياد بري (منذ 21 أوكتوبر 1969) حيث كانت «الحركة القومية الصومالية» في الشمال تخوض كفاحاً مسلحاً بدءاً من عام 1988، وتستند إلى قبيلة إسحق ذات الغالبية بالصومال الشمالي عند خليج عدن، فيما «المؤتمر الصومالي المتحد» يسيطر في الوسط حتى التخوم الشمالية للعاصمة مقديشو، وفي الجنوب عند الحدود الكينية حتى كسمايو كانت (الحركة الوطنية الصومالية».

بعد سقوط زياد بري يوم 27 كانون ثاني 1991 مباشرة جرى تعيين «علي مهدي محمد» وهو من «المؤتمر»، رئيساً للصومال، ولكنه لم يتم الاعتراف به من الشماليين والجنوبيين واقتصرت سلطته على العاصمة ومحيطها ثم أزيح. حتى عام 2015 لم تستطع أي سلطة في مقديشو أن تمتد ليس فقط على كل الصومال بل عجزت عن الامتداد إلى كامل الصومال الأوسط والجنوبي، أي «الصومال الايطالي»، حتى عندما أتت القوات الأميركية في عامي 1992 و1993، كما عجزت «المحاكم الاسلامية» لما وصلت لسلطة مقديشو في حزيران 2006، ثم عجز الاثيوبيون بعد غزوهم للصومال في الشهر الأخير من عام 2006، ومن بعدهم «قوات حفظ السلام الافريقية» الذين ساندوا البرلمان الموقت الذي انتخب رئيساً، في عام 2009 باجتماع جيبوتي، هو الزعيم المنشق عن «المحاكم» شيخ شريف أحمد، عن الوصول إلى سلطة هي أبعد من تخوم مقديشو. في الصومال عام 2015 هناك أكثر من جغرافيتين – سياسيتين أبعد من نطاقي «الصومال البريطاني» وذاك «الايطالي»، مع ملاحظة أن «جمهورية أرض الصومال» هي تحت سلطة واحدة منذ 1991. كان الديكتاتور، وهو قد أتى بعد اضطرابات وتزعزع الحكم البرلماني المدني طوال تسع سنوات أعقبت استقلال 1960، لاصقاً لمجموع الصومال، وعندما انهار تفكك وانهار البلد معه. وكان تفككه إلى أكثر من الجزئين عندما كان الايطاليون والبريطانيون يقتسمون الصومال (تنازل الايطاليون عن الصومال للندن عام 1950 رسمياً وهم كانوا قد فقدوه حربياً خلال الحرب العالمية الثانية)، ثم سلمه البريطانيون موحداً للصوماليين عام 1960. في أفغانستان كان انهيار الحكم الشيوعي في 16 نيسان 1992، بعد أن صمد الشيوعيون الأفغان في السلطة لوحدهم مدة ثلاث سنوات وشهرين بعد اكتمال انسحاب القوات السوفياتية، مدخلاً إلى انهيار وحدة «المجاهدين» التي ظلت قائمة في حربهم ضد الحكم الشيوعي (منذ 27 نيسان 1978) وضد الوجود العسكري السوفياتي (منذ 27 كانون أول 1979). سيطر أحمد شاه مسعود على العاصمة كابول، وهو القائد العسكري في «الجمعية الاسلامية»، في سباق كالجري الأولمبي مع زعيم «الحزب الاسلامي»، أي قلب الدين حكمتيار. كان حكمتيار وشاه مسعود من خلال شخصيهما ومن خلال تنظيميهما عماد المقاومة الأفغانية ضد السوفيات والشيوعيين المحليين. كما انقسم الشيوعيون المحليون عام 1973 بين جناحين، أي «خلق = الشعب» و«بارشام = الراية»، ثم توحدا في شباط 1978 ثم انقسما من جديد في تموز 1978، فإنّ الاسلاميين انقسموا أيضاً عام 1978 بين «الجمعية الاسلامية» و«الحزب الاسلامي». كان الانقسام الشيوعي والاسلامي مبنياً كقاعدة اجتماعية للتنظيمات على أساس قومي: بين باشتون (42%من السكان) وطاجيك (27%). في عام 1980 انقسم «الحزب الاسلامي» بين حكمتيار، المستند إلى باشتون العاصمة كابول (غالبية سكانها من الطاجيك) وإلى باشتون ولاية قندوز الشمالية (عشيرة غيلزاي الشمالية) وإلى باشتون مناطق الجنوب، وبين يونس خالصي وجلال الدين حقاني المستندان إلى عشيرة غيلزاي الشرقية الباشتونية عند مدينة جلال آباد وبالذات فرع «خوجياني»، وهو الأكبر بين غيلزاي الشرق. كان الغزو السوفياتي عام 1979 ترجيحاً لجناح «بارشام»، حيث تم قتل الرئيس الأفغاني الشيوعي من جناح «خلق» حفيظ الله أمين والإتيان من تشيكوسلوفاكية بزعيم «بارشام» الأكثر ولاء للسوفيات بابراك كارمال قبل أن يستبدل بمحمد نجيب الله عام 1986. بين عامي 1992 و1996 اشتعل الصراع المسلح بين حكمتيار وشاه مسعود. ولم يستطع حليف باكستان، أي حكمتيار، السيطرة على العاصمة الأفغانية، لذلك اخترعت رئيسة الوزراء الباكستانية بنازير بوتو حركة «طالبان» في عام 1994، وكانت باكستان قد شعرت بالمصلحة في دخول التنافس مع ايران وتركيا للسيطرة على بقايا السوفيات من الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة، وبالذات في أن يكون الساحل الباكستاني مصباً عبر أفغانستان لأنبوب الغاز التركمانستاني، لا ايران ولا تركيا. عندما سيطرت «طالبان» على كابول في أيلول 1996، وأسقطت الرئيس برهان الدين رباني، المدعوم من شاه مسعود، لم تستطع تجاوز مناطق الباشتون في الجنوب والشرق والشمال في سيطرتها، فيما قام مسعود، مع الزعيم عبد الرشيد دوستم من الأوزبك (9%) ومع «حزب الوحدة الاسلامية» الشيعي المستند إلى شيعة الهازارا (9%)، بتشكيل «تحالف الشمال» لمواجهة «طالبان» مدعوماً من روسيا وايران والهند، وهو التحالف الذي استندت إليه أميركا في غزو 2001 لأفغانستان وفي تأسيس الحكم الجديد بكابول ولو بواجهة باشتونية مثلها حامد قرضاي الذي تم الاتيان به بالطائرة من أميركا. قادت «طالبان» المقاومة ضد الأميركان، مدعومة من حزب حكمتيار ومن جماعة جلال الدين حقاني، ولم تستطع طوال عقد ونصف العقد من الزمن أن تتجاوز الإطار الباشتوني. في فترة سيطرة شاه مسعود (1992-1996) وطالبان (حتى 2001) وسيطرة السلطة المصنوعة من الأميركيين على كابول (2001-2015)، كان هناك فراغ في السلطة بأفغانستان، حيث كانت سيطرة مسعود لا تتجاوز العاصمة وبعض مناطق الشمال، وكان نطاق سلطة «طالبان» كابول والجنوب الباشتوني دون الشرق والشمال، فيما الأميركيون وقرضاي المدن دون الريف الذي كان بمعظمه وبخاصة في الجنوب والشمال الشرقي بأيدي طالبان وحكمتيار، فيما كانت سيطرة نجيب الله، وقبله بابراك كارمال، وهما المدعومان من السوفيات، بين عامي 1979 و1989، أوسع من سلطة قرضاي جغرافياً في المدن والريف. ولم يفقد نجيب الله بعد اكتمال الانسحاب السوفياتي في 15 شباط 1989 أي مدينة وظل الوضع هكذا حتى يوم 18 آذار 1992 عندما سقطت مدينة مزار شريف بالشمال بيد شاه مسعود لتتبعها كابول في 16 نيسان. كانت سلطة كابول ما بعد 16 نيسان 1992 هي على ما يشبه الحاكم في القومية، وتضعف على ما يختلف عنه قومياً – عرقياً (الهازارا تجمع الانتماء الطائفي والعرقي في بوتقة واحدة) ريفاً ومدناً. كان فراغ السلطة الأفغانية متحدداً بالتخوم القومية ــ العرقية، ولم يستطع أحد أن يملأه في فترة ما بعد الشيوعيين، وكان فراغ السلطة، في زمن الملك (حتى تموز1973) وفي زمن محمد داود الذي أطاح به الشيوعيون بانقلاب 27 نيسان 1978، أقل من الشيوعيين ومن الذين أتوا بعدهم.
في ليبيا، التي أتى استقلال 1952 كنتيجة لعملية ضم ولايات ثلاث: طرابلس وبرقة وفزان اتحادياً في مملكة واحدة، كان حكم القذافي منذ 1 أيلول 1969 حتى سقوطه من مقره في باب العزيزية يوم 23 آب 2011 لاصقاً قوياً للكيان الليبي من خلال قوة الديكتاتور الفرد، وبعده انفرطت ليبيا إلى أجزائها المكونة وأكثر، وكان الصدام الرئيسي بين برقة وطرابلس، ولو أنه يأخذ شكلاً إيديولوجياً سياسياً بين طرابلس الغرب المسيطر عليها من الاسلاميين وبين الشرق في منطقة برقة، حيث اللواء خليفة حفتر وبقايا الجيش الليبي، المدعوم من الليبراليين وبقايا النظام القديم ومن مصر.
في عام 2015 دخل «داعش» وسيطر على سرت ومناطق عديدة من الوسط الليبي. أيضاً أخذ شكل الانقسام بين الغرب والشرق الليبيين شكل انقسام بين برلمانين وحكومتين وجيشين في طرابلس وطبرق.
في تجارب أخرى، لم يحصل فراغ في السلطة: في عراق ما بعد صدام حسين حصل اضطراب وتصادم بين المكونات الثلاثة الرئيسية للمجتمع العراقي. لم تغب السلطة المركزية أو تستقل أجزاء ولو أن تجربة «داعش» جديرة بالملاحظة من حيث تقديمها لـ«شرعية» منافسة لحكومة بغداد، فيما يعترف الاقليم الكردي بسلطة بغداد. في يوغسلافيا 1991 حصل انقسام للدولة إلى أجزائها الستة ثم أضيفت جمهورية كوسوفو عام 2008، ولم يحصل فراغ.
يلاحظ في حالات الفراغ الثلاث: دول هشة التركيب توجد بها حالة لا اندماج اجتماعي، وهي ليست دول قديمة التكوين، مثل مصر أو المغرب. تنازع مغول الهند والفرس والبريطانيون والروس للسيطرة على أرض أفغانستان الحالية. رغم توحد أفغانستان في مملكة واحدة بالقرن الثامن عشر ظلت موضع تنازع ومدار لنفوذ الآخرين ولعبهم بالمكونات المحلية. في ليبيا والصومال قاد سقوط الديكتاتور إلى تفكك الأجزاء الجغرافية التي تم دمجها ببلد واحد يوم الاستقلال والذي كان هو أيضاً يوم التأسيس للدولة، بل للدقة كانت أجزاء التفكك أكثر من أجزاء الدمج وفاقتها عدداً.
* كاتب سوري