في مثل هذا اليوم من عام 1967 استفقنا لنعرف حقيقة خسارتنا المفجعة في عدوان حزيران. كتب الكثير عن أسباب الهزيمة لكن أيضاً سكت عن الكثير. لم يقل مثلاً إن السبب الرئيس يكمن في اللاعلمية في كل تصرفات حكامنا، وحب الظهور والاستعراضات الشعبوية والعسكرية الإعلامية البائسة والمبالغة الشديدة في قوانا والاستهانة الغبية بقدرات العدو؛ وهذا غيض من فيض.
نتائج العدوان كانت كارثية على العرب على نحو عام، وعلى مصر، وسورية طبعاً، لكن الثمن الأكبر بما لا يقاس دفعه الشعب الفلسطيني أو شعب فلسطين. لقد فقد الشعب الفلسطيني ما تبقى له من أرضه في «قطاع غزة» و«الضفة الغربية»، مع أنه لم يكن يتمتع بحكمها. وقام العدو الصهيوني بطرد مئات الآلاف من أبناء شعبنا، كثير منهم أضحوا مهجرين للمرة الثانية في حياتهم.
كلنا يعلم سياسات العرب الرسمية التالية لتلك الهزيمة حيث اجتمعوا، عدا سورية، في الخرطوم واتخذوا سراً قرار الاستسلام للمشروع الصهيوني واغتصاب فلسطين، لكنهم لم يملكوا الجرأة على ذلك، فأطلقوا على قراراتهم الصفة التضليلية ما يعرف باسم «لاءات الخرطوم الثلاثة»، أي لا صلح لا اعتراف لا تفاوض [كذا!].
فلسطين كانت غائبة ولم تكن قد منحت مقعد عضو في الجامعة العربية وكانت تحضر بصفة مراقب فحسب.
ومن المعروف أيضاً، أن حركة القوميين العرب التي كانت التنظيم الشعبي القومي العربي العِلماني الطليعي الذي تأسس في عام 1949 قررت في مطلع الستينيات العمل على نحو منفصل عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي عده الشارع العربي زعيم القومية العربية، بسبب ما رأته من ابتعاد لمصر عن القضية الفلسطينية وقضية تحرير فلسطين.
هذا ليس موضوعنا ونعود لنتائج عدوان حزيران.
قرارات قمة الخرطوم الاستسلامية، فتحت أوسع المجالات أمام تجاهل قضية فلسطين حيث صار الشغل الشاغل للرسمي العربي «إزالة آثار العدوان»، وكأن شعب فلسطين لم يقع عليه عدوان أصلاً. لقد فتحت الهزيمة، ومن ثم قرارات قمة الخرطوم التضليلية الباب الرسمي العربي لقبول المشروع الصهيوني والاعتراف بشرعية اغتصاب فلسطين، إضافة إلى تسليم قيادة العرب لما كان يسمى المحور الرجعي العربي.
لكن ذلك التوجه لم يكن جديداً إطلاقاً، والوثائق الرسمية تقدم معلومات مهولة ومفجعة حول هذا، وسنعود إليها في مقال خاص. المهم أن النقلة النوعية التي بدأ النظام الرسمي العربي بممارستها، ابتداءً من قبول قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي اعترف «بحق دول المنطقة كافة بالعيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها» و«حل عادل لمشكلة اللاجئين [كذا!]»، قد منح كل نظام حرية التحرك في مسار التصالح مع العدو وشرعية ذلك، ودفن قضية فلسطين.
هذا ما يشرح قبول كافة المبادرات الدولية، العقيمة، التي كانت تهدف فقط إلى تطبيع فكرة التخلي عن فلسطين لصالح الصهيونية. فكل المبادرات، التي أطلقت، من مشروع روجرز إلى وساطة غونار يارنغ، كان هدفها، ليس «إزالة آثار العداون» وإنما التطبيع، والدليل أن ذلك كان نتاجها الوحيد، وهي التي قادت في نهاية المطاف إلى استسلام كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير بما أفسح في المجال لبقية الدول العربية المتحمسة للتصالح مع العدو على حساب شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية/ القومية.
لكن من النتائج الخطيرة الأخرى الأخرى للعدوان كانت تغلغل الفكر الإقليمي ليحل محل الفكر القومي. الفكر القومي الذي ساد في الساحة في ذلك الوقت كان المختلط بالدين على نحو لا مبدئي، والذي أزاح الفكر القومي العِلماني الأصيل، الذي أسسته تنظيمياً حركة القوميين العرب ومن قادتها كان كل من جورج حبش ووديع حداد.
الفكر القومي/ الديني، بعدما فشل على طريقة «أخطأ مشيتها ونسي مشيته» ترك دفة القيادة للفكر الديني الوهابي، وها نحن نحصد نتائج ذلك الانحراف في الفكر القومي الذي إما أن يكون عِلمانياً، أو لا يكون.