"كُن مهذّباً، كُن محترفاً، ولكن فلتكن لديك خطّة لقتل كلّ شخصٍ تقابله"
الجنرال جايمس ماتيس ــــ أحد أبرز المرشّحين لمنصب وزير الدّفاع الأميركي


حين سُئل باراك أوباما عن رأيه بالمسلسل السياسي الدرامي "بيت من ورق"، والذي تظهر فيه النخبة الحاكمة في أميركا كمجموعةٍ من المرضى المستشرسين، المهووسين بالطموح الى حدّ الجريمة، أجاب: "يا ليت واشنطن كانت فعلاً بهذه الإثارة". ولكنّ وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض يفتح على احتمالاتٍ لم يتخيّلها صانعو شخصية فرانك أندروود (الذي لعب دور الرئيس الأميركي في المسلسل)، إذ ستحطّ في البيت الأبيض مجموعةٌ جديدة، غريبة، غير مألوفة من القادة، يأتي أكثرهم من خارج المنظومة التقليدية.
الصحافة العالمية تركّز اهتمامها على المرشّحين لمناصب مستشار الأمن القومي (مايكل فلين) ووزارة الدفاع (جايمس ماتيس) ووزارة الخارجية (التوقعات تشير الى ميت رومني)، لأن هؤلاء الأشخاص هم الذين سيديرون علاقة أميركا بالخارج. ولكنّ هذه مناصب تنفيذية، تخضع لسياسة الرئيس وخططه لا لشخصية الوزير. يميّز فلين وماتيس أنّهما يأتيان من المؤسسة العسكرية، وماتيس عمل في قيادة المعارك والحملات الحربية، وهما يمتلكان إذاً "شرعية" عسكرية يحتاجها ترامب في إدارته. والإثنان، ايضاً، كانا من المعارضين لسياسة اوباما؛ بل أنّ فلين قد تمّ طرده من منصبه في مخابرات الدفاع لاصطدامه مع الإدارة والمخابرات المركزية حول الملفّ السّوري. ولكن هؤلاء، ايضاً، ليسوا "ايديولوجيين" ولا يملكون ــــ على منوال المحافظين الجدد ــــ صورةً محدّدة عن دور أميركا في العالم (كتاب فلين، مثلاً، هو عبارة عن نقدٍ لسياسة اوباما أكثر منه تنظيراً لاستراتيجية جديدة). وليس من الحكيم أن يحاول الإنسان استطلاع سياسات ترامب عبر إحصاء آراء هؤلاء ومواقفهم السابقة فهي، من ناحية، متناقضة (ماتيس لا يعتبر "داعش" تهديداً أساسياً لأميركا، مقابل خصومٍ كايران وروسيا، فيما فلين يلوم حكومته على تقاعسها في منع تمدد "داعش" ويطالب بالتعاون مع موسكو)، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن عملية صنع القرار والاستراتيجية الدولية لأميركا تذهب أبعد من تفضيلات الوزراء، أو حتى الرئيس نفسه (ابتدأ اوباما ولايته وهو يخطّط للتعاون مع روسيا واحتواء الصين، فماذا كانت النتيجة؟).
من جهةٍ أخرى، قد يكون أهمّ رجال ترامب اليوم وأكثرهم اثارة للاهتمام هو، حقيقةً، الناشط اليميني ستيف بانون، قائد حملة ترامب الرئاسية الذي عُيّن مؤخراً مستشاراً اعلى للرئيس ومنسّقاً لاستراتيجيته السياسيّة. بانون يمثّل الرّكن الايديولوجي في معسكر ترامب وإدارته، بل يمكن القول ــــ مع بعض المبالغة ــــ أنّه "كارل روف" دونالد ترامب. ولكن، فيما كان كارل روف يعمل ــــ بالورقة وبالقلم ــــ على نسج تحالفات انتخابية واسعة، وبين أطراف متباينة تؤمّن أغلبية في الصناديق (متديّنون انجيليون مع الاستقلاليين ولوبي السلاح، والمحافظين الجدد والأثرياء الليبراليين…)، فإنّ بانون يركّز أساساً على الايديولوجيا وحرب المواقع، وعلى التأثير في الإعلام السائد وفي معسكر الخصم.
في كلّ جيلٍ أميركي، يخرج عددٌ من "العملاء السياسيين" البارعين، يحملون نظرية جديدة في الترويج للمرشحين وبناء المؤسسات، ويطبعون حزبهم بأسلوبهم. هذا ما فعله نيويت غينغريتش في التسعينيات مع الحزب الجمهوري (حين قاده الى الفوز بأغلبية الكونغرس للمرة الأولى منذ أربعة عقود)، وما كرّره كارل روف في عهد بوش الإبن. وبعد فوز ترامب، تمّ تكريس بانون "استراتيجياً أوّل" لليمين الأميركي. بانون هو المدير التنفيذي لموقع "بريتبارت" اليميني الشهير (الذي يجتذب أكثر من عشرين مليون زائر في الشهر)، وهو استلم دفة القيادة بعد وفاة المؤسس، أندرو بريتبارت، الذي أعطى اسمه للموقع. "اليمين البديل" الذي يمثّله بانون وبريتبارت يختلف بشكلٍ صاعق عن الإعلام اليميني التقليدي في أميركا، في الشّكل وفي المضمون. ومجموعة بانون، تحديداً، تمثّل تلاقياً متزايداً بين اليمين الأميركي ونظيره الأوروبي "الجديد" ــــ وعملية التلاقح بين اليمينين، الأميركي والأوروبي، كانت بدأت بالظهور منذ ما بعد 11 ايلول، عبر مواقع متطرّفة ومدوّنات اميركية عنصرية مثل lgf أصبحت ملتقىً ليمينيين أوروبيين وأميركيين، تجمعهم قضية مشتركة هي كراهية الإسلام، وكتابات بات يأور وأمثالها، التي تحذّر من الهجرة الإسلامية وأنّ اوروبا ستكون الضحية الأولى لـ"الغزو الإسلامي".
في مقابلة طويلة مع "بلومبرغ" عام 2015، يشرح بانون عن طموحه في بناء حركة يمينية غربية عابرة للحدود. أحد أهمّ نجوم "بريتبارت" اليوم، مثلاً، هو كاتبٌ ومعلّقٌ شابّ بريطانيّ الأصل، اسمه ميلو يانّوبولوس (على الهامش: هناك شيءٌ يجب أن يُقال عن قدرة أيّ شخصٍ، كما عبّر أحد اساتذتي، على الذهاب بعيداً في النجاح في اميركا لا لشيءٍ الّا لامتلاكه لهجةً بريطانية راقية. هناك شخصية في رواية دايفيد لودج "تغيير الأمكنة" تعبّر بسخرية عن هذا "الضّعف الأميركي" تجاه الانكليز. هو طالبٌ بريطاني في جامعة برمنغهام كان يعيش على هامش القسم، ولا يملك الكثير من الذكاء أو الموهبة. بل إنّ استاذه المشرف كان ينظر اليه بشفقة وعطف. فإذ به يفاجأ، حين يذهب الى كاليفورنيا استاذاً زائراً، بأن طالبه هذا قد سبقه اليها، وأصبح نجماً هناك، يعرفه الجميع في الحرم الجامعي ويتقرّب منه الأساتذة، ولديه برنامج راديو ويتزعّم حركات سياسية، والجميع يستمع اليه باهتمام ويعتبرون كلامه عميقاً لمجرّد أنّه بريطاني وينطق بلهجة البي بي سي).
هناك شيءُ آخر مميزٌ في بانون، يتعلّق بخلفيّته. حين يقوم ستيف بانون بالهجوم على النخبة الليبرالية في أميركا، أو شيطنة "وول ستريت"، فهو لا يشبه (كعادة اليمين التقليدي) مبشّراً مجنوناً من الريف الأميركي، يحمل انجيلاً في يمينه ويصرخ ضدّ المدينة الفاسقة. بانون كان من رجال "وول ستريت" وقد عاش وعمل في نيويورك (واستثمر في هوليوود وصناعة التسلية)، وهو درس في هارفارد وعمل في "غولدمان ساكس" خلال الفترة التي شهدت صعود المؤسسات المالية السريع، في عهد ريغان، ونشوء طبقة جديدة ثرية تدير مئات مليارات الدولارات وتعيش وتنفق من دون حساب. حين ينتقد بانون النظام المالي اليوم، فهو يفعل ذلك من وجهة نظر "عميلٍ قديم" يفهم عمل البورصة ويعتبر أنها قد ذهبت في الاتّجاه الخطأ. "في أيّامنا"، يقول بانون لـ"بلومبرغ"، "كانت عملياتنا منصبّة في نهاية الأمر على بناء الشركات والاستثمار فيها"، مضيفاً أنّ تحوّل المؤسسات الى الاستثمار في أدوات ماليّة معقّدة، وجمع أرباحٍ كبيرة من الاستدانة والمضاربة في ما يشبه القمار، يُبعد السّوق عن وظيفتها البنّاءة ويمهّد للأزمات.
ولكنّ أهمّ إنجاز لبانون وشركائه لا يتوقّف عند إعادة تعريف اليمين الأميركي وبناء "اليمين البديل"، بل في اجتياحه لمعاقل الليبراليين ووسائل إعلامهم. استراتيجية بانون في نشر أفكاره في المجتمع الأوسع ــــ أي خارج جمهور "بريتبارت" المتطرّف ــــ لم يستوحها من نشرات اليمين المحافظ وكتابات ويليام باكلي (أحد آباء اليمين الأميركي التقليدي)، بل من عمله في صناعة التسلية ــــ هو استثمر مبكراً في البرنامج الكوميدي الشهير "ساينفيلد"، وما زال يحصد أرباحاً من إعادة عرضه الى اليوم. أسّس بانون مركزاً خاصّاً للأبحاث، عمله الوحيد هو نبش فضائح الخصوم وفسادهم، ثمّ تقديم هذه المعلومات بصيغة ملفّاتٍ مكتملة الى صحف كبرى (كـ"نيويورك تايمز") لتحويلها الى قصص و"زرعها" في الإعلام المعادي. يقول بانون انّه فهم أنّ الصحافيين، رغم انحيازاتهم الايديولوجية الليبرالية، يبحثون دوماً عن القصّة والسّبق، ولو قدّمت هذه المعلومات اليهم، ولو كانت ضد هيلاري كلينتون، فهم لن يتردّدوا في نشرها. الإعلام اليميني الأميركي قبل بانون كان يقوم على الرأي الصاخب والاتهامات الايديولوجية المبالغة (الرئيس خائن، اوباما لم يولد في اميركا، الخ) ما سمح للإعلام السائد بأن يتجاهله، فلا تتسرّب رواية المحافظين اليه بشكلٍ مؤثّر. ولكنّ تركيز بانون على "الوقائع" والتوثيق غيّر المعادلة، وإصراره على عدم نشر القصص "السّاخنة" ضدّ الخصوم في "بريتبارت" بل في "نيويورك تايمز" تشير الى أنّه فهم القاعدة الذهبية في أميركا: لا مكان لأيّ حركةٍ إن ظلّت خارج التيار السائد للإعلام والثقافة (mainstream)، وستظلّ تشبه نادياً، أو طائفةً متطرّفة، حتى تصل أفكارها الى ملايين المنازل عبر المواقع الكبرى والصحف الرئيسية وقنوات التلفزيون الشعبية.
في حديثه الى "بلومبرغ"، يكشف بانون أنّه استغلّ ايضاً التحوّلات الاقتصاديّة التي طرأت على صناعة الصحافة. مع الحملات المتكرّرة لخفض النفقات وتقليص العمّال في المؤسسات الإعلامية، لم تعد تحقيقات كاشفة وغنيّة كـ"ووترغايت" ممكنة اليوم، يقول بانون. الصحيفة لا تقدر على السماح للصحافي بالعمل لأشهرٍ على قصّةٍ واحدة أو ملف؛ فيقوم بانون وشركاؤه (الذين يملكون المال السياسي بوفرة) بتمويل هذه الأبحاث وإجرائها بأنفسهم، ومن ثمّ تقديمها الى الإعلاميين لنشرها حتّى تحوز أكبر تأثير ممكن. في العام الماضي، نشر مركز بانون كتاباً موثّقاً عن هيلاري كلينتون وزوجها، والهبات المثيرة للشكّ التي يتلقّيانها بشكلٍ دوريّ، كان له دورٌ رئيسي في ربط اسمها بالفساد وإضعافها في وجه بيرني ساندرز. وقد ظلّت منشورات مركز بانون العدو الأبرز لحملة كلينتون حتّى ظهرت تسريبات قيادة الحزب الديمقراطي، وتسريبات ويكيليكس، التي كان أثرها مدمّراً، وهي قصّة أخرى. على أيّ حال، فإن خسارة هيلاري كلينتون التي يمكن نسبها الى أيّ عاملٍ أثّر على الحملة، ولو بشكل بسيط، بسبب النتيجة المتقاربة الى حدٍّ كبير، هي إثباتٌ على قولٍ كان يردّده أحد المخططين السياسيين في واشنطن على الدوام لزبائنه: "إن كان لا بدّ من الخسارة، فاخسر بفارقٍ كبير، حتّى لا تقضي بقية حياتك وأنت تفكر بما كان يجب أن تفعله حتى تفوز".