لا يختلف اثنان على أن وصول الجنرال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية هو انتصار للخط السياسي الذي تبناه بقدرة استشرافية وثقافة عميقة يختزنها الرجل في سياق معركة الإقليم والعالم المحتدمة.يتطلع «حزب الله» إلى هذا الانتصار كفاتحة وباكورة «الاعتراف» الرسمي بفشل مساعي المحور المقابل، المحور السعودي ــ الأميركي الذي تجنّب «حزب الله» تقديمه بمصطلح «الانتصار»، واستبدله بالحديث عن «ربح الوطن» ــ وهو الحق ــ أو كما عبّر الضيف الإيراني «رابح رابح»، وهو عين الصواب. لكن إنّ هذا الإنجاز الرئاسي الذي يفترض أن يأتي بالجنرال عون بشكل طبيعي وتلقائي، أخذ كل هذا الوقت والشدّ والعراك وليّ الأذرع، يعني ضمنياً أن المحور المقابل لا يجلس على طاولة التفاوض العقلاني والمنطقي والطبيعي إلا إذا وجد نفسه أمام خيار السيئ والأسوأ، ليختار بينهما، وهذا أمر سلبي، ويعني أنّ الصراع على سوريا والبحرين واليمن سيكون أصعب إلا إذا استخلصت العبرة اللبنانية باكراً والتقط الجميع نظرية «رابح رابح».
يفتح «انتصار» لبنان الذي تحقّق آفاقاً كبيرة لأسباب عدّة، وسيتعاطى «حزب الله» من زاوية خاصة جداً وبروحية إيجابية لأسباب عدّة:
أولاً، لأنه ليس هناك انتصار على شركاء الوطن، إذ إن هزيمة أي منهم يعتبر خسارة للجميع. وهذه دروس الأوطان وتجاربها التاريخية.
ثانياً، ضرورة إنجاح التجربة لتأكيد لا طائفية الصراع في المنطقة. فالمعركة مع النظام السعودي في اليمن وسوريا ولبنان والبحرين والعراق، لا تعني أبداً المعركة مع «أهل السنة»، بل هي معركة سياسية، واصطفافاتها سياسية لذلك سيعطي إشارة إيجابية للسنة ويجدّ في طمأنتهم بما يخفّف من التسعير الطائفي من جهّة، ومن إمكانية اللعب على الوتر المذهبي لاحقاً، مع الإبقاء على الحذر الشديد والمتابعة الحثيثة للتطورات والأداء السعودي الميداني في لبنان مع القوى.
ثالثاً، رسالة من لبنان إلى منطقة الصراع الإقليمي، مفادها أن لا أحد يستطيع في أي ساحة إنكار وجود الآخر واختزاله، وأن الفكر الإلغائي يجب اجتثاثه إن كان إسرائيلي النموذج أم تكفيري بلبوس إسلامي ــ «نصرة» و«داعش» وسواهما.
رابعاً، رسالة «حزب الله» ضرورة المحافظة ــ لا الفيزيائية فحسب ــ على الوجود المسيحي بل على الحضور الحيوي. فالمسيحيون جزء فاعل في هذا الشرق، وإن المسلم بل والشيعي، الذي يبتعد عن قضايا هذه المنطقة لن يكون أقرب إليه من المسيحي المتبني لهذه الخيارات الاستراتيجية التي هي المعيار في علاقاته وتحالفاته والثقة التي يبنيها أو الجدران التي يمكن أن يزيلها مع أيّ مكوّن في لبنان أو خارجه. وتنتصب هذه القضايا كمبنى فكري: العداء الفعلي لإسرائيل، مواجهة التكفير والعنصرية، عدم الرهان على السياسات الأميركية بالحدّ الأدنى، وتعزيز لغة الحوار والحوار كشرط لازم ووحيد.
خامساً، يريد «حزب الله» أن يقول مع حليفه «التيار الوطني الحر» التالي: «نعم هكذا نحكم إذا ما فزنا وانتصر خطنا السياسي، ننفتح نتعاون نتطلع إلى المستقبل، نريد الجميع ونسعى بجّد لتأسيس ثقافة جديدة في العمل والفكر السياسي اللبناني تنسجم مع جوهر هذا الشعب المؤمن بالقيم والأخلاق، إنّه جوهرة الثقة لبناء الأوطان وتصحيح ما اعتور منذ التأسيس، ولبنان بالنسبة إلينا رسالة». وهذا ما قاله الأمين العام لحزب الله ذات يوم مخاطباً فريق «14 آذار»، حينها: «إذا انتصر مشروعنا في المنطقة.. فكلنا سنكون مرتاحين، لكن إذا انتصر الفكر التكفيري وداعموه الدوليون والإقليميون.. فأنتم ونحن سنخسر».
بلغت أميركا أقصى مداها الحضاري وتتحضر لمسار من التنازل

سادساً، يريد «حزب الله» أن يقول إنّه حاضر للتعاون مع كل «استقلالي» حقاً وتوسعة دائرة التفاهمات، لأنّ الصراع مع إسرائيل لتحرير لبنان، والصراع مع الاستكبار لتحرير الإنسان يحتاج قبل كل شيء إلى أحرار ليسيروا به لا مرتهنين، فلا يدفع الضيم الذليل بفهمه (أي بفهم «حزب الله») ، فالقرار الحر والسيّد المبني على تحديد وقناعة واضحة بالعدو والصديق هو ما يمكن الانطلاق منه. لا الذرائعية المهلكة.
سابعاً، لمن راهن أن يكون لبنان دوماً في موقع الضعيف، يقول الحزب بهذا التحالف والتفاهم الوطني العريض، والإنجاز الرئاسي والحكومي الأخير ــ إذا ما قرأه أهله بعمق ــ إنّ لبنان أقوى ممّا يعتقد البعض وأمامه فرصة تاريخية ليكون، لا بالكتابات والأمنيات بل بالأطروحة والواقع نموذج استقلالي يلهم ويعيد تعريف «القوّة»، ويؤثّر بعد ردح طويل من التأثّر والانفعال فقط.
هل هذا ما سيكون عليه الحال في العراق قريباً بعد الموصل، ولاحقاً في سوريا، والبحرين، وكلّ المنطقة. وهو يأمل أن يتعامل بهذا الفهم كلّ من تربطهم بأميركا والمملكة السعودية علاقات تحالف فلا يعيدون رهانات خاطئة أو طعناً في الظهر على غرار ما اعتاده البعض في العقود الماضية.
ختاماً، ما تقدّم ليس نزوعاً مثالياً أو طوباوياً، إنّما قراءة واقع ملامحه تبزغ تباعاً.
أميركا بعد الانتخابات ستكون «أميركا الجديدة». ليس بسبب دونالد ترامب فقط، بل لأنّها بلغت أقصى مداها الحضاري وتتحضّر لمسار قسري من التنازل في إدارة شؤون العالم وتحديد مساحات المشاركة مع خصومها وحتّى أعدائها.
إسرائيل أصبحت خلف الستار تنشغل في شرنقتها وعبثاً تسعى لتستدرك ردعها المتهاوي. السعودية حليف أميركا التاريخي دخلت بقدميها وغرور قيادتها مرحلة الضعف الاستراتيجي، وليس ما جرى في لبنان وموافقتها أخيراً على مقترح حل لليمن والتراجع الحاد عن أهدافها التي أعلنتها أو النكوص في علاقتها مع أمّ العروبة مصر أو محاولات التواصل والغزل الأخيرة مع إسرائيل، إلاّ دليل واضح عن حجم المأزق وأبعاده. ناهيك عن غيابها التام عن المسألة العراقية وتراجع دورها في المسألة الفلسطينية، كما أن الميدان السوري ذا المعنى الأبلغ يسير بعكس إرادتها.
وفي الوقت الذي يراهن فيه «حزب الله» على جميع من تربطهم بالسعودية علاقة حميمة أن يعملوا لإعانتها وتهدئة روعها وضبط اندفاعتها الغامضة. وفي الوقت الذي يأمل تعميم الحّل اللبناني الأخير، لن يستعجل ما يأمله، أغلب ظنّه أنّ المعركة تتطلب مزيداً من الوقت والتصعيد ويستّعد هو وحلفاؤه لذلك، بينما سيبقى الطرف الإقليمي المقابل يراهن على سراب «أميركا الجديدة»، وعلى ما تبقّى من مسميات تكفيرية.
الظاهر أنّ الصراع مفتوح على كّل احتمال وقواعده مرشّحة لتغيّر نوعي، ربطاً بما يذهب إليه الطرف الخليجي ــ الأميركي.
والموعد قريباً مع قطر عربي جديد وانتصار جديد. ومبروك للوطن وأهله هذا العهد الجديد.

*باحث لبناني