لا نتوقع من ميشال عون أن يقيم الدولة الحديثة، ولا نتوقع منه أن يؤسس لشبكة إنتاجية تنقل لبنان من بلد الخدمات المنسي إلى مصاف الدول الصناعية، ولا حتى نرجو منه أن يسير في نهج العدالة الاجتماعية أو أن يطيح النظام الطائفي التوافقي الفريد والعجيب، فذلك كله من المستحيلات، إذ لا يمكن لعاقل شاهد وعاين هذا المكان أن يحلم بشيء من هذا. فماذا يستطيع أن يفعل رئيس جمهورية في جمهورية لا تشبه في التكوين ولا في المواطنين أي مكان أو أي تجربة في العالم؟لقد أنتج هذا المكان تحت وطأة أمراض سياسية ونفسية مستعصية ونهج اقتصادي لا يمكن وصمه بأي هوية مجموعات بشرية غريبة الانتماءات والأهواء، وحتى طرق عيش وأنماط من التفكير لا تنتمي إلى أي من مفاهيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالرئيس الذي طال انتظاره ليصل إلى قصر الشعب سيواجه في حقيقة الأمر كائنات بشرية متحوّلة وليس شعباً بالمفهوم الحديث للكلمة. لقد كان على هذه الكائنات البائسة والسيئة الحظ أن تطوّر عبر عقود ميكانيسم دفاعي كي تستمر في البقاء بعدما انقرضت مجرد فكرة الحياة الكريمة في هذا المكان، وهذا الميكانيسم بالذات سيكون على ميشال عون بالذات مواجهته. فأي شعب سيخاطب الرئيس من على شرفة بيت الشعب طالما أنه ليس هناك إلا مجموعات لا تتلقى الأمر إلا من حظائر مذهبية ذات تركيبة وتعقيدات عائلية وعشائرية. وكيف سيتمكن الرئيس من الوصول إلى أناس نسوا أصلاً مفهوم الدولة ومبدأ الحقوق والواجبات، فهم لم يعودوا يطلبون حاجاتهم من مؤسسات النظام ولا حتى يخطر ببالهم.
كيف سيتمكن الرئيس من الوصول إلى أناس نسوا أصلاً مفهوم الدولة

لقد ماتت منذ أمد بعيد فكرة الآلة التي تنظّم العلاقات والتوازنات الهشّة بين طبقات المجتمع، وحلّت مكانها توازنات لا تنتمي بالمطلق إلى أي مرحلة من مراحل ما بعد الثورة الفرنسية. الذين رفضوا أن يتحولوا غادروا، والذين لا يزالون يرفضون في طريقهم إلى المغادرة لو استطاعوا. لقد تسلّم الرئيس بلداً يائساً فاض فيه منسوب القرف حتى وصل إلى الحدّ الأقصى وهو الحدّ الذي لا تعود تنفع معه أي وسيلة للتوافق بين بشرية الكائن و"حيونة" المكان. هنا تكمن أزمة الرئيس، وهنا تكمن عبقريته في إعادة خصب الحياة إلى هذه البقعة الجرداء الحزينة من شاطئ المتوسط.
لا يمكن لميشال عون أن يكون رئيساً اعتيادياً طالما أنه ليس هناك من دولة فعلية ليتربّع رئيساً عليها. على الجنرال أن يعيد خلق الدولة، أن يخلق شيئاً من هذه الأشياء المبعثرة، أن يبني بنياناً متيناً من وعلى هذا الحطام، أن يؤسس لحديقة على مزبلة.
هذه هي الحقيقة وهي مؤلمة وصادمة، لكنّها الحقيقة. وربّما هذا ليس من المستحيلات بالشواهد التاريخية، فتجربة مهاتير محمد في ماليزيا رفعت دخل الفرد الماليزي في ثلاثة عقود فقط ثمانية أضعاف، وأحالت مجتمعاً زراعياً بائساً إلى دولة صناعية شديدة النظافة والتنظيم. لقد عمل على الإنسان. فإذا كان الرب ذاته قد صاغ بداية للكون هي الكلمة، فلا بدّ أن تكون هناك كلمة لإعادة صياغة الوطن وهي كنس المزبلة وكنس كل من ينتمي إليها من فاسدين ومذهبيين ولصوص وقذرين بالمعنى الحرفي للقذارة. لقد جعل منّا هذا النظام المسخ حشرات وحوّلتنا الزرائب المذهبية إلى قطعان ليس همّها إلا النطاح. لقد قتلوا فينا فكرة الوطن وحتى الأمل بالعيش. صرنا جماجم تسير في شوارع مجرمة وتجتر طعاماً مسموماً وتتنفس هواء في منتهى القذارة وتستنبط وسائل بدائية في صراع البقاء حتى نسينا أنفسنا ومستقبل أطفالنا ويئسنا من حلم كيان هو وطن.
لن يكون الرئيس وحيداً ولن يكون مستفرداً لو خاطب ما تبقى من ناجين صمدوا على بشريتهم رغم موجات الهلوسة، فهذه الطبقة الاجتماعية الخائفة والغريبة عن معسكرات المتحولين قد تجد في الجنرال سبيل خلاص وستردد صوته وتنشد نشيده خارج القطعان التي تنتمي زوراً إليها. هناك فعلاً، يا فخامة الرئيس، من لا ينتمي. هناك أناس لا يجدون من ينتمون إليه في هذا الكابوس الطويل، وهم بحاجة إلى خطاب جديد خارج عن المألوف الممجوج المملّ لطبقة سياسية احترفت الكذب وامتهنت الفساد، وعليك أن تعوّل على اللامنتمين. أولئك الذين لم ينسجموا مع الواقع المزبلة ولا يزالون يرفضون أن ينسجموا. وإذا كان مفهوم العصاب والاكتئاب النفسي يقوم على فكرة عدم الانسجام وعدم تقبّل الواقع، فإنّ لبنان يقبع على رأس الدول الأكثر استهلاكاً لمضادات الاكتئاب، وهذا مؤشر جيد. وهو يعني أنّ هناك نسبة عالية لا تزال ترفض وتقاوم، وإن بالاكتئاب. كن أملهم... كن الرئيس!