أثار سلافوي جيجك ثورة غضبٍ ضدّه، من مختلف أوساط اليسار الأميركي، بعد أن صرّح بأنّه، لو كان اميركياً، لصوّت لصالح دونالد ترامب. على الرّغم من أن كلام جيجك لم يكن جدّياً بالكامل، وهو قصده على الأرجح بهدف الاستفزاز (قدّم ملاحظته بالقول ان ترامب "يرعبه" وانّه سيكون رئيساً فظيعاً)، وليس كدعمٍ سياسيٍ لمرشّح ودعوةٍ فعليّة للتصويت له، فإن الكاتب السلوفيني قد اصطدم ــــ عن غير قصدٍ ربّما ــــ بواقع أنّ مستوى الجدّيّة والحساسية يرتفعان، لدى اليسار الأميركي، بشكلٍ مهولٍ في كلّ موسمٍ انتخابي، ولا يعودون يحتملون التشكيك والنّقاش، أو حتى المزاح، في دعم مرشّح الحزب الديمقراطي.هذا السّلوك المتشنّج كنت تلاقيه لدى دنوّ كلّ انتخابات رئاسية؛ فيروج، بين اليساريين، لوم وتقريع أمثال رالف نادر وجيل ستاين، مرشّحي الأحزاب المستقلّة اليسارية، بدعوى أنّهم "يسرقون الأصوات" من مرشّحهم ويساعدون، بشكلٍ غير مباشر، مرشّح اليمين الجمهوري (هل هناك سلوك غير ديمقراطي أكثر من أن تطلب من سياسيّ أن لا يترشّح، وأن لا يتيح للناس التعبير عن تفضيلاتها؟). الغريب في الأمر هو أنّ هذا الجوّ كان يعمّ حتّى في مناطق وولايات كنيويورك (التي يراسل مثقفوها، اليوم، جيجك بغضب) وكاليفورنيا، تكون نتيجة الانتخابات فيها محسومةٌ سلفاً، والجوّ حولك كلّه ديمقراطي، ولا يوجد سببٌ حقيقي للمناصرة السياسية واقناع جيرانك بالتصويت، أو عدم أخذ الموضوع باسترخاء ونقاشه من دون حساسية. ذات مرّة، مثلاً، "لقينا" رجلاً اعترف بأنه سيصوّت لجورج بوش، فتحلّقنا حوله وأخذنا نرقبه بفضول ونتحسّسه ونستجوبه، فأنت لن تجد بسهولة، في شعاع خمسين كيلومتراً من شارع "تيليغراف" في بيركلي، مؤيداً علنياً واحداً للجمهوريين (ومع ذلك فاز بوش في الانتخابات تلك السنة).
كانت لديّ نظريّة عن حساسية اليساريين وحماسهم البالغ لمرشّحٍ ليس لهم، وهم آخر من يؤثر على انتخابه، وهي أن أساس الموضوع نفساني. اليساري يضطرّ، في موسم الانتخابات، الى اقناع نفسه بالتصويت للسياسات والمؤسسة والأشخاص الذين قضى أربع سنواتٍ وهو ينتقدهم ويطالب بتغييرهم والثورة عليهم. عملية "الابتلاع" هذه تجعله حسّاساً للنقد والتشكيك، وتجبره على إخراج خيار التصويت على أنّه واجبٌ كوني ومهمّة إجبارية، وليست خياراً، لإنقاذ المجتمع من خطرٍ محدق ــــ هو المرشّح الآخر. بالمقابل، كان أصدقائي الإحصائيون الذين يدرسون السياسة الأميركية (وهم ليسوا يساريين بالمرّة)، يتنفّسون الانتخابات وأرقامها قبل عامٍ من بدئها، ولكن من النّادر جدّاً أن يتحمّسوا أو يتشنّجوا أو يحوّلوا الموضوع الى خلافٍ ايديولوجي ــــ بل إنّ الكثير منهم، بعد سنةٍ من المتابعة الحثيثة، لم يكن يكلّف نفسه الذهاب الى مركز التصويت في يوم الاقتراع (وذلك لأنّهم إحصائيون، ولأنهم يفهمون أنّه، بالمعنى الحسابي، فإنّ صوتك الفردي وحماسك ورأيك لا معنى لهم في الانتخابات الأميركية).

السلاح السرّي

المسألة هي أنّ "لعبة" الانتخابات، كما يراها المرشّحون ومستشاروهم ومديرو الحملات، تجري على النحو التالي: أكثر من 85% من الولايات الأميركية نتيجتها محسومةٌ سلفاً، ولا يجري عليها أيّ تنافس حقيقيّ وهي خارج اللعبة. ولايات الساحل الغربي والشمالي الشرقي ستصوّت للديمقراطيين دوماً، والولايات الجنوبية والوسطى ستصوّت للمرشّح الجمهوري مهما حصل. بل إنّ ماكينة الحزبين تستنكف عن شراء الدعايات وإنفاق المال في هذه المناطق، للتركيز على الولايات "المتأرجحة"، التي تحسم النتيجة في كلّ سنة. هذه "الولايات الحاسمة"، التي يمكن أن تذهب الى أيٍّ من المرشّحَين، لا تزيد على السبع، حتى مع اعتماد تعريفٍ متساهل للولاية "المتأرجحة"، ولا يزيد سكّانها عن 15% من مجمل النّاخبين، وفيها تجري كلّ المنافسة. بل إنّ التركيز ليس منحصراً في هذه الولايات القليلة فحسب، بل في فئةٍ صغيرة من ناخبي هذه الولايات، هم أولئك الذين لا يقررون حتى يوم الانتخاب من سيدعمون، وصوتهم يحدّد من سيفوز بتمثيل الولاية. الغالبية الساحقة من الناخبين، كما في كلّ انتخابات في العالم، قررت مسبقاً وجهة تصويتها والتزمت، ولن يغيّر رأيها شيء (وهم أساساً قد بنوا موقفهم الانتخابي، كأكثر الأمور في الحياة، على معايير النكاية والخوف وكراهية الطرف الآخر، وليس عن ايمانٍ بحزبٍ وزعيم).
الحالة اليوم، كما تقول الاستطلاعات، هي أنّ هيلاري متقدّمة بوضوح، غير أنّ الأرقام بدأت تميل الى التقارب مؤخّراً، وترامب صار يمتلك "فرصة حسابية". بحسب المقاييس العادية للانتخابات، فإنّ انتصار ترامب يظلّ احتمالاً بعيداً، إذ عليه أن يفوز بكلّ الولايات الحاسمة التي تميل لصالحه أو يتقارب فيها المرشّحان، ثمّ أن يسرق ولاية على الأقل من تلك التي تميل حالياً لمصلحة هيلاري (وأن تتعامد كلّ هذه الظروف في آن هو أمرٌ يتحدّى علم الأرجحية). الّا أنّ هذه ليست انتخابات عاديّة، وهناك ايضاً سلاح سرّي قد يلعب في صالح ترامب: "مفعول بريكزيت".
على نسق استفتاء بريطانيا، يحاجج بعض الخبراء بأنّ الاستطلاعات هذه السنة قد لا تظهر الحجم الكامل للتأييد الذي يحظى به دونالد ترامب (مثلما فشلت الاستطلاعات البريطانية في تسجيل كمّ التأييد الشعبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). فالمرشّح الذي يقف ضدّه الإعلام، ويقرّعه باستمرار ويسخر من مناصريه، قد يستنكف المؤيدون له عن الاعتراف حين يسألهم الإحصائي بأنهم سيصوّتون لترامب "الكريه"، فيدّعون مثلاً بأنهم لم يقرّروا وجهة تصويتهم بعد. هذا العامل، لو أنّه يخفي بالفعل نسبة من التأييد للمرشّح الجمهوري، قد يغيّر الموازين، فتصبح الولايات التي تبدو كأنها تميل باتجاه ترامب (كفلوريدا واوهايو) مضمونةً له، وتتاح له المنافسة على ولاياتٍ تتقدّم فيها هيلاري حالياً. مهما يكن، فإنّ الأمر الوحيد الواضح هو أنّه، حتى لو فازت هيلاري، فلن يكون هناك "فوزٌ كاسح" (landslide) في هذه الانتخابات وهذا في حدّ ذاته مفاجأة.
حتّى نفهم حجم الإجماع الإعلامي حول كلينتون وحول رفض ترامب، يكفي أن ننظر الى استطلاعٍ نشرته "ايكونوميست"، يُظهر أنّه من بين 100 صحيفة رئيسية في أميركا، لم تعلن الّا واحدة تأييدها لترامب، وهذا لا مثيل له في التاريخ الأميركي، حيث حظي اسوأ المرشّحين، في أقلّ الانتخابات توازناً، بتأييد ثلث هذه الصحف على الأقل.
أكثر من 85% من
الولايات الأميركية نتيجتها محسومةٌ سلفاً

فضائح وسجون

حين سُئل ترامب خلال مناظرة عن أوّل ما سيفعله لو انتخب رئيساً، أجاب ــــ على الأرجح من غير تفكير ــــ بأنّه سيلاحق هيلاري كلينتون ويطلب سجنها. لم يكن يعلم بأنّ هذه العبارة ستلهب حماس المحازبين الذين أغرتهم ــــ قبل أي شيء آخر ــــ فكرة أن توضع شخصية كهيلاري كلينتون خلف القضبان؛ وأصبح المناصرون الجمهوريون يلوّحون بالأصفاد في المهرجانات الانتخابية ويصرخون بالسجن لهيلاري. لم تصل أي انتخابات أميركية سابقة الى هذا المستوى وهو ما عبّر عنه، ببراعة، المسلسل الكوميدي الأميركي "ساوث بارك" (بالمناسبة، "ساوث بارك" في موسمه العشرين هو أفضل ما يُعرض على التلفزيون حالياً، ويمثّل المعالجة النقدية الوحيدة للانتخابات التي يمكن أن تجدها في الإعلام السائد. والبرنامج قد وصل، فنيّاً ايضاً، الى مستوىً فائق هذه السنة).
غير أنّ الجمهوريين قد ينالون طلبهم أقلّه في حالة هوما عابدين، احدى أهم الشخصيات في معسكر كلينتون، والتي اختفت من الحملة وتواجه جدياً احتمال السجن. حين وقعت فضيحة الرسائل الالكترونية الشهيرة، حصلت عابدين على حصانة من الملاحقة مقابل الاعتراف الكامل بكلّ ما له علاقة بالملفّ. الّا أنّ هذه الحصانة قد انتفت اليوم، وقد تدخل هوما السجن لمدّة طويلة، لأنها كذبت على المحقّقين وادّعت أنّها لم تستخدم حساب هيلاري الالكتروني الّا من أجهزة وزارة الخارجية، فتبيّن أنها قد خزّنت أكثر من 10 آلاف رسالة على حاسوبها الشخصي في المنزل.
من كشف هوما، على ما يبدو، هو زوجها السابق، انتوني وينر. حياة وينر السياسية (أُنتج هذه السنة وثائقيّ طريف عن صعوده وسقوطه) هي سلسلة من الفضائح. كان عضو كونغرس شابّاً وشعبيّاً عن ولاية نيويورك، ثمّ اضطرّ للاستقالة، وخسر سمعته، بسبب فضيحة جنسية. كان وينر يتبادل الصور المشينة مع النساء، وقد كشف عن نفسه بأسوأ طريقة ممكنة، إذ كان يتقصّد إرسال صورة اباحية لنفسه الى إحدى المعجبات على البريد الخاص، فقام بوضعها بالخطأ على صفحته العلنية على "تويتر" التي يتابعها الملايين (حاول في البداية، كما يفعل أقاربنا الكبار في السنّ ــــ وبعض المثقفين العرب ــــ حين يرسلون مواد اباحية بالخطأ، الادّعاء بأنّ حسابه قد تمّ اختراقه، ولكنها حججٌ لم تعد تمرّ). المثير في قصّة وينر ليس هنا، بل أنّه بعد الفضيحة قام بلملمة نفسه، وطلب دعم زوجته، وخاض الانتخابات مجدداً مطالباً الجمهور بفرصة ثانية. وكان وينر يتقدّم في الاستطلاعات وينافس على منصب عمدة مدينة نيويورك، والناس سامحته وعادت لدعمه، فانفجرت ــــ قبل أسابيع من التصويت ــــ فضيحةٌ أكبر من الأولى وأخطر (اذ أنّها تتضمّن فتياتٍ دون السّنّ). هنا، لم تحتمل هوما الإذلال وتركته، ولكن انتوني وينر كان يحتفظ لزوجته السابقة بمفاجأةٍ أخيرة، فحمى نفسه من السّجن عبر إبلاغ الاف بي اي بموضوع الرسائل الالكترونية التي أخفتها عابدين.

خاتمة

عودةً الى جيجك. فإنّ في كلام المفكّر السلوفيني، حقيقةً، حجّتين، أولاهما اشكالية (فكرة أن اليسار يجب أن يدعم "مرشّح الفوضى" لأن ذلك "قد" ينتج ديناميات جديدة وايجابية ــــ لا نعرف كيف)، ولكن الثانية فيها الكثير من الوجاهة. نبّه جيجك الى أنّه لا يمكن لليسار أن يستمرّ بتجاهل واحتقار الجماهير البيضاء الغاضبة، التي تصوّت لترامب وأمثاله، بدعوى أنهم يمينيون وعنصريون وأعداء لنا. "هؤلاء هم أملك الوحيد"، يقول جيجك. بالفعل، لو أننا اعتمدنا نظرةً ماركسية بدائية الى اميركا وانتخاباتها، فإنّ حلم النخبة المستحكمة سيكون بفصل الفقراء الذين يقهرهم النظام ولا يستفيدون منه، وهم أكثرية واضحة بالمعنى الإحصائي، الى سودٍ ولاتينيين وأقليات من جهة، يواجهون جمهوراً أبيض فقيراً من جهةٍ أخرى، والنخبة الحاكمة تنقسم بين المعسكرين ولا يهمّها من يفوز.
وقد يكون جيجك محقّاً في نقطةٍ أخرى، حين يقول إن انتخاب ترامب سيجبر المؤسسة السياسية على إعادة النظر بنفسها وبقواعدها. فمن يعتبر أن فوزاً مفاجئاً لترامب سيهزّ أميركا ويضعفها قد لا يكون مصيباً، بل إنّ من يراقب معسكر هيلاري كلينتون والمؤسسة الأميركية هذه الأيام يفهم أنّ الإنحلال الحقيقي للإمبراطورية، و"الخيار التخريبي" في الانتخابات، قد يكون، تحديداً، في فوز هيلاري ومتابعة المسار القائم.