قال «أبو مهدي المهندس»، جمال محمد جعفر، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، في حوار معه نشرته «الأخبار» في عددها ليوم 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 «نحن نركز على مهمتنا الأساسية، وهي القضاء على الإرهاب في العراق وفي المنطقة، كما نعمل على حماية النظام والعملية السياسية في العراق». أعتقد أن الشطر الثاني من الفقرة والخاص بالعمل على «حماية النظام والعملية السياسية» ينطوي على مفهوم جديد وخطير جداً لمهمات الحشد الشعبي، بل هو إعلان أولي وصريح عن إمكانية تحوله ــ في هذا الظرف الحساس والخطِر ــ إذا لم يكن قد تحول فعلاً، من قوات من المتطوعين من عامة الشعب للدفاع عن العراق والمدن العراقية التي هددها التمرد المسلح الداعشي بعد هزيمة القوات الحكومية التي دربتها وسلحتها دولة الاحتلال، وقادها نوري المالكي بصفته رئيس السلطة التنفيذية والقائد العام للقوات المسلحة، إلى ميليشيات للدفاع الحكومي عن العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال الأميركي.الأسئلة كثيرة، والأدلة على تحوّل جذري في مهمة الحشد الشعبي أكثر، فعن أية عملية سياسية سيدافع الحشد الشعبي إذا لم تكن عملية المحاصصة الطائفية التي جاء بها الاحتلال الأميركي وعن دستورها الملغوم الذي كُتِبَ في ظله؟
أليس هذا الإعلان على لسان نائب رئيس الحشد الشعبي إيذاناً بتحول الحشد إلى ميليشيات حكومية تدافع عن النظام ومؤسساته؟
وما علاقة هذه المهمة ــ الدفاع عن نظام المحاصصة الطائفية والعملية السياسية «الأميركية» ــ بدوافع وأفكار ومشاعر عشرات الآلاف من العراقيين الذين هبّوا متطوعين للدفاع عن بغداد والمدن العراقية الأخرى التي وصلت داعش إلى تخومها بعد احتلال محافظتَيْ نينوى وصلاح الدين؟
وأين ذهبت الوعود المتكررة، وآخرها ما عبّر عنه وزير الخارجية إبراهيم الجعفري في مؤتمر باريس قبل أيام، ومفاده أن الحشد الشعبي ستنتهي مهمته بانتهاء التمرد المسلح التكفيري والقضاء على «الإرهاب الداعشي»، وسوف يُسَرّح منتسبوه أو ينضم من يريد منهم الانضمام الى المؤسسة العسكرية بموجب قانون خاص يسنّه مجلس النواب لاحقاً؟
وما علاقة الحشد الشعبي، إذا كان فعلاً جزءاً من المنظومة الدفاعية العراقية الرسمية كالجيش والشرطة الاتحادية، بما يحدث خارج العراق من نزاعات وحروب وصراعات مسلحة؟
ثم، ألا يعني الدفاع عن نظام المحاصصة الطائفية والعملية السياسية الأميركية في العراق دفاعاً عن فساد هذا النظام وفساد أقطابه وعن الخراب الذي ألحقه بالعراق وشعبه؟ ألا تعني ــ هذه الحماية التي يبشّر بها المهندس ــ مشاركة فعلية في استمرار وترسيخ هذا النظام واستمرار نهبه وسرقاته واستمرار مؤسساته الفاسدة ومَن فيها؟
إن هذا التصريح الخطير على لسان نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي يعني أن حشد المتطوعين العراقيين دفاعاً عن العراق، بصفته العامة الأولى قد انتهى، وقد حلت محله ميليشيات حكومية تدافع عن الحكم وأحزابه بوجه الشعب العراقي المنهوب والمدمر من قبل هذا الحكم وهذه الأحزاب... وليس ثمة إعراب سياسي آخر لهذه الكلمات لسوء الحظ. وعلى هذا، فإن الموقف من ميليشيات حكومية كهذه لن يكون مختلفاً في المنظور الوطني والديموقراطي من أحزاب النظام ومؤسساته وقيادته الفاسدة الفاشلة، وهذا ما سيعطي كل الحق للوطنيين العراقيين الذين تحفظوا منذ البدء على تشكيل الحشد، وسكتوا على مضض بسبب التطورات الخطيرة على أرض الواقع على تشكيله لاحقاً؟
أسئلة كثيرة يثيرها تصريح المهندس هذا، منها مثلاً: ما دور وموقف وتأثير المرجع السيستاني في ما يخص الحشد الشعبي والعملية السياسية؟ لماذا تعادي دول عربية كالسعودية والبحرين والأردن، إضافة إلى تركيا، الحشد الشعبي وتتحفظ عليه وعلى النظام السياسي في عراق ما بعد الاحتلال؟ ومن أسّس الحشد الشعبي عملياً؟ وما وزن الجمهور المسلح غير المتحزب فيه؟ وما حقيقة دور بعض الفصائل الحشدية التي تدّعي المشاركة في مقاومة الاحتلال؟ هنا، خلاصات مكثفة لمقاربات سريعة للإجابة عنها:
ــ ليس صحيحاً أن الفصائل المؤسسة للحشد «هي الفصائل الإسلامية الشيعية التي قاومت الاحتلال» كما يقول البعض، فالمعروف والموثق هو أن الفصيل الشيعي الوحيد الذي قاتل الاحتلال الأميركي هو «جيش المهدي» التابع للتيار الصدري، أما منظمة بدر مثلاً، والتي كانت جزءاً من المجلس الأعلى آنذاك فلم نسمع أنها ساهمت في تلك المقاومة المسلحة، وأما الفصائل الأخرى كالعصائب وكتائب حزب الله، فقد انشقت عن جيش المهدي والتيار الصدري لاحقاً، ونشطت لفترة قصيرة جداً قبل انكفاء قوات الاحتلال وانسحاب معظمها. وثانياً، يبدو أنّ هناك محاولات لتضخيم دور عدد من الفصائل في الحشد لأغراض وأهداف إعلامية وسياسية معينة، وهذا موضوع آخر.
ــ لقد انبثق الحشد الشعبي عملياً، بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني عقب سيطرة تنظيم الدولة «داعش» على محافظتَي نينوى وصلاح الدين واقترابه من تخوم بغداد. وانخرطت فيه عموم جماهير الناس، وبخاصة الشباب، في هبّة عفوية واسعة حماسية، ثم ــ وفي خضم الموجة ــ انضمت الفصائل المذكورة فيه وتأسست فصائل أخرى بالعشرات.
ولكنها حافظت ــ في أغلبها ــ على استقلاليتها التنظيمية والسياسية والعسكرية وعلاقاتها الخارجية بإيران تحديداً، والموقف المعلن منها كلها حكومياً هو أنه سيكون حسب موقفها من القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية ممثلة بشخص حيدر العبادي، وأي خروج عليه أو تأسيس علاقة تبعية إدارية أو عسكرية أو سياسية بجهة أخرى مرفوض ويضع هذا الفصيل خارج القانون «نظرياً» حتى الآن!
ولكن أي نظام وقانون يقصدون؟ إنه ــ دون لف أو دوران ــ نظام المحاصصة الطائفية والعملية السياسية التي رفضتها شخصيات وقوى وطنية مشتتة ومعتّم عليها إعلامياً منذ يومها الأول، هي ودستورها وزعاماتها. وإذا كان موقف بعض الوطنيين والديموقراطيين العراقيين مسانداً للحشد أو الجيش، فذلك لسبب معلن واحد هو أنهما يقاومان زحف داعش ويحاولان القضاء على خطره فقط، وأما إذا حاول أحد ــ كما حاول أبو مهدي المهندس ــ تحويل الحشد الى قوة ميليشيوية لحماية العملية السياسية والنظام فهو يدخل ــ كما يعتقد كثيرون ــ في عداء مباشر مع الشعب العراقي الذي دمرته هذه العملية السياسية.
أين ذهبت الوعود بأن الحشد الشعبي ستنتهي مهمته بانتهاء التمرد المسلح

ــ يمكن الاتفاق من حيث الجوهر مع القائلين إن موقفاً قد يتخذه المرجع السيستاني ضد العملية السياسية الطائفية، سيكون مهماً جداً وسيغيّر المعادلة جذرياً، غير أن من الصعب الاعتقاد أن السيستاني سيتخذ مثل هذا الموقف لعدة أسباب؛ منها: أنه هو ذاته كمرجع ومؤسسة واقع تحت تأثيرات وضغوط القوى السياسية وشبكة الزعامات الشيعية ومحدثي النعمة بفعل النهب (ضمن إطار العلاقات الزبائنية التي ولدها نظام المحاصصة الطائفية) التي سيضرب إنهاء هذا النظام مصالحها الطبقية ويوقف نهبها للمال العام وحين ذلك ستنسى هذه الزعامات الشيعية أنه مرجع ديني شيعي، بل وقد تنسى حتى أنه شيعي! وثانياً، لأن السيستاني نفسه يتحمل مسؤولية قيام هذا النظام وبقاءه، سواء بسكوته على الاحتلال وعدم الدعوة إلى مقاومته وبناء دولة مواطنية لا طائفية، أو بدعوته الصريحة إلى التصويت بنعم على دستوره والتصويت لقائمة 555 الإسلامية الشيعية في أول انتخابات تشريعية سنة 2006، فهل يمكن أن ينقلب موقف السيستاني رأساً على عقب ويصحّح الأمور؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن في القريب على الأقل، مع أن الكثيرين يتمنونه، ولكن الأماني لا وزن لها في ميزان الوقائع على الأرض، فلا إشارات أو حتى تلميحات تصدر عن السيستاني نفسه أو عن وكلائه تؤيد أو تشجع على هذا الاعتقاد. بل هو يؤيد دائماً حلاً يأتي من داخل النظام ويشجع «إصلاحاً» يقوم به الفاسدون في الحكم أنفسهم، وهذا مستحيل. إضافة إلى ذلك، فإن غالبية الفصائل الشيعية المسلحة لا تبدي أي قدر من الطاعة أو التفهم لفتاوى السيستاني وتوجيهاته. ولنا خير دليل ومثال على ذلك في فتواه التي أمر فيها بعدم رفع أية صورة لشخصية سياسية أو دينية وأي علم غير العلم العراقي الرسمي، فرفعت أغلب الفصائل أعلاماً أخرى ومعها صورة شخصية للسيستاني نفسه في صور وثّقتها وكالات الأنباء العراقية والأجنبية!
ــ يعتقد مراقبون للشأن العراقي، مستندين الى تصريحات المهندس الأخيرة وآخرين من قيادات الفصائل الشيعية، أن اللعبة أصبحت مكشوفة. فبعض الفصائل الحشدية المرتبطة بإيران والأحزاب الطائفية الصريحة ستحاول الحفاظ على النظام القائم، وقد تؤدي بالعراق الى التقسيم. أما القوى الأخرى غير المسيسة وغير الحزبية في الحشد، فهي ليست قادرة وحدها على قلب المعادلة إذا لم يقف معها الجمهور العراقي في الجنوب والفرات على الأقل عبر انتفاضة شعبية، ولكن هذه الانتفاضة المتمناة تبقى شبه مستحيلة بسبب غياب قوة وطنية قادرة على قيادة وتنظيم العراقيين المناهضين للنظام الطائفي والرافضين للهيمنة الخارجية، سواء كانت أميركية أو إيرانية أو تركية. وهناك مشكلة أخرى هي أن قيادة الحشد الآن ليست بيد من يمثلون عشرات الآلاف من المتطوعين غير الحزبيين، بل استحوذت عليها القيادات الحزبية، رغم أن مقاتلي الفصائل والأذرع المسلحة المتحزبة مجتمعة لا يصل عددهم إلى نصف أو ثلث الجمهور العام والمقاتل للحشد كما يعتقد مراقبون مطلعون.
ــ من جهة أخرى، فإن حلفاء نظام المحاصصة العراقي من الدول الغربية بقيادة واشنطن ودول الجوار العربية يخشون الحشد الشعبي، ويعادونه صراحة لأنهم يعتقدون أنه خاضع لإيران. والصحيح أن بعض الفصائل فيه خاضعة لإيران وترتبط بها كدولة ومرجعية دينية لبعضها بشكل ما وليس الحشد كله، ولا يخلو موقف دول الجوار العربية وتركيا منذ أن وصل الإسلاميون الشيعة الى الحكم، من مرَكَّب أو نزوع طائفي. وهذا الحكم الشيعي في العراق شيء جديد على السردية السياسية والثقافية للدول العربية ونخبها ذات النمط الطائفي الواحد، وكأن هؤلاء لا يريدون، ولا يستطيعون أن يصدقوا أن في العراق غالبية سكانية من المسلمين الشيعة وأن الدولة العراقية يمكن أن تخرج عن النمط الذي ألفوه واعتادوه منذ قيامها في 1921.
وما فاقم المشكلة وزادها تعقيداً وتشنجاً أن نظام الحكم في العراق قام على أساس المحاصصة الطائفية وليس على أساس دولة المواطنة والمساواة التي تطمئن الجميع، وفي مقدمهم العراقيون من غير الشيعة.

* كاتب عراقي