تثير تصريحات رئيس الفيليبين الجديد موجة من التعجب لدى كثير من المتابعين للمشهد السياسي والجيوسياسي في جنوب شرقي آسية، والاستهجان من آخرين ذلك أنه يستعمل ألفاظاً غاية في الفظاظة بحق من لا يعجبونه، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي وصفه بأنه «ابن قحبة». ولديه تصريحات أخرى مماثلة عن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وغيرهما من المؤسسات الغربية، مع أنه قال أخيراً إن وحياً إلهياً أبلغه بأن الشتم ليس من الأمور المستحسنة!تصريحات رودريغ دوترتي هذه تأتي استكمالاً لحملته الانتخابية الأخيرة، إشكالية الطابع والمظهر، حيث توعد فيها بإبادة القائمين على تجارة المخدرات والمروجين لها. طبعاً من غير الممكن لأي عاقل قبول هكذا سياسة إذ إن الحكم الوحيد بين المواطنين أنفسهم وبين المواطنين من جهة والسلطتين التشريعية والتنفيذية يجب أن يكون القانون. مؤكد أن ليست كل القوانين مقبولة، لكن عندها وجب توجيه الجهد نحو وضع قوانين تنصف الضعيف وتدافع عنه أمام القوي، والفقير ضد الغني، وهكذا.
الرئيس دوترتي نفذ وعوده أو وعيده الانتخابي وبدأت قوات السلطة بملاحقة تجارة المخدرات وقتلهم ميدانياً حيث وصل عدد الضحايا إلى المئات، إن لم يكن الآلاف، وفق وسائط الإعلام أو التضليل الغربية الاستعمارية.
لا ندري مدى تجذر سلطة تجارة المخدرات، بمختلف أنواعها، في الفيليبين ولا عدد المدمنين عليها، ولا مدى نفوذها في مختلف أجهزة الدولة، وهو الأمر المتوقع حيث لا تجارة غير شرعية من دون دعم من أعلى السلطات، وإلا فما سبب عدم تمكن كثير من الدول التخلص من هذه الآفة! التجارب السابقة والاعترافات والوثائق السرية المرفوع عنها الكتمان، أثبتت أن وكالات استخبارات في الدول الغربية الاستعمارية، من واشنطن إلى باريس، منخرطة في تجارة المخدرات لتمويل حملاتها السرية اللاشرعية والإجرامية.
كما لا نعرف حتى طبيعة حملة الحكومة الفيليبينية وإن كان ثمة مبالغة في نقل الأخبار عنها إذ إن مصدرنا شبه الوحيد هي وسائل التضليل الغربية، والتي هي أبعد ما تكون عن الموضوعية عندما يتعلق الأمر بنظام غير مطيع لتكتل الناتو العدواني. فدوترتي أرفق حملته هذه بمعاداة للغرب وقراره القطيعة مع سياسات الفيليبين السابقة المنخرطة في سياسات واشنطن التي عدت في الماضي الدول الأقرب إليها، تحافياً، أي طاعة لسيد البيت الأبيض.
والفيليبين، كغيرها من دول تلك المنطقة، مهمة للغاية لواشنطن التي تحاول احتواء الصين، القوة الاقتصادية - العسكرية المتنامية إلى حد يقلق واشنطن. فأي ثغرة في الحزام الجغرافي الذي تحاول فرضه في أوراسية، خصوصًا بعد إعداد ماليزيا نفسها للسير على خطى الفيليبين، حول التحالف الروسي ــ الصيني والقضاء على «البريكس»، سيعرض خططها ومؤامراتها لأفدح الأخطار، رغم علمها بأن عهد القطب الواحد انتهى منذ فترة.
يضاف إلى مشكلة تضليل وسائط إعلام «الناتو» أن ما يسمى «الإعلام البديل» لا ينقل صورة واضحة عما حدث ويجري في تلك الدولة، سوى ما يناسب العناوين اللافتة الأنظار، التي تتحدث عن أعمال عنف ومقتل محافظ هنا وضابط شرطة هناك وما إلى ذلك. تلك أخبار مهمة، لكنها تغطي على الصورة العامة لما ما يحدث في الفيليبين.
الحقيقة أن سياسات الرئيس الجديد، منحته حملته على عالم المخدرات في بلاده شعبية أوسع وأكثر بما لا يقاس مما حصل عليه في الانتخابات الرئاسية التي جرت أخيراً.
وسياساته ضد الولايات المتحدة الأميركية وتقاربه مع بكين وموسكو زادا من احتمال ضمه إلى لائحة أميركية/ ناتوية معروفة، هي لائحة الاغتيالات، التي جمعت أسماء قادة دول منهم رئيس تشيلي سلفادور أليندي وداغ همرشلد والمهدي بن بركة وباتريس لوممبا وهوغو تشافيز وفيدل كاسترو ومعمر القذافي.
التهم الحقيقية التي يوجهها الغرب الاستعماري للرئيس دوترتي لا علاقة لها بحملته على تجارة المخدرات وعالمها، ولا بحقوق الإنسان وما إلى ذلك. الرئيس دوترتي ارتكب جريمة لا تغتفر إذ تحالف مع الشيوعيين والاشتراكيين في بلاده وطلب المساعدة من روسية والصين، واقترح على منتقديه في حلف الناتو والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهم حتى من القادة الروحيين العالميين بالذهب إلى الجحيم!
يضاف إلى ذلك ارتكابه الخطيئة الكبرى والقاتلة بطلبه من واشنطن إخلاء قواعدها العسكرية في البلاد.
المشكلة التي تراها عين الغرب الاستعماري في الفيليبين هي أن الرئيس دوترتي عيّن كوادر شيوعية ويسارية في مجلس الوزراء وأمرهم بالإشراف على الإصلاح الزراعي الموجه ضد كبار الملاك والإقطاع وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين ودعوته لهم للمبادرة بإنجاز حملات عمل وتطوير اجتماعية ومساعدة الفقراء وحظر المقاولة بالأيدي العاملة. بل إنه تجاوز ذلك وعين الكادرات الشيوعية والاشتراكية واليسارية في مواقع الإشراف على سياسات البلاد في مجالات التعليم والعلوم والبيئة التي تتعرض للاستغلال والتدمير على يد شركات التعدين الغربية. كما أنه أقدم على محاولة التصالح مع التنظيمات العسكرية المحلية ومنها الحزب الشيوعي الفيليبيني والحركات الإسلامية المسلحة هناك.
هذه هي الأمور التي تقلق واشنطن ومن يدور في فلكها الاستعماري، وما الأخبار المتواترة عن إخفاق محاولة انقلاب أميركية الصنع على دوترتي سوى البداية.
إذا نظر المرء إلى تاريخ علاقة الفيليبين بواشنطن فلا يعثر فيها سوى على مجازر الأخيرة بحق البلاد حيث وصل عدد ضحايا العدوان الأميركي عليها في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى نحو مليون من البشر.
هذه بعض الحقائق عن حكم الرئيس دوترتي التي وجب تذكرها فيما لو حصل انقلاب في الفيليبين أو اغتيل الرئيس أو انطلقت «ثورة برتقالية» أخرى يقال إن الملياردير المجري سورس يعد لها.