بدا المشهد مقلوباً في عبثية خارجة عن أيّ مألوف، وإن تكرر أحياناً في السر لدى الكثير من الأنظمة العربية التي تجاهر اليوم بافتخار بعلاقتها مع قادة الاحتلال. مشهد التقاطر الرسمي العربي للتعزية بقاتل أهلنا يحمل بجدارة تسمية السقوط الأخير.جاؤوا محمّلين بالدموع والشجون. جاؤوا وكأن القاتل لم ينتشِ بعد من دمنا، ليقدموا له ما يشاء من ورود بيضاء، ورصاصه يحصد أبناءنا في القدس في لحظة الانحناء و«التبرك» بنعش القاتل نفسها.
أن يجتمع رؤساء من دول كثيرة في تشييع الإرهابي شمعون بيريز ليس مفاجئاً ولا خبراً استثنائياً، وهذا طبيعي في مسار العلاقات الاستراتيجية التي تربطهم مع كيان الاحتلال، وهم المخلصون لبقائه «دولة النقاء والديمقراطية»، في تحدٍّ للقانون الدولي الذي يسوّغونه وفقاً لمصالحهم.
من الطبيعي أيضاً أن يعتمر قادة العالم «القلنسوة» اليهودية تأكيداً منهم أن فلسطين التاريخية لم تعد إلا سجالاً سياسياً على أمتار عدة، يمكن أن تمنح لسلطة تخدم «أمنهم» وتبعد شبح التهديد عن قاعدتهم المتقدمة في منطقة يراد لها أن تصبح مجالاً حيوياً لمشروع «شرق أوسطي» تبتلعه دولة الاحتلال. أما في جوهر القول، فهو مشاركة السيد محمود عباس، رئيس السلطة في رام الله، ووفد أردني رفيع المستوى وكذلك مصري، وربما وفود أخرى لا نعلم عنها، وتزاحمهم في الصفوف الأولى للمعزين كي تلتقطهم عدسات التصوير وتظهر حزنهم واتشاحهم بالسواد على قاتل أطفال قانا وفلسطين. فخسارتهم لـ«حمامة السلام» جعلتهم «يتجاوزون» أن «فقيدهم» قادم من بولندا لينتمي إلى عصابات الهاغانا، وهو من المؤسّسين لدولة الاحتلال، وعمل مع ديفيد بن غوريون وليفي أشكول مديراً عاماً لوزارة الحرب وعمره 29 عاماً، واهتم بتقوية العلاقات العسكرية مع فرنسا مؤسّساً للبرنامج النووي الإسرائيلي في ديمونة. وهو من مؤسّسي حزب العمل الذي جرّب كل أنواع الأسلحة ضد شعبنا العربي، والقائمة تطول في سجله الإجرامي، وإن دفعت مؤسسة «نوبل» المعروفة بـ«نزاهتها» بتقديمه كرجل «سلام» لدوره في هندسة المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية والأردن. تاريخ بيريز وحزبه ودوره في نظرية التوسع الصهيوني لا يحتاجان إلى استفاضة، فاسمه خارطة طريق خالصة لمسار كيان إرهابي عاش وتربّى على دماء العرب، وهذا بكل بساطة القول السياسي.

ذاكرة مثقوبة عن ترصّد
قد يشهد الآتي من الأيام تنسيق يمثّل مدخلاً لصفقات كبرى تطيح حق العودة

حين تأسّست منظمة التحرير الفلسطينية في القدس عام 1964 سجلت في ميثاقها القومي، وفي أبرز نقاطه، قيامها كقيادة معبّئة لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً للنصر. فأين أصبحنا اليوم من هذا الشعار العريض والكبير؟ وأين أصبحت قضية فلسطين التي قدّم دونها الشعب الفلسطيني والعربي عشرات الآلاف من الشهداء؟
لن ندخل في تاريخ الثورة الفلسطينية وانطلاقتها المسلحة في عام 1965 وانتهاج الكفاح المسلح، وفي بنود الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت تضم كل الفصائل الفلسطينية وممثلة للشعب الفلسطيني. ما الذي جناه الشعب الفلسطيني بعد عقود من تأسيس منظمة التحرير التي مثلت آماله في التحرير والعودة؟ هل كل هذه الانزياحات الكارثية تمثل تطلعاته؟! لا شك في أن أبناء فلسطين الذين انخرطوا في الثورة الفلسطينية لم ينتظروا أن يشاهدوا رئيس سلطة رام الله مرمياً على أكتاف زوجة الإرهابي شمعون بيريز ومعانقاً ابنته، وباكياً على «فقدانه»، ولم تنطلق الثورة الفلسطينية وتضرب عملياتها في عمق الأرض المحتلة للتتقزم قضية فلسطين باتفاق أوسلو عام 1993 وبالتنسيق الأمني.
ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية لم يكن حالة طارئة، بل جاء في سياق العمل الوطني والتاريخ النضالي الطويل للشعب الفلسطيني، وشكل مقدمة لبناء الجسد الفلسطيني والمشروع الوطني، وهذا استند إلى حالة المدّ الثوري آنذاك. أما ما حفلت به التطورات السياسية عبر عقود من انطلاق الثورة الفلسطينية، والتغييرات التي اجتاحت المنطقة من تنازل عربي رسمي عن القضية الفلسطينية، فقد مهّدت لإفراغ «م. ت. ف.» من جوهر وجودها، وهذا ما حصل.
بدا أول ملامح التوجهات المُفرّطة بفلسطين في مؤتمر فاس في المغرب عام 1981 (ما سمّي آنذاك النقاط العشر ومشروع «السلام العربي» الذي تبنّته المملكة السعودية بختم ملكها آنذاك فهد بن عبد العزيز)، ثم كرت سبحة التنازلات بعد قمة «فاس»، من مؤتمرات وتطبيع ودفع منظمة التحرير إلى توقيع اتفاقات مع الكيان الاحتلال، توّجت بأوسلو. كل ذلك كان مدخلاً للعلاقات البينية بين أنظمة عربية والكيان الصهيوني نشهد صورها اليوم.

الصورة الأوضح لاتفاق أوسلو

أيّ مراجعة وطنية لما آل إليه الواقع السياسي الفلسطيني، تحتاج إلى جرأة، من دون الالتفات إلى شعارات أصبحت ممجوجة تختبئ وراء المصلحة الفلسطينية ومصالح الشعب الفلسطيني. المراجعة التي تضع مشروعاً وطنياً بعيداً عن المصالح الضيقة لهذا الفصيل أو ذاك. فبعد كل هذه الكوارث السياسية باسم المصلحة الوطنية الفلسطينية، طالعتنا السلطة بتعزيتها بالقاتل بيريز. وهل تبقّى ما يمكن أن يبرره رئيس السلطة؟ وهناك من انبرى ليدافع بالقول إن هذه التعزية تأتي في إطار إحراج رئيس وزراء الاحتلال! هذا العبث بالمقدس الوطني والتاريخ النضالي لشعب فلسطين، ألا يضع مروّجيه في حالة من خفة الوزن الوطني؟ لكن يبدو أن السلطة وجوقتها لم تعتبران هذه الخطوة من المحرمات والخطوط الحمراء وخيانة لدماء الشهداء.
ما جرى ليس تذاكياً سياسياً ولا ورقة ضغط يمكن أن تستخدمها السلطة في رام الله، بل هو الصورة الأوضح لمشروعها والمدخل لمواصلة التفاوض مع كيان يرفض أصلاً «الحديث» من دون القبول بكل شروطه، وفقط بـ15 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، وأقلها: لا لحق العودة، القدس خارج سياق أي تفاوض، الضفة مع بقاء المستوطنات كاملة وأيّ دعوة إلى خروج المستوطنين هو «تطهير عرقي»، على حدّ كلام بنيامين نتنياهو. وما أكده الرئيس الأميركي باراك أوباما في لقائه مع نتنياهو على هامش الدورة الـ71 للأمم المتحدة، هو أن أميركا تدعم نتنياهو في خياراته.
لم يعد هناك أي مجال لتأويل النص بعد مشاركة «أبو مازن» في تشييع الإرهابي بيريز، فالأحلاف تتشكل بشكل بينيّ؛ أحلاف عربية تطبّع مع الكيان الصهيوني، وسلطة يراد لها أن تصبح جزءاً من نظام رسمي عربي يتحرك وفق ما يقرره كيان الاحتلال.
كارثية المشهد ليست فقط بوجود رئيس السلطة في تشييع بيريز، بل أيضاً في الآتي من الأيام من تنسيق قد يكون مدخلاً لصفقات كبرى تطيح حق العودة على طاولات التفاوض العربية التي تتصدرها المملكة وقطر والإمارات.
ما سجله الشارع العربي والفلسطيني رداً على هذا التفريط وبيع دماء الشهداء أقل من المطلوب، وما تشهده فلسطين من أيام انتفاضية هو الرد على كل من يمدّ يده للقتلة... ليس المطلوب من الفصائل الفلسطينية بيانات استنكار وإدانة، بل المطلوب هو وقفة هادرة من كل أبناء فلسطين وفصائلهم ومن شرفاء «فتح». «فتح» دلال المغربي و«أبو جهاد» وسعد صايل والقائمة طويلة.. المطلوب وقفة تسقط رموز التطبيع والعبث بالقضية الوطنية وبيع دماء الشهداء بالبكاء على صدور القتلة. فلسطين من نهرها إلى بحرها لن تسقطها صور الانحناء.
«فتح» ستبقى «الطلقة الأولى»... وليست «الدمعة الأولى» على القاتل بيريز.

*إعلامي وكاتب فلسطيني