أستهل حديثي بالتذكير بمقولة ماركس: «لا نعترف إلا بالتاريخ وعلم التاريخ»، وسوى ذلك هو مجرد خرافات ومزاعم. القبض على التاريخ مسألة في غاية التعقيد، لأن المؤرخين يعكسون موقفهم الإيديولوجي، أو يوظفون التاريخ بما يناسب الموقف الإيديولوجي. ولا اعتزم الغوص في هذا الموضوع، إذ حسبي أن أستخرج خمس مراحل مرت فيها المسيرة النضالية بالمجمل، والوطن المحتل خصوصاً.المرحلة الأولى، 1967 ــ 1970: تأسست القواعد الفدائية في الأردن، وعبرت عشرات المجموعات الحدود، وغالبيتها استشهدت أو اعتقلت في مواجهة مباشرة مع قوات العدو. وهناك من تمركز في الداخل لبعض الوقت، وكان الشعار العام: «الكفاح المسلح» الذي بلغ ذروته في «معركة الكرامة». وانطلقت أعمال المقاومة في الوطن، وغلبت عليها المجموعات السرية التي اشتبكت مع الاحتلال بكافة الأشكال. وبخلاف الثورات الأخرى، فهذه السنوات غايتها تأكيد وجود شعب فلسطين وتأكيد هويته الكفاحية وإيصال القضية الوطنية إلى العالم، وبذلك تبددت تمنيات وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية في بداية الخمسينيات (الفلسطيني سيتحول لغبار الأرض)، وصرخة غولدا مائير، عندما قالت: «أين هو الشعب الفلسطيني؟».
وفي الأردن نشأ ازدواج للسلطة، سلطة المقاومة في مساحات واسعة وسلطة القصر. وازدواج السلطة قانون مؤقت في التاريخ كانت نهايته مجازر أيلول 1970 وتموز 1971، وانتهت الظاهرة الفدائية في الأردن التي يربطها بفلسطين حدود تصل إلى 650 كلم، فيما شكل الفلسطينيون ثلثي المجتمع. وفي مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إشارة واضحة إلى تشكيل غرفة عمليات أميركية ـ أردنية لاقتلاع البندقية الفلسطينية. وقد غلب النموذج الفدائي المسلح على هذه المرحلة، وإن اشتملت على نضال «ناعم» بالتظاهر والتعبئة والإعلام. وكانت القواعد الفدائية في الأردن أقرب إلى قواعد ارتكاز. أما القواعد الحمراء، فتطلق على القواعد التي تقام على أرض الوطن، وشيء أقل من ذلك كان في قطاع غزة الذي تنتشر فيه البيارات والمخابئ والأوكار ومئات المطاردين، وكانت وتيرة مقاومته المسلحة أعلى من الضفة الفلسطينية. أما في أراضي الـ 48، فكانت الخصوصية تدفع باتجاه العمل الحزبي البرلماني وانتخاب السلطات المحلية وما يتصل بذلك من عمل إعلامي بوتائر منخفضة ما قبل يوم الأرض الذي كان منعطفاً عام 1976.
المرحلة الثانية، 1970 ـــ 1982: تواصل النضال العصابي عبر الحدود وكذلك في الوطن، واستمرت الجهود لبناء امتدادات في الداخل، بما صاحبها من ضربات اعتقالية لا تتوقف، وتعاظم التمركز الفدائي في الجنوب اللبناني ومخيمات لبنان والتأطير الجماهيري في الوطن. تخلل هذه المرحلة انقسام سياسي عام 1994 ارتباطاً بانعقاد جلسة يتيمة في جنيف بين نهج التسوية ونهج القوى الرافضة، وصولاً إلى الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 ــ 1976، حيث سالت دماء غزيرة لبنانية وفلسطينية.
لا يفيدنا كفلسطينين أن يصل التناقض مع الأنظمة العربية إلى حد الصراع والمواجهة العسكرية الواسعة ارتباطاً بقراءتنا للوحة التناقضات، إذ إن التناقض الرئيسي يبقى مع المشروع الصهيوني وسياسات الاحتلال، لكن ما حصل في الأردن أو لبنان غير ذلك، حيث استنزفت البندقية الفلسطينية وجمهورها.
والنموذج في هذه المرحلة كان امتداداً للمرحلة السابقة، غير أن التأطير الجماهيري والنقابي بات أكثر وضوحاً كما خوض ما يشبه حرب أهلية.
المرحلة الثالثة، 1982 ـــ 1987: كانت هذه السنوات عاصفة ومدمرة وخط فصل، أي ما قبل حرب وما بعدها 1982، حيث اجتاحت القوات الصهيونية جنوب لبنان، وصولاً إلى معارك بيروت الضارية. لقد خاضت المقاومة حرباً بكل ما في الكلمة من معنى، وسجلت مآثر وبطولات، وإن كانت قد اقتلعت في نهاية الأمر بعد 88 يوماً من حصار بيروت، وتشتتت في البقاع وسوريا والجزائر واليمن وتونس. وسقط في هذه الحرب نحو 30000 فلسطيني ومثلهم لبنانيون وسوريون، وقد استخدم العدو معظم قواته الجوية والبحرية والبرية.
وحرب الـ1982 كانت الأكبر والأكثر بسالة. وكما قال نابليون: «الهزيمة يتيمة والنصر له مئة أب»، فقد نشبت خلافات بين القيادات الفلسطينية وانشقت حركة «فتح» ودار قتال مرير بين جناحيها. ولئن كان هدف شارون من اجتياح بيروت تدمير البنية التحتية للمقاومة وإمرار الحكم الذاتي في الأراضي الفلسطينية، فقد نجح جزئياً في الأولى ومرر الثانية بعد نحو عقد. والخلاصة أن زخم البندقية في لبنان قد تقهقر، بل لم تعد الساحة اللبنانية قاعدة ارتكاز للمقاومة الفلسطينية، ورغم تأسيس جبهة المقاومة الشعبية من قوى يسارية، تقدم تيار جديد هو «حزب الله» الذي تعاظمت فعاليته وبات قوة الاشتباك الأولى مع القوات الصهيونية في الجنوب المحتل إلى أن حرر معظم الجنوب عام 2000.
إن الوضعية المعطوبة الحالية ليست قدراً، والتاريخ في حركة دائمة

والمظهر الأبرز في هذه المرحلة كان الحرب الدفاعية التي استخدمت فيها المصفحات والمدفعية والصواريخ والقتال بين شارع وشارع والتمركز على خط قتال من دون زحزحة مهما عظمت التحديات.
المرحلة الرابعة، «الانتفاضة الكانونية» من 1987 إلى 1992: إن اندلاع الانتفاض الشعبي في أواخر 1987، وإن كان بمشاركة شعبية عارمة وتدحرج كما التفاعل النووي وشمل كل الأراضي المحتلة عام 67، مع إسناد من الداخل الفلسطيني والشتات، فالمشاركة كانت متفاوتة بين طبقة اجتماعية وأخرى بين المخيم والمدنية والقرية، وبين الجيل الشبابي والجيل الأقدم وجيل الطفولة، وبين النساء والرجال، وبين قوة سياسية وأخرى، ولكن الجميع كان على خط المواجهة في الإضرابات العامة والعديد من التظاهرات. وكان للانتفاض قيادته الميدانية التي تعرضت للاعتقال غير مرة ومرجعيات قيادية أخرى ولجان شعبية في كل مكان. وقد تضافرت في الانتفاضة ركيزة ميدانية وتنظيمية وسياسية واقتصادية ومعنوية شعارها الناظم كان الحرية والاستقلال، وكانت محطة نوعية كبرى دفعت المسيرة الفلسطينية وحشرت سياسات الاحتلال في موقف دفاعي. فهي مبادرة شعبية تاريخية هجومية. لم تكن مسلحة أو عصياناً مسلحاً كما الانتفاضة الروسية عام 1917، وغلب عليها التحرك الشعبي السلمي، وإن اتسمت بعنف شعبي وسلاح ناري كمظهر ثانوي، أي إنها حيدت العسكرية الاحتلالية بقدر كبير ولم تحتضن دعوات العصيان المسلح المغامر الفاقد لشروطه، لأن الشعب غير مسلح، وهذا حال العصيان المفتوح الذي كان يمكن أن ينهي زمنها في غضون أشهر قليلة ارتباطاً بإمكانات الناس. أما المظهر الأبرز فيها، فكان الإضراب الجماهيري بمعدل 6 أيام شهرياً، بما جعلها تختلف عن ثورة 1936 وإضراب الأشهر الستة.
والنموذج والإضافة هنا، الانتفاض بخصائصه الفلسطينية إلى درجة القلق الاحتلالي من اندلاعه مرة أخرى، وكان التخطيط أن تكون نمط حياة تقوى الجماهير على احتمال استحقاقاته وتصل بالصراع إلى حالة الاستعصاء مهما طالت، غير أن انعقاد مدريد بعد الجولات التمهيدية لشولتز وبيكر أربكها وأضعف زخمها. وبين مدريد وأوسلو انطفأت من دون ثبات على نهجها والوفاء لتضحياتها.
المرحلة الخامسة، اتفاق أوسلو/ مرحلة أوسلو: انقسمت الانتفاضة وانقسم الشعب وانقسم النظام السياسي الفلطسيني برمته، فهناك من كانت حساباته (تثمير الانتفاضة بالتفاوض والوصول إلى حل سياسي)، وهناك من دعا لتحويلها إلى نمط حياة ورفض التثمير المتعجل.
جرى التفاوض السري علاوة على مدريد العلني، ووُقِّعَ على مبادئ أوسلو من دون مشاركة أو علم قيادات الداخل أو مؤسسات «م.ت.ف» والأمناء العامين، يحدو القيادة الرسمية الفلسطينية آمال أن يكون ذلك مرحلة انتقالية تمهداً لكيان ما أو دولة ما، فيما القيادة الاحتلالية عدّت ذلك مصيدة للاعتراف بإسرائيل وإسقاط المقاومة المسلحة والتزام متطلباتها الأمنية، وهذا ما أعلنه رابين صراحةً فيما اعتبر بيريز الاتفاق «الانتصار التاريخي الثاني بعد إقامة الدولة».
وتشكلت سلطة للحكم الذاتي الإداري المحدود.
وجاءت أحداث النفق التي مهدت لنهوض 2000 وتكتيك الاغتيال الممأسس لأكثر من 500 ناشط فلسطيني واجتياح الضفة الفلسطينية وحصار تجويعي على غزة وانقسام فلسطيني وصل حد الاقتتال وسلطتين وكيانين، وجولات الحوار الفلسطيني الماراثونية. وتحول اتفاق «أوسلو» إلى مرحلة امتدت لأكثر من عقدين ولم يقد إلى سلام ولا استسلام، وجهاز وظيفي فلسطيني مكون من 170 ألف موظف وموظفة إضافة إلى 50 ألف في غزة وظفتهم «حماس» وعشرات آلاف المقاتلين ونهج تفاوضي يشتد حيناً ويخبو حيناً وثقافة استهلاكية وديناميات تفكيكية للشعب وحراك سياسي تراجعت فيه فصائل «م.ت.ف» وأصبحت فيه فصائل الإسلام السياسي ما لا يقل عن 40% من الخريطة السياسية، وتبدلت ثنائية فتح ــ جبهة شعبية وأصبحت فتح ــ حماس. وأثناء العدوان الأخير على غزة باتت الثنائية «حماس» ــ «الجهاد».
وتعرض القطاع لثلاثة عدوانات سقط فيها آلاف الشهداء، مع الدمار الهائل للاقتصاد الهشّ وفي العمران والبنية التحتية. ولكن هذه العدوانات لم تؤدِّ إلى كسر إرادة المقاومة ورفع الراية البيضاء، فقطاع غزة خاض حرباً دفاعية وباتت لديه قوة ردع معينة هي درجة من قوة ردع المقاومة اللبنانية.
غير أن العقل القيادي الفلسطيني لم ينفك يبحث عن وحدة وطنية على أساس برنامج سياسي يسعى فريق التسوية إلى أن يكون برنامج تسووي تحت قيادته، فيما يسعى الفريق الآخر إلى أن سيادة برنامجه بقيادته، ما هو مستحيل ما دام لا ينتقل فريق إلى مواقع الفريق الآخر. الممكن هو القواسم المشتركة والتعايش مع موضوعات الخلاف من خلال تنفيذ ما اتفق عليه في اجتماع عمان 2012، بتشكيل وانتخاب مجلس وطني للداخل والخارج كما يمكن إعادة تعريف السلطة بالنأي عن الحيز السياسي، والتصدي لمعضلات البطالة والفقر وتدهور القطاع التعليمي والصحي وإعادة هيكلة الموازنة وحماية ما بقي من أرض وقدس.
التاريخ مفتوح ولا نهاية له، ولا مرحلة أخيرة فيه، والأمس اشتمل على حرب عصابات وانتفاضة وتفاوض وحرب دفاعية وسياسة ناعمة وأخرى خشنة، فما هو النموذج المتوقع في الغد؟
ينبغي التأكيد أن المرحلة الراهنة مؤقتة وأن هناك ما بعدها، والمقاربة تزعم أن المحطة الحالية تستنفد طاقتها، وهي تقترب من خط النهاية، فمن أين تأتي المرحلة الجديدة؟
دولياً، لم يعد العالم أحادي القطبية، فبتدرج تشكلت التعددية القطبية، وإن كانت العولمة الرأسمالية الاحتكارية هي الأقوى من دون نسيان الأزمة الاقتصادية عام 2008، حيث استنزفت العالم بأكثر من 30 تريليون دولار ومديونية أميركا اليوم هي 17 ترليون وأوروبا أكثر من 10 ترليون دولار.
وقد تشكل محور اقتصادي جديد هو دول «البريكس» المكون من البرازيل والهند والصين وروسيا وجنوب أفريقيا، وهو يشكل 45% من البشرية و35% من الإنتاج العالمي، فضلاً عن «منظمة شنغهاي» للتعاون المتعدد الأبعاد.
إقليمياً، صعود قوة إيران، إذ بات لها نفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فيما تشتد وتائر تناقضها السياسي مع السياسة الإسرائيلية، سواء إعلامياً أو عبر الحلفاء، إذ تنظر إسرائيل لها كأكبر خطر استراتيجي عليها بما ينطوي عليه من احتكاكات محتملة.
عربياً، تحولات عاصفة تشهدها المنطقة العربية منذ خمسة أعوام، أهمها الانتفاضة التونسية والمصرية. وهناك ما أصاب العراق وسوريا من تمزق ودمار يفوق الوصف وتمدد «داعش» كطبعة دموية. وبداهة أن هذه المعطيات لها إسقاطات على القضية الفلسطينية، ولا سيما انتصار وتحرير الجنوب اللبناني عام 2000 وفشل العدوان الإسرائيلي عام 2006 وما يمكن أن ينتج من سقوط المخطط المعادي في سوريا.
فلسطينياً، تعتمد القيادة الرسمية الآن الخيار القانوني بالتوجه إلى الأمم المتحدة ومنظماتها، وهذا وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يطرد احتلالاً ولا يوقف استيطاناً، ومأزق قيادة السلطة هو أن الحكومات الإسرائيلية لا تبحث عن تسوية جذرية أو حل وسط. وبرنامج «الليكود» صريح: «سيادة واحدة من البحر للنهر»، وهناك أحزاب أكثر يمينية، وبالتالي ليس هناك ما يسمى تسوية بالطرق التفاوضية تنهي عوامل الصراع، ولا حل استسلامياً يرفضه الشعب الفلسطيني المستباح على كل الصعد. وقد تعرضت الضفة لاجتياح، وتعرض قطاع غزة لثلاثة عدوانات مدمرة، كذلك استمر الحصار التجويعي وإغلاق نحو 2000 نفق كانت تغطي 70% من احتياجات القطاع.
ويمكن القول إن ثمة نهج مقاومة بأشكالها ونهج مساومة بإشكالها، وإن تميزت قوى في النهج الأول، فهي أيضاً تتقاطع جزئياً مع قوى في النهج الثاني، والعكس صحيح.
وقد أعلن رئيس الأركان الاحتلالي أن أكبر خطر يهدد إسرائيل هو تآكل قوة الردع الإسرائيلية، وبالتالي باتت مقولة «الجيش الذي لا يقهر» التي استخدمها أيضاً نابليون في زمانه، مهزوزة.
أما في الضفة، فالوضع مرتخٍ إجمالاً مع نقطة ساخنة في القدس ومبادرات طلائعية شبابية ومصادمات شعبية محدودة، وسلطة تقبض على الوضع في الضفه وتضبطه بما يكرس وجودها والتزاماتها السياسية والأمنية.
ماذا عن الغد؟
تقوم هذه المقاربة على احتمالية نهوض وطني/ انفجار شعبي/ ولادة مرحلة جديدة تتجاوز المشهد الحالي والكثير من القوى والقيادات وثقافة الإحباط والانتظار والرخاوة، وسوف يتجاوز الجيل الجديد والقيادات الجديدة كل ما هو شائخ. وكما كانت ولادة الفصائلية الفدائية بعد هزيمة 1967 تجاوزاً لما سبقها فسوف تتجاوز المرحلة الجديدة ما سبقها، بحيث يستعصي التناقض، ولا يكون من فكاك له إلا برحيل الاحتلال، وعودة الأمور إلى طبيعتها الحقيقية.
ولكن ما هي العوامل التي تحرّض وتفضّ لهذا الاستخلاص، وما هي العوامل المحبطة له؟
مفهوم أن البشر يصنعون مستقبلهم في نهاية الأمر... أما العوامل المعوِّقة فهي:
1- بطش الاحتلال وإجراءاته اليومية. فالاحتلال مرتاح من الوضعية القائمة، فهو «احتلال خمس نجوم» يسرق المياه والأرض، وهو السيد ودون أن يدفع ثمناً حقيقياً. ولكن هل الاحتلال نجح في منع الانتفاضة الكانونية أو عواصف عام 2000؟ الجواب كلا.
وفي مؤتمر هرتسيليا الأخير 2015 الذي تشارك فيه النخبة العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية، تحدث صحفيون عن احتمال حرب عصابات جبلية أو انتفاضة أو تحركات شعبية، كذلك إن جبروت الاحتلال وما لديه من قوة تدميرية هائلة لم تستطع الحيلولة دون أن تتراكم عوامل القتال في قطاع غزة، ولم يثبت قدرة بالقضاء عليها.
2- السلطة الفلسطينية الملتزمة استحقاقات أوسلو والتي تناهض اشتعال الضفة. وهنا يمكن استدعاء الدرس التونسي والمصري، فنظاما بن علي ومبارك لم يقويا على منع الانتفاض الشعبي، وهذا حصل في غير بلد وتجربة، كإيران الشاه مثلاً.
كذلك فإن السلطة في مأزق، فالمسار التفاوضي لم يثمر حلاً سياسياً أو ترتيبات على طريق الاستقلال، بما أثار جدلية داخل صفوفها، وهناك تيارات تقول بالعودة إلى خيار الشعب.
3- القطاعات جماهيرية. بالقروض والتفتيت والثقافة الاستهلاكية والفردية، ولا سيما في الطبقة الوسطى التي أكثر من 20% في الضفة والقطاع ونحو 50% من قوة العمل في رام الله. لكن هذا كله يتطاير في الهواء ما إن يشتعل الحريق، ذلك أن الوطنية الفلسطينية عميقة في الوجدان، مثلما هي حال أي وطنية أخرى، وكذا الاستعدادات المتنوعة، وأيضاً الطبقة العاملة التي أغلبها «طبقة في ذاتها وليس طبقة لذاتها» بحسب التعبير الماركسي، وهي أكثر من 20% من قوة العمل ونحو 35% في الحركة الأسيرة برغم عدم تمركزها.
4- حالة الإحباط والارتخاء والفردية وعدم الثقة بالذات وقدرتها على التغيير، وما توالد عن مرحلة أوسلو من ثقافة غير تحررية وتراجع لثقافة الثورة. وهناك ديناميكية تفكيكية للشعب وتجمعاته وخلق تفاوتات في أولوياته.
بكلمة واحدة، إن للثورة ثقافتها وقيمها، ولاستراتيجية التفاوض ثقافتها وقيمها، ولمرحلة الصعود خصائصها، ولمرحلة الجزر خصائص أخرى.
ولكن ما هي المحركات التي يمكن أن ترفع منسوب المواجهة الشعبية مع المحتل وولادة مرحلة جديدة؟
أولاً، يواجه الشعب الفلسطيني احتلالاً عنصرياً اقتلاعياً مع تطهير عرقي، كما تنص عليه خطة برافر في النقب، وكما يحصل في الأغوار، فضلاً عن ضم القدس بعد توسيعها وجدار توسعي واستيطان قافز واعتقالات يومية وحجز للتطور وإذلال لا ينتهي، وهذا استولد وسوف يستولد إرادة مواجهة.
فيما المشروع الوطني يتطلع إلى الحرية والتحرير ويقاوم ولم ينفك يقاوم ولم يستسلم منذ أن اقترح الاستعمار البريطاني الحكم الذاتي 1922وصولاً للحكم الذاتي الأوسلوي 1993. ثمة علاقة صراعية هي مصدر المواجهة بين المشروع التحرري الفلسطيني والمشروع الاحتلالي الإجلائي، قد ترتفع وتائره أحياناً وتنخفض أحياناً أخرى، ولكنها لا تنطفئ إلا بانطفاء أسبابه، وصدقت نبوءة الشهيد عبد القادر الحسيني: «شعب فلسطين سيظل يثور جيلاً بعد جيل إلى أن تتحرر فلسطين».
ثانياً، كان الشعب الفلسطيني بعد 1967 مجرد ثلاثة أرباع مليون، أما اليوم فهو 5 ملايين، منهم 200 ألف طالب وطالبة في الجامعات، ومثلهم تقريباً في الحادي عشر والثاني عشر، ونحو مليوني شاب أعمارهم بين 16-36 سنة، وبطالة لا أفق لتشغيلها تناهز 400000 ألف، نحو نصفهم من متخرجي الجامعات والثانوية. واليوم هناك 1.5 مليون فلسطيني وراء الخط الأخضر، وأكثر من 6 ملايين في الشتات.
بما يختزله الشعب الفلسطيني من طاقات وتطلعات وإرث كفاحي وخبرات، الفلسطيني لم يتحول إلى «غبار الأرض» وسقطت مقولة «فلسطين أرض بلا شعب» بما يعكس مأزقاً إسرائيلياً.
ثالثاً، لقد استنفدت المرحلة الراهنة نفسها، وهي تقترب من خط النهاية، فمرحلة أوسلو ووعودها بالاستقلال كشفت ماهيتها.
ويفيد توسيع الأفق بإعطاء حيِّز أكبر في المرحلة المقبلة للجماهير الفلطسينية في 1948، فهؤلاء لا يتعرضون لتمييز عنصري فقط، فهم 18% من السكان، ومجرد 4% من الأرض و2% من المياه، و3% من الجامعات وبلا ميزانيات تطوير، ونسبة البطالة في صفوفهم مضاعفة، فيما نسبة أجورهم بالكاد تصل 60%.
ومن جهة أخرى، لقد صمد الشعب الللبناني وقاتلت مقاومته عام 2006 وتكبد الغزاة خسائر فادحة بعد أن فشلت الضربات الجوية المدمرة والاجتياح البري. وبرغم انشغال «حزب الله» في سوريا، فهناك جولات مقبلة على الجهة الشمالية، وما التدريبات الإسرائيلية سوى مقدمة وتهيئة.
يمكن توقع النموذج المستقبلي كولادة جديدة تتجاوز كل النماذج وتستفيد من كل النماذج، ولكن نخب المفاوضات ستستمر في نهجها، ونهج المقاومة سيستمر في نهجه، وهذا هو حال القوة الناعمة وغير الناعمة. أما الولادة الجديدة فسوف تصبح هي اللاعب الأول في الأعوام المقبلة، ويساعد على ذلك توصل الوضع الفلسطيني الحالي إلى قواسم ميدانية مشتركة.
إن الوضعية المعطوبة الحالية ليست دائمة وليست قدراً، فالتاريخ في حركة، والشيء يستولد نقيضه في نهاية الأمر، ولا سيما أن شروط اللحظة الراهنة في تآكل مستمر وتسكنها تناقضات وتطلعات واستعدادات. لقد تمرد قطاع غزة، وهو مجرد 6% من مساحة الضفة، وتمرد لبنان وهو بمساحة محافظة مصرية، ومن الخطأ إسقاط الرهان على الجماهير، على الكتلة التاريخية التقدمية بلغة غرامشي والثقافة التقدمية التي تنتج روابط الكتلة.
ويمكن تخيل النموذج المقبل الذي قد يمرّ في محطات وحلقات وسيطة. لقد استنفد المشروع القُطري، والوضع الفلسطيني مأزوم ومستباح، وهذا يمهد لما هو جديد.

*أستاذ جامعي ـــ فلسطين