اشتدت الحملة الدولية التي تقودها الأمم المتحدة للدفاع عن الفيلة التي تكاد تتعرض للانقراض جراء اصطيادها والمتاجرة بأنيابها العاجية، وتشاء المصادفة أن تستعر المعركة عندنا حول جلود الذئاب التي يحاول البعض بيع جلدها قبل اصطيادها، متناسيين في غفلة ما، أن للذئاب رعاة وحراساً وأن المحافظة عليها باتت مرتبطة بمعايير أخلاقية وإنسانية يصعب تجاوزها، بل استفرادها ومحاولة الإجهاز عليها لتسليم جلدها للشارين الذين يدّعي بعضهم أن لديه صكوكاً حصل عليها أخيراً من أحد البازارات. إلا أن ما لم يكن في الحساب، هو أن محاولة استفراد ذئب بعينه قد أثار حفيظة سائر أفراد القطيع فخرجت الذئاب من حظائرها، وراح بعض الذئاب المنفردة يطرق أبواب الباعة والشارين، مما يحتم القيام بحركة جماعية تبدأ بتمزق الصكوك المتعلقة بجلد الذئاب.
وتبيّن أن عملية بيعه في البازار كانت خدعة، لأن من أعطى الصكوك لا يملك حق بيع الذئب، لأنه لم يصطده بعد، وقد لا يصل إلى اليد، بل قد تفترسه بقية الذئاب التي «سفّت أسنانها» لافتراسه أولاً، ثم عرض جلده للبيع في مسلخها هي.

محاولة افتراس الحريري

شئت تقدير الموضوع الرئاسي بهذه الصورة، لإدراكي أنّ المعركة هي مع الرئيس سعد الحريري أولاً، قبل العماد ميشال عون الذي يتعرض لمحاولات افتراس من داخل حظيرته، ويخطئ من يظن أنه يستطيع افتراس عون قبل الحريري.
وقد شعر البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بخطورة الموقف بعدما تناهت إلى سمعه أصداء تقاسم الوزارات، وهو الذي كان صبر طويلاً، واعتصم بالصمت إزاء ما كان يعتبره تطاولاً على «الشرعية المسيحية» داخل صيغة الشراكة والتي تمثلت بمحاولات من أفرقاء محمديين نافذين «نخب» اختيار مرشح من المسيحيين لتولي رئاسة الجمهورية، في ضوء مواصفات تؤول الى فرضه عليهم بعد أن يكون وافق وهو مكبّل على عروض تقدموا بها إليه لإيصاله إلى بعبدا... بصرف النظر عما إذا كان المختار صاحب تمثيل شعبي يؤهله لتولي هذا المنصب، مكتفين بكونه مارونياً يصلب بالخمسة، ومستعد للقبول بما يتفق عليه، نظراً إلى خلو جعبته من أي مشروع إصلاحي للبلاد.
وثمة من رأى أن البطريرك ما كان ليعلّي السقف في وجه صديق لبكركي وتلميذ للإمام موسى الصدر الداعية الأكبر إلى العيش المشترك وحفظ الحقوق المسيحية، لولا الوجع الذي يشعر به مسيحيو لبنان، وهم يتطلعون إلى ما حلّ بمسيحيي العراق وسوريا وحتى مصر، بعدما كتموا ما أصاب أهلهم في سوريا من مظالم أقلها القتل والخطف والسبي ألحقها بهم إسلاميون متطرفون حال الجيش والمقاومة إلى الآن دون تسربهم إلى لبنان، دون أن يغيب عن بالهم ما شكلّه وجود مليون ونصف مليون لاجئ سوري في لبنان من قلق، حتى لا نقول خطراً، على المستقبل.
ويغلب على الظن أنّ بكركي تعتبر لبنان الحصن الأخير للتعايش في هذا الشرق المفكك والمعذّب والمستشهد بالحديد والنار، لذلك هي ترفض أي نوع من المساومة، وإن بالأفكار، لأن الأمور بلغت الخط الأحمر، وعلى بكركي مسؤولية تاريخية تشمل المسلمين قبل المسيحيين، وهي التي قبلت قبل مئة عام النزول من جبل لبنان، الوطن الصغير، إلى رحاب الوطن الكبير والاندماج مع أكثرية مسلمة، وتقدّم المطالبين باسم المسيحيين والمسلمين، باستعادة لبنان حدوده الطبيعية في مذكرة قدمها إلى مؤتمر فرساي عام 1919 رئيس الوفد إلى المؤتمر البطريرك الياس الحويك. شاركت بكركي آل «الصلح» (وكاظم خصوصاً) في وضع أسس الميثاق الوطني عام 1937 رداً على «مؤتمر الساحل» الذي عقد في منزل أبو علي سلام عام 1936، وأكد التمسك بالوحدة مع سوريا. وقد جسّد رياض الصلح هذه الأسس في بيان الحكومة الاستقلالية الأولي عام 1943.

إلى الحياة المشتركة

وترى بكركي أنّ الوقت حان لإنقاذ «الحياة الوطنية المشتركة»، التي وردت في بيان المكتب السياسي لـ«تيار المستقبل»، وإلى أن «يساهم اللبنانيون جميعاً في صنع أمل جديد يمكّنهم من التغلّب على المشكلات المجتمعة من حولهم، والمبادرة إلى محاكاة الآمال للأجيال الصاعدة في أن تبني الآن مستقبلها في لبنان بديلاً من الهجرة»، على ما ورد في بيان «كتلة المستقبل» النيابية التي عقدت في بيت الوسط الثلاثاء في 27 أيلول. واعتبر البيان الذي صدر عنها «مشروع مصالحة» بل مقدمة لـ«تفاهم وطني» منبثق من نص الدستور وروح الميثاق. وقد طرحت فيه الكتلة الرئيس سعد الحريري زعيماً وطنياً وليس زعيماً سنياً فحسب. والبعض قال إن البيان الذي تلاه النائب عمار حوري كان في جيب الرئيس الحريري عندما ترأس الاجتماع وقد صيغ ليكون رسالة إلى الجميع بأنّ لبنان لم يعد يتحمل الآن الانتظار والمراهنات الفاشلة، وان الرجل جاهز لقيادة عملية الإنقاذ.

ماذا يريد الحريري؟ وكيف وصل إلى هذه المرحلة؟

سأحاول، للإجابة عن هذين السؤالين، القيام بعملية استقراء للمشهد السياسي الذي استجدّ بعد عودة الرئيس سعد الحريري من منفاه الطوعي، وترؤسه اجتماع كتلته النيابية الثلاثاء في 27 أيلول، والبيان الذي صدر عنها وتلاه النائب عمار الحوري، وكدت أتوقع أن ينهي البيان بالعبارة الآتية: «وعلى هذه الأسس فإن مرشحنا النهائي لرئاسة الجمهورية هو العماد ميشال عون وحده دون سواه». مما يذكّرنا ببيانه الشهير في أيار 2008 الذي أعلن فيه ترشيح العماد ميشال سليمان للرئاسة وفي وقت كان الجهد منصباً على المرشح بطرس حرب.
ولدي طريقة في الاستقراء سبق أن مارستها في 1 آب 2003 يوم فبركت رسالة موجهة من النائب اميل لحود إلى والده الرئيس اميل لحود، وفيها كشف حساب سلبي لحكمه إبان فترة الوصاية السورية. وقد استفزت الرسالة الرئيس رفيق الحريري آنذاك فقال لاحد معاونيه، بعد قراءته المقال: «مش معقول ادمون صعب بيدخل على الرؤوس وأصحابها وهم نايمين وبيطلع منها الأفكار يلي ما بيتجرأوا الإفصاح عنها»! وسبق لي أن فعلت الأمر نفسه في تموز 2000، اثر اكتشاف الرئيس لحود أن العلم في الصورة الرسمية هو إلى اليسار بينما الصحيح يجب أن يكون إلى اليمين، فقال له ابنه اميل، في رسالة مماثلة: «الصورة ليست وحدها بحاجة إلى تغيير...».
وفي أول آب المذكور دار حديث تلفوني بيني وبين الرئيس الحريري حول حركة، «شياطين الفكر»، شعراً ونثراً.

رفيق إن حكي

واليوم أحاول استقراء المشهد السياسي عبر نوع من «الرياضة الفكرية»، متخيلاً الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، جالساً في حديقة أحد المنتجعات في سردينيا التي كان يعشقها، فيدخل عليه ابنه سعد، متأففاً شاكياً: «ما بعرف يا أبي شو بدي اعمل، أنا مشرّد من خمس سنوات، وغارق في مشكلات سياسية. داخل التيار وخارجه، إلى جانب ازمتي المالية التي تعرف ولم أجد لها حلاً إلى الآن، فماذا تنصح لي يا أبي، بعدما سقط رهاني على الوقت في لبنان وسوريا؟» فيجيبه رفيق: «أنا حامل همك أيا ابني. لكنني واثق بانك قادر على التخلص من مشكلاتك والتغلب على أزماتك المالية.
ونصيحتي الأولى لك هي ألا تفقد ثقتك بنفسك، ولا بمعاونيك وشركائك. كذلك لا تفقد ثقتك بجمهورك وباللبنانيين جميعاً، لأنهم شعب طيب يحب الحياة والسلام والاستقرار، على ألا تغيب عنك الفكرة التي أطلقتها أنا وهي أن لا أحد أكبر من لبنان.
أكثر من ذلك، لا تفقد ثقتك بأهلنا السعوديين، ملوكاً وأمراء وشيوخاً ورجال أعمال.
صحيح أن السعوديين مفضلون علينا، ولكنهم يعرفون أن لنا ديناً عليهم. إذ أننا قد خدمناهم بكل ما أوتينا من قوة وعزم مخلصين لهم. وحرصاء على كل دولار اعطونا إياه لإنفاقه في الوجوه التي حدودها لنا. ولا احد يستطيع أن يشكك في أمانتنا في هذا الشأن. أما أموالنا الخاصة فقط جنيناها بعرق الجبين وبفضل رعاية الملوك والأمراء لنا. ونحن أوفياء ولا ننكر ذلك.
وإني إذ أنظر إليك فأجدك حائراً. كمن يشكو من وهن وإحباط، كما وصفتك صحيفة «عكاظ» السعودية قبل أيام. فحذار الظهور مظهر الزعيم الضعيف أو المستضعف، لأن ذلك ليس في مصلحة شركائك، قبل نفسك، لان وضع مثل هذا الشريك، سواء أكان مسيحياً أو مسلماً، يخلّ بالتوازن الوطني الذي لا مصلحة لاحد في حدوثه، لأنه ضروري لاستمرار الوحدة. وهذه المصلحة التضامنية بين الشركاء هي قاعدة تاريخية. فلا تدع نفسك انت السني، تضعف أمام المسيحي، وخصوصاً الماروني، كما لا تسمح لنفسك بأن تتسبب في إضعاف المسيحي، ولا سيما الماروني الشريك الأساس في صنع الكيان.
فالسني والماروني يحتاج كل منهما إلى الآخر في هذه المرحلة الحساسة والخطرة من تاريخ لبنان، كما يشكل أحدهما الرافعة للثاني. وأقول لك، إنك أخطأت عندما أدرت ظهرك للزعيم المسيحي الأكثر تمثيلاً، ومضيت. ولو كنت مكانك، لطرحت نفسي، في هذا الجو الحزين حيث يغرق الناس في اليأس، والإحباط، زعيماً وطنياً، لاسيما فحسب، متصالحاً مع المسيحيين وعلى رفاق مع الشيعة والدروز، باحثاً عن زعيم ماروني ليكون رافعة لي وشريكاً متذكّراً الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي قال بعد، احتدام المعارك مع الميليشيات المسيحية وسقوط مخيم تل الزعتر وإخراج الفلسطينيين من مخيم ضبية وجسر الباشا: عايز احط إيدي بايد زعيم ماروني قوي. فقيل له: ما الك الا الرئيس كميل شمعون. فسارع إلى شمعون ووضع يده بيده وتعانقا، فاصبح أبو حسن سلامة يتغذى في الأشرفية ويتعشّى في بكفيا.
وآمل أن تترجم هذه النصائح في القريب العاجل، لأن الوقت داهم». فكان بيان «كتلة المستقبل» النيابية، وتلاها بيان المكتب السياسي.
كان بيان الكتلة مفاجئاً، نوعاً ما، ربما لأن المحرر قد تبدّل. ويغلب على الظن أن اكثر من قلم شارك فيه، من نهاد المشنوق إلى باسم السبع وهاني حمود، تحت رعاية الدكتور غطاس خوري ونادر الحريري. وكان جاهزاً ولم يكن وابن الساعة.

الزعيم المرتجى

أربع عناوين رئيسية حاولت فتح ثغره في النفق المسدود:
1ــ مطلوب زعيم وطني مطمئن إلى الغد والمستقبل عموماً.
2ــ تحقيق خرق وطني جامع.
3ــ خطوة شجاعة وصادقة لإنقاذ الجمهورية.
4ــ احترام الثوابت الوطنية المتمثلة بالدستور والميثاق.
ماذا أراد الحريري القول، أو الإعلان، من خلال البيان الذي جاء عشية الجلسة الـ44 لانتخاب رئيس الجمهورية بصفته زعيماً وطنياً، لا طائفياً، قادراً على الطمأنة.
اختصر البيان موقف الحريري بالآتي:
1ـ بدء مشاورات للتعجيل في انتخاب الرئيس.
2ــ ينوي إيجاد «خرق وطني جامع» مزدوج الهدف:
• إنهاء الشغور الرئاسي.
• إنقاذ الجمهورية المفككة والمهددة بالانهيار.

3ـ أدرك أن خطر الشغور يضع البلاد في أحوال وظروف بالغة الخطورة على مختلف المستويات الوطنية، والأمنية والاقتصادية والمالية والمعيشية.
4ــ انطلق في ذلك من ثوابت وطنية، لا طائفية، ولا مذهبية، ولا فئوية.

الثوابت الطائف والمياثق والأمل

ماذا يقصد بالثوابت؟
ـ احترام اتفاق الطائف إلى وثيقة الوفاق التي حددت الميثاق الوطني، وثبتت العيش المشترك كقاعدة للشرعية وحققت الشراكة، وضمنت المناصفة، والمساواة والتوازن، إضافة إلى القواعد الميثاقية، للطائف.
ــ التقيد بأحكام الدستور، والحرص على عدم خرقها، والاعتراف بالرئيس كحامٍ للدستور وحارس له (المادة 49).

إلى ماذا دعا الحريري؟

1ـ إلى إنهاء المقاطعة بهدوء (ودون اتهامات لأحد بالتعطيل، وعدم «فلسفة» المقاطعة) التي أضرّت بلبنان وبصورة مؤسساته وصدقية قياداته.
2ــ الأمل في أن تعيد القيادات المقاطعة (بكل احترام) والنظر في هذه السياسات والمواقف السلبية.
3ــ دعوة المقاطعين إلى «الإقبال على انتخاب الرئيس»، لكي يساهم اللبنانيون جميعاً (موقف متصالح ومتقدم جداً) في صنع «أمل جديد يمكّنهم من التغلب على المشكلات المتجمعة من حولهم، والمبادرة إلى محاكاة الآمال للأجيال الصاعدة (عبارة توجّه جديد) فتيان تبني مستقبلها في لبنان بديلاً من الهجرة».

قائد شجاع ومسؤول

ولاقاه المكتب السياسي الذي حضر اجتماعه الأستاذ باسم السبع، بضرورة اتخاذ مواقف تكون «في مستوى آمال شباب المستقبل وتطلعاتهم». وجدد المكتب ثقته بالحريري كـ«رمز وطني» موضع ثقة يتمتع بحماية المستقبل وتياره العريض مما يدحض «ادعاءات المتطاولين»، مؤكداً وقوفه بجانبه في «خياراته الوطنية التي يرعاها بكل جدارة وشجاعة ومسؤولية، والدفاع عنها وحمايتها من الخارجين على الشرعية». وأشاد بالحريري لكونه «ساهم في فتح أبواب أوصدتها إرادات إقليمية ومحلية لغايات لا تمت إلى المصلحة الوطنية بصلة»، داعياً إلى «حماية الشرعية» وتعزيز الحياة الوطنية المشتركة»، أي الشراكة.
إنه مجرد استقراء أرجو أن يكون مصيباً.

* صحافي وكاتب سياسي