ما زال الموروث القومي والعصبي قائماً في قاموس العلاقة بين فئة من العرب والفرس، ولذلك أسباب تاريخية عميقة، تتبلور في الفتوحات الاسلامية التي كانت عربية الاقطاب، ووجوه الافتراق بين الحضارة الفارسية والثقافة العربية الى حد ما. ويمكن القول بأن كلتي القوميتين تحملان ذاك النفس القومي بشكل من الاشكال، وهذا ما ابقى لروح الجفاء بقاءً بينهما بشكل عام، إلا أن هذا الجفاء قد زكته العصبية المذهبية وربما تكون سبباً من أسباب الخصام السياسي الحاصل في منطقة الشرق الاوسط، ونسمع بين الفينة والأخرى مع كل طالع اقليمي مصطلحات تشير الى ذلك، كمصطلح الامبراطورية الفارسية، او المجوسية، او الصفوية. ويكاد اولئك الذي يتبجحون بمثل هذه العبارات ينسون أن جلّ أقطابهم الدينيين كانوا فرساً، بل إن بعض أئمة مذاهبهم كانوا من الفرس كالإمام أحمد بن حنبل، وغيره من المؤرخين والفقهاء والمحدٰثين، أمثال الطبري والبخاري وغيرهما.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل نسي هؤلاء الذي يتهمون الفرس بالمجوسية، أنهم كانوا قبل إسلامهم عبدةً لللات والعزّى وكان بعضهم يعبد التمر والرطب؟!
تريد الحكومات العربية الراهنة من خلال قومنة المشكلة بينها وبين ايران إعطاءها صبغة قومية محضة، وذلك لهدف اساسي ربما يكون واضحاً، وهو ان ذلك سيعطي دفعاً لتلك الحكومات في امتصاص الجاذبية التي تمتلكها ايران لتشيعها، وهذا ما يخاف منه اقطاب تلك الدول الدينيين وغيرهم. وقد رأينا في سنين ماضية كيف بدأت الحملة القائلة بأن هناك من يريد تشييع السنة في العالم الإسلامي، من خلال بعض الجهات التي تدعمها ايران هنا وهناك، ومن بينها حزب الله في لبنان وغيره.
أغلب أئمة أهل السنّة كانوا
من الفرس كالأمام أحمد بن حنبل
وغيره من المؤرخين والمحدثين
أمثال الطبري والبخاري
وقد نجحت تلك الحملات في بعض الأقطار وفشلت في بعضها الآخر، وممن نجحوا في ذلك هم الاخوان المسلمون في مصر بعد مجيء محمد مرسي، فشنعوا كثيراً على التشيع حتى كاد أن يكون كفراً ان لم يصبح كفراً في اذهان عدد من المصريين، بعدما كان وجه التشيع الحقيقي يجلو شيئاً فشيئاً بين المصريين وانه مذهب اسلامي كباقي المذاهب الاخرى.
ولأنهم لم يستطيعوا مذهبة الخصام بشكل عام وايقاف حزب الله، ولم تفلح لديهم الحملات المذهبية التي تشعبت في اكثر من شكل اعلامي، مرئي ومسموع ومقروء ومنبري كذلك، نجد كيف تتجه البوصلة الآن الى فرسنة وعربنة المشكلة القائمة بين ايران ودول العالم العربي عموماً ودول الخليج خصوصاً. فرسنة المشكلة تعني أن أبا لؤلؤة الذي قتل الخليفة الثاني كان فارسياً، وأن الصفويين قد حكموا وجعلوا للشيعة حكماً وكان هؤلاء فرساً، وأن ولاية الفقيه التي تريد بسط حاكميتها الدينية واظهار كونها تقود العالم الاسلامي كذلك فارسية! كل هذا وذاك ربما يعطي زخماً لمن يروم قطع السبيل على الامتداد الشيعي ان يمتد بأن يحوّل المسألة الى قومية.
وقد وجد هؤلاء مادة دسمة في التاريخ لإثارة هذه القومية والعصبية، مادة تاريخية ترجع الى ما قبل الاسلام وما قبل دخول التشيع الى المجتمع الفارسي السني آنذاك، ولكن هدأت نوعاً ما عندما كان الفرس سنّة، فلم يذكر التاريخ ان العرب قد واجهوهم حينها، وكانت العلاقة بينهم علاقة طبيعية، وعندما تحول السنة الى التشيع هناك، أثيرت عندها من جديد النعرة القومية، وهذه الأيام تعيد الكرة ثانية، فكان وما زال الهدف الاساسي خلق شعورٍ داخلي عند الشيعة بأنهم فرقة مجلوبة وليست أساسية في المذاهب الاسلامية. ونرى ذلك بوضوح في التراث الديني الذي كان محكوماً عليه من قبل الحكومات الجائرة، كالحكم الأموي والعباسي ومن بعده العثماني أيضاً، إلا أن ذلك قد زكي بعد تحول الفرس السنة الى التشيع، وبدأت بعدها العصبية المذهبية التي تتالت وتعاقبت على الحكم في العالم الاسلامي عامة والعالم العربي خاصة. نجد كيف ان رأي الفقه الإمامي اي الشيعي الإثني عشري لا مكان له في كتب الفقه الذي نشأ أقطابه بدعم العباسيين وتمويلهم، ولا تجد أسماء فقهاء الشيعة بين أسماء الفقهاء الذين يذكرون، وهكذا في مسائل العقيدة والتفسير وغيرها. وهذا ان دل على شيء إنما يدل على التعتيم المقصود والإقصاء المقصود للشيعة والتشيع في العالم الإسلامي، بل وصل الأمر بأن لا يذكروا إيران التي يعيش على ارضها أكثر من سبعين مليون مسلم ونظامها قائم على الإسلام وعلمها المعتمد علماً يذكر فيه اسم الله... مع كل ذلك ما زالوا لا يعدونها من الدول الإسلامية عند ذكرهم لها، وهكذا عند ذكر المذاهب ايضاً، فإن المذهب الإمامي لا وجود له في تعداد ألسنتهم، وقد فعل شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت ما لم يفعله السابقون عنه واللاحقون واعتبر المذهب الإمامي مذهباً معترفاً به كباقي المذاهب الأخرى في مصر، الا ان ذلك وكل ذلك، لا يعدو كونه خطوات محدودة لم تصل الى حد التماهي المطلوب بين المذاهب الاسلامية.
* باحث اسلامي