لم تُرفع النفايات من الأحياء والطرقات العامة طيلة شهور عام 2015، ولم تتفق النخبة السياسية على حل لهذه المشكلة. أكدت «أزمة النفايات» عدم أهلية النخبة السياسية ودولتها لضمان حد أدنى من الخدمات العامة (public goods) للمواطنين. وهي نخبة أثبتت منذ 1990، أنه لا يمكن التعويل عليها لتحقيق أي نجاح تنموي للبنان. هنا عرض لبعض الأدبيات النظرية التي توفّر مفاهيم تفسّر عجز دولة لبنان عن تأمين خدمات عامة، ومسؤولية نخبته عن إخفاقه التنموي المديد.
1. الاقتصاد السياسي كمنهجية تحليل

تربط منهجية الاقتصاد السياسي الواقع الاقتصادي لبلد ما، بطبيعة النخبة السياسية وطبيعة الدولة فيه. صُنّفت الدولة اللبنانية في فئة الدول النيو-باتريمونيالية (néo-patrimoniales)، أي التي تعتمد قوانين وضعية حديثة، لكنها في الممارسة لا تميّز بين العام والخاص، وتبيح «استخدام النخبة السياسية للموارد العامة لتوفير منافع خاصة». وهي لا تلتزم في رصد الموارد بمعايير عامة (universalistes)، بل تجعل من الاعتبارات الخاصة (particularistes) قاعدتها في ذلك.
مثّلت كتابات جان-فرنسوا ميدار المرجعية النظرية في تعريف الدولة اللبنانية كدولة نيو-باتريمونيالية، بالنسبة لي. وهو الأفضل في إرساء المقاربة الفيبرية لدراسة دولة العالم الثالث، أي استثمار إرث ماكس فيبير النظري لقراءة وفهم طبيعة الدولة المتخلفة وتمييزها عن الدولة الغربية الحديثة. الدولة الغربية حديثة لأن لديها إدارة تلتزم بحرفية النص في تنفيذ مهماتها (impersonal obligations)، ولأنها محصّنة تجاه المداخلات غير الرسمية في عملها (ميدار، 1982: 27). ودولة العالم الثالث متخلّفة لأن التدخلات غير الرسمية تطغى على عملها وتحيل النصوص الوضعية التي تحدد مهماتها حبراً على ورق. لم يركّز ميدار على شرح آلية استخدام السياسيين للموارد الاقتصادية، وإن يكن أوضح أن آفة النظم النيو-باتريمونيالية الأولى هي في منعها النمو الاقتصادي، من خلال الاقتطاع الذي تمارسه على الموارد العامة لتوفير منافع خاصة (ميدار، 1995: 13).
قدمتُ عرضاً للأدبيات التي أنجزها ميدار في مقدمة كتابي لعام 1995 (داغر، 1995)، واستكملت ذلك في مساهمتي تحت عنوان: «الإدارة اللبنانية بعد 1990»، في مؤتمر «نموذج الدولة التنموية والتحديات أمام لبنان» الذي نظّمه «المركز اللبناني للدراسات» في شباط 2002 (داغر، 2004). تمت استعادة بعض ما جاء في تلك الدراسة، في البحث تحت عنوان: «الدولة اللبنانية وفقاً لمفهوم دولة القانون»، الذي نشرته صفحة «القضايا» في «النهار» عام 2008 (داغر، 2008).
استخدمت في نصي حول «الإدارة اللبنانية...» كتابات لباحثين حول لبنان، أهمها النص الرائع لـ رالف كرو الذي ميّز بين «المهام الإدارية المحددة رسمياً» (formal)، كما عيّنها «قانون الموظفين» لعام 1959، وبين «المسلكية غير الرسمية في الإدارة» (informal administrative behavior)، معتبراً هذه الأخيرة سبب فشل الإدارة العامة والفشل التنموي في لبنان (كرو، 1966: 181).
الديموقراطية ليست
بالضرورة مرادفاً للنمو، كما ليست الأوتوقراطية مرادفاً للانهيار الاقتصادي

اعتمدت في كل كتاباتي الأخرى منهجية الاقتصاد الصرف الذي يُعنى بتشخيص الواقع الاقتصادي من دون ربطه بالشرط السياسي للبلد المعني. بقي لدي حذر من منهجيات الاقتصاد السياسي، خصوصاً وأن الاقتصاد السياسي الماركسي الذي تعرّفت إلى شيء منه في بداية عهدي بدراسة الاقتصاد، ترك لدي شعوراً بالخيبة. عبّر الأستاذ جهاد الزين الذي استقبل نصوصي في «النهار» على مدى 11 عاماً عن تحفّظه على استخدام الاقتصاد الصرف كمقاربة، وعن الحاجة إلى الربط بين السياسة والاقتصاد في قراءة لبنان.
قطع غياب جان-فرنسوا ميدار مصدراً مهماً للإبداع النظري في ميدان تحليل طبيعة الدولة المتخلّفة بالنسبة لي. ثم اكتشفتُ الكتابات النظرية الأكثر حداثة التي تربط بين طبيعة الأنظمة والنخب السياسية وبين الفعالية الاقتصادية لبلدانها. وفّرت هذه الكتابات صلة وصل مع الأدبيات التي كنت قد تعرّفت إليها. لا نحتاج أن نقاسم الكثيرين من أصحاب هذه الإسهامات استنادهم إلى «نظرية الألعاب»، أو حرصهم على استخراج نماذج رياضية باتت تحتل حيّزاً مهماً من النصوص المنشورة.

2. بعض الإسهامات الجديدة في الاقتصاد السياسي

بلور هؤلاء الباحثون على امتداد العقود الثلاثة الماضية مقاربات ربطت بين طبيعة النخبة السياسية ووجود فعالية اقتصادية أو عدم وجودها في بلدان العالم المختلفة. أظهرت هذه المقاربات أن السياسات الاقتصادية الفاشلة والإخفاق التنموي (bad economics)، يمكن أن يكونا وسيلة السياسيين لتأمين ديمومتهم في السلطة (good politics). استخدمَت مدخلين هما، عدم الاحتكام إلى القانون واستغلال الانقسام «الإثني»، لشرح الوسائل التي يستخدمها السياسيون من أجل تأبيد وجودهم في الحكم (longevity)، ولتجنّب التعرّض للمحاسبة (accountability)، وذلك رغم إخفاقهم التنموي الشديد. شكّلت هذه المقاربات تقدماً في ميدان الاقتصاد السياسي.

السياسيون

قدّم الباحثون من هارفرد وغيرها نظرية عامة في الاقتصاد السياسي، تفسّر كيف يؤمّن السياسيون بقاءهم (survival) في السلطة (بوينو دو مسكيتا وآخرون، 2003). تقسّم هذه النظرية أفراد كل دولة إلى قاطنين، ينقسمون بدورهم إلى فئة من ليس لهم حقوق سياسية (disenfranchised) وفئة من «يسهمون في اختيار» النخبة الحاكمة ورأسها (selectorate). تنبثق من هذه الفئة مجموعة أصغر هي «الكتلة الفائزة» (winning coalition) تتسلّم مسؤولية جباية الموارد العامة وإنفاقها، وفق رغبة رأس الدولة (leader) (المصدر نفسه: 37-55). رأى هؤلاء الباحثون أن مفاهيم الديمقراطية والأتوقرطية والسلطانية، إلخ، لا تستطيع أن تغطّي تنوّع أنظمة الحكم في بلدان العالم المختلفة. ورأوا أن نظريتهم تحلّ هذه المشكلة من خلال فرز الأنظمة على تنوعّها الكبير وفق معيارين هما، حجم كتلة من «يسهمون في اختيار النخبة الحاكمة»، ومواصفات «الكتلة الفائزة».
يضمن رأس الدولة استمرار حكمه بتوزيع منافع عامة (public benefits) ومنافع خاصة (private benefits). حين تكون هناك مؤسسات توفّر إمكان مساءلة السياسيين من «الكتلة الفائزة» وتغييرهم، وحين يكون «من يسهمون في الاختيار» كتلة واسعة، يجد صاحب السلطة نفسه ملزماً بتوزيع «منافع عامة». تكون هناك ديمقراطية في هذه الحالة. ويكون نظام الحكم أوتوقراطياً، حين تنحسر كتلة «من يسهمون في الاختيار»، وتكون «الكتلة الفائزة» محصورة وشبه مغلقة. يعمد رأس الدولة في هذه الحالات إلى توزيع «منافع خاصة» على أعضاء الكتلة التي تدعمه، بحيث لا يبقى شيء لتمويل «المنافع العامة» (المصدر نفسه: 42).
لكن الديمقراطية ليست بالضرورة مرادفاً للنمو، كما ليست الأوتوقراطية مرادفاً للانهيار الاقتصادي. حين يعمد السياسيون المنتخَبون إلى مكافأة ناخبيهم، ليس من خلال السياسات الاقتصادية الجيّدة، بل من خلال التنفيعات (patronage)، تنشأ «شبكات محاسيب» ويتأسّس سوء استخدام للموارد يضرب النمو ويلغيه (بوينو دو مسكيتا وروت، 2000: 10). بل لا يحتاج السياسيون إلى إدارة حكومية كفء تنفّذ سياسات توفّر منافع عامة للمواطنين، وليسوا بحاجة إلى متخصّصين كفوئين، طالما أن بقاءهم في الحكم ليس مرهوناً بهذه السياسات، ويتحقّق بتوفير منافع خاصة (بوينو دو مسكيتا وروت، 2000: 11).
بيّن هؤلاء الباحثون قصور المقاربات الاقتصادية الصرف للإصلاح. أظهروا الحاجة إلى اقتصاد سياسي للإصلاح الاقتصادي (المصدر نفسه: 2). لا تشكّل الأزمة الاقتصادية هماً عند السياسيين، إلا إذا نجم عنها أزمة سياسية، أي انفكاك للموالين عنهم بسبب نقص الموارد. يعتقد الاقتصاديون أن السياسيين جاهزون لتلقف أي مشروع إصلاحي مقنع. لكنهم يجهلون أن لدى هؤلاء دوافع تجعلهم يتصدّون للإصلاح إذا كان يهدّد مصالحهم أو بقاءهم في الحكم (المصدر نفسه: 4).

الإداريون

اعتمد أساموغلو وآخرون مفهوماً جديداً لتعريف الدول المتخلّفة، وذلك باعتبارها دولاً ذات مؤسسات ضعيفة (weakly-institutionalized polities) (أساموغلو وآخرون، 2004: 163). المؤسسات المعنية هي مؤسسات السلطتين التشريعية والقضائية والإدارة العامة وهيئات تمثيل القطاعات المهنية المختلفة. يمثّل إهمال الاحتكام إلى النصوص القانونية (informalism) القاعدة في هذه الدول. يمارس صاحب السلطة وأعوانه ضغوطات غير رسمية تكون هي العامل الحاسم في اتخاذ القرار الاقتصادي. اتخذ الباحثون أمثلة على ذلك من خلال حالتين متطرّفتين جسّدهما نظاما الحكم أيام موبوتو (1965-1997) في الكونغو، وأيام تريخيللو (1930-1961) في جمهورية الدومينيكان. كان القاسم المشترك بين الحالتين، أن الرئيس هو «فوق القانون»، وأن إرادته هي القانون النافذ في كل أمر، بمعزل عن النصوص الوضعية.
حاول الباحثون فهم سر نجاح موبوتو في البقاء في الحكم طيلة 32 عاماً، في حين أن الناتج الوطني عام 1992 أصبح يساوي نصف ما كان عليه عام 1960 (المصدر نفسه: 171). نقطة الانطلاق هي أن موبوتو كان يريد أن يصبح صاحب ثروة، وتنطبق عليه صفة «اللص» (kleptocrat). استغل وقوفه «فوق القانون» للتحكّم بالتعيينات الإدارية من مستوى مجلس الوزراء حتى آخر موقع في الإدارة العامة. كان المعيّنون يُقالون ليحل محلهم آخرون بوتيرة سريعة. سمى أساموغلو وشركاؤه هذا، استراتيجية «فرّق تسد» (divide-to-rule). كان الوزراء والمدراء المقالون يفسحون المجال لآخرين كانوا ينتظرون فرصتهم على أحر من الجمر. منع جو التزاحم على المناصب أي إمكان لعمل جماعي من قبل هؤلاء ضد موبوتو. استفاد هذا الأخير من جهة أخرى، من ثروة بلاده الهائلة من المعادن الثمينة ومن مساعدات المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وغيره، لتوزيع منافع خاصة ومراكمة ثروة شخصية، وخصوصاً لشراء الخصوم المحتملين، ومنع تكوّن معارضة لنظام حكمه.كان قد أمّم الشركات الأجنبية التي انتهت بأن أصبحت ملكاً له. لم يتوفّر لهذا البلد منتجون محليون على قدر من الأهمية كما كان الأمر في كينيا أو البوستوانا، يلزم الدولة باحترام مصالحهم. انتمت الكونغو لهذا السبب، كالكثير غيرها من بلدان العالم الثالث، إلى فئة البلدان ذات الإنتاجية الضعيفة.
أضاف تريخيللو إلى أدوات السيطرة التي اعتمدتها الأنظمة الاستبدادية كتاب الاستقالة الذي كان يوقعه أي شخص يُعين في الإدارة العامة أو يُنتدب لتمثيل المواطنين في السلطة التشريعية. كانت إقالته تكلّف إضافة تاريخ على كتاب الاستقالة (المصدر نفسه: 173).
نأت الإدارة العامة في هذين المثالين كما في الغالبية الساحقة من البلدان النامية عن نموذج الإدارة الفيبرية الغربية القائمة على الاستحقاق وتنسيب الملتحقين بها بواسطة نظام المباريات الوطنية، وعلى تثبيت العاملين فيها وتوفير شروط الترقّي لهم داخل الإدارة. ونأت عن نموذج الإدارة الفيبرية لجهة عدم وجود هدف مشترك يجمع العاملين فيها ويمنحهم شعوراً بالإنجاز والرضى، وبأنهم يحققون طموحاتهم الشخصية حين يسهمون بتحقيق الأهداف التنموية التي رسمتها الدولة وآلت على نفسها تحقيقها (إيفانز، 1992: 154).
انتفاء عنصر الاستحقاق في التعيينات الإدارية، وولاء المعيّنين لشخص الرئيس أو المسؤول في غالبية بلدان العالم الثالث، وخروجهم في ممارستهم الوظيفية عن النصوص الوضعية التي تحدّد مهماتهم، جعلهم ينصرفون إلى «التفتيش عن الريع»، أي الاستفادة الشخصية من المواقع التي يحتلونها، والإثراء بواسطتها بأسرع وقت.

الانقسام «الإثني»

ربط الباحثون بين الانقسام «الإثني» في بلدان عديدة وبين عدم الفعالية الاقتصادية فيها (ميكال، 2005 ). يتسبّب السياسيون بانعدام هذه الفعالية حين يستخدمون الموارد العامة لإرضاء من يدعمونهم، الأمر الذي يجعل الإنفاق العام «إنفاقاً على المحاسيب» (patronage spending) (المصدر نفسه: 1). يعتمد الزعيم «الإثني» سياسات تمييزية في عملية رصد الموارد وتوزيع المنافع. تشتمل هذه السياسات التمييزية على التوظيف في القطاع العام، ورصد الموارد العامة بشكل غير عادل بين المناطق والأقاليم، وتوفير أشكال مختلفة من الدعم (subsidizing) غير الفعّال للجمهور «الإثني»، إلخ. (المصدر نفسه: 4). وتعكس خيار الزعماء توزيع مداخيل على شكل أجور ومرتبات، بدل الإنفاق على البنى التحتية (المصدر نفسه: 19).
يصبح جمهور الزعيم «الإثني» أكثر تعلّقاً به، مخافة أن يؤدي أي تغيير للستاتيكو القائم إلى تردٍّ لأوضاعه على يد الأخصام «الإثنيين». يزداد هذا الخوف حين لا تكون هناك مؤسسات تضبط عملية انتقال السلطة، وتُخضِعها لشروط متوافق عليها. ويكبر هذا الخوف أكثر حين يكون الزعيم «الإثني» قد انخرط في ممارسات زادت العداء بين المكونات «الإثنية» في البلد المعني.

الخارج

في قراءة أساموغلو وشركاؤه لتجربتي موبوتو وتريخيللو، ذكروا أن الأول عوّل باستمرار على التدخّل العسكري الخارجي، ممثلاً بالفرنسيين أو البلجيكيين، للبقاء في الحكم (أساموغلو وآخرون: 172). بكلام آخر، أنه لم يكن ممكناً تصوّر استمرار نظام حكمه الذي يفتقد لأية قاعدة محلية، من دون هذا التدخّل. ذكروا أيضاً أن علاقة تريخيللو بالولايات المتحدة كانت ممتازة، وأنه احتفظ لنفسه بمنصب سفير بلاده لدى هذه القوة العظمى (المصدر نفسه: 175). لكن أساموغلو وشركاؤه أشاروا إلى هذين الأمرين من دون أن يبنوا عليهما أي استنتاج، وافترضوا أن استراتيجية «فرّق تسد» كانت العامل الحاسم في بقاء هذين الديكتاتورين في السلطة.
في نصه الجميل العائد لعام 1987 والذي أُعيد نشره في 1992 و1995، عقد الباحث الكبير في التنمية، بيتر إيفانز، مقارنة بين ثلاثة أنواع من الدول لجهة إداراتها الحكومية وعلاقتها بالتنمية: الدولة التنموية الشمال-شرق آسيوية، ونماذجها اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، والدولة النهّابة (predatory) ونموذجها دولة موبوتو، والدولة المتوسطة الفعالية، ونموذجاها آنذاك، الهند والبرازيل. أثار إيفانز مسألة دور الخارج في تأمين استمرار حكم موبوتو. استعاد كتابات المختصّين الذين أكدوا أن مبادرة القوات العسكرية الفرنسية والبلجيكية إلى الحسم العسكري في الأوقات الحرجة، أمّن بقاء موبوتو في الحكم (إيفانز، 1992: 150). شكّك الباحث بإمكان بقاء أنظمة كهذه من دون الدعم الخارجي الدائم والثابت الذي يتم توفيره لها.
انتفاء عنصر الاستحقاق في التعيينات جعل
المعيّنين ينصرفون
إلى «التفتيش عن الريع»

3. نخبة ما بعد الطائف

النخبة السياسية والاقتصادية
ليس ثمة منتجون في لبنان. دأبت السياسة الاقتصادية لما بعد الحرب على استئصالهم. المثال على ذلك هو تحرير التبادل الذي تم عام 2000، وألغى الرسوم الجمركية وأنهى وجود قطاعات إنتاجية بكاملها. تراجعت حصة العاملين في الصناعة في مجموع القوى العاملة، من 14.5 % منهم عام 1997 إلى 10.2 % عام 2007، تبعاً لاستقصاءات الثنائي كسباريان (كسباريان،ج1، 2009: 51). في قراءة الباحثين كسباريان الحديثة نسبياً، كان قطاع «التجارة والصيانة» يشغّل عام 2007، 22% من قوى لبنان العاملة. وبلغت حصة الصناعة 10.2% منهم كما سبقت الإشارة، وحصة الزراعة 5.5 % منهم، وحصة قطاع البناء 8.2 % منهم (المصدر نفسه: 51). تشغّل قطاعات الخدمات الأخرى، كالمطاعم والفنادق وخدمات النقل والخدمات للمؤسسات والإدارة العامة والصحة وغيرها من الخدمات، 50.5 % من مجموع العاملين. أظهر الاستقصاء نفسه أن متوسط دخل الفرد بالنسبة لنحو 80 % من العاملين في لبنان كان 639 ألف ل.ل. شهرياً، أي أقل من خمسماية دولار (كسباريان، ج1: 81 و 86).
وضع الباحثان «التجارة والصيانة» في بند واحد، وهو الأكبر لجهة حصته في القوى العاملة، لتظهير صورة قطاع يقوم على الاستيراد من الخارج، ويقدّم لمستهلكي هذه السلع، خدمات ما بعد البيع. أي أن اقتصاد لبنان لم يعد «اقتصاداً منتجاً» بأي حال من الأحوال. وهو «اقتصاد قائم على تحويلات العاملين في الخارج». تبلغ هذه الأخيرة في السنين العادية ما بين 7 و8 مليارات دولار. يصنّف لبنان بين الدول العشرة الأولى في العالم لجهة قيمة التحويلات التي يتلقاها.
هناك بالمقابل قطاع ناجح، هو القطاع المصرفي. تدل على ذلك أرباح المصارف السنوية. يزدهر هذا القطاع وسط حالة الانكماش الاقتصادي الدائم التي يتصف بها لبنان. يلعب هذا القطاع الذي تبلغ حصة العاملين فيه 2.3% من مجموع القوى العاملة، دوراً طفيلياً لجهة اقتطاع ريع هو الريع المالي، من دون أن تترتّب على ذلك مساهمة فعلية منه، في بناء اقتصاد منتج. تحقق المصارف الـ 14 الأولى عائداً صافياً من اكتتاباتها في سندات الخزينة، يساوي نحو 4 مليارات دولار سنوياً (وهبه، 2014). وحين تعجز عن توظيف نسبة مهمة من ودائعها، يتطوّع البنك المركزي لاقتراض هذه المبالغ منها، بفائدة أعلى من تلك التي تحصلها من سندات الخزينة.
تؤمن المصارف مداخيل ثابتة للسياسيين. تحوّل هذه المبالغ بشكل منتظم إلى حساباتهم المصرفية. هذا ما كان الأمر عليه أيام بنك فرعون وشيحا في مطلع الاستقلال. يؤمن هذا التشارك في الموارد اللحمة بين طرفي النخبة الممثّلَين بالزعماء التقليديين من جهة، وبالمصرفيين والتجار من جهة ثانية. تتشكل النخبة السياسية والاقتصادية من هذين الطرفين، ويؤدي وجودها إلى تأبيد نظام اقتصادي ضعيف الإنتاجية (low productivity). تفسّر ندرة المنتجين في الاقتصاد اللبناني ضعف الإنتاجية هذا.

تهميش الإدارة

ليس ثمة رئيس في لبنان يعيّن بمفرده ويقيل ضارباً بعرض الحائط النصوص التي تنظم العمل الإداري. هناك بالمقابل سياسيون، أفراداً وأحزاباً، يتعاطون مع التعيينات كـ«رؤساء شبكات محاسيب»، ويرمون بثقلهم في كل عملية تعيين لاكتساب ولاءات المستفيدين. والجدد بين السياسيين أكثر استشراساً في التدخّل في الإدارة العامة لأنهم بدأوا للتو «الرسملة» لتكوين حيثية سياسية. أما القدامى فلديهم «إقطاعات» داخل الإدارة العامة. وقد بات تدخّل السياسيين في الإدارة والتعيينات أكثر وقاحة واتساعاً. باتت له شرعية تحت شعار «صون حصص الطوائف والمذاهب». لم تكن معايير الكفاءة والاستحقاق غائبة في التعيينات وفي الترقّي الإداري في أي وقت كما هي غائبة الآن. أعطت الإدارة العامة الصدارة لكمٍّ من الفاشلين الذين يحوّلونها جحيماً للعاملين فيها والمحتاجين لها.
ينتشر إهمال الاحتكام إلى النصوص في كل مراتب الإدارة. يبلغ درجة أن المعيّنين الذين يهبطون بالباراشوت لا يجدون من يوصّف مهماتهم في الإدارات التي تستقبلهم، ولا يعرفون ما هي المهمات الملقاة على عاتقهم.
لكن أهم مظهر لاستهداف السياسيين للإدارة العامة، هو تركها شاغرة، أولاً، ومفتقدة لأية صلاحيات تدخلية في الاقتصاد، ثانياً. تنتمي الإدارة العامة اللبنانية إلى فئة الإدارات التي يقتصر دورها على السهر على تطبيق الأنظمة القائمة (regulatory) والتي ليست معنية بمتابعة وتنفيذ أهداف تنموية (داغر، 2008).
لا يستطيع السياسي اللبناني كما موبوتو أو تريخيللو إقالة من يشاء ساعة يشاء. الوسيلة الأنجع للتصدي للإدارة العامة بوصفها قوّة يمكن أن تخرج عن إرادة السياسيين هي في إفراغها من مواردها البشرية والمادية. لا يدمّر شخص بمفرده الإدارة وفعاليتها كما في الحالتين السابقتين، بل تتواطأ النخبة بكاملها ضدها. يؤدي إفقار الإدارة العامة بشرياً ومادياً وعدم توفير صلاحيات لها في ميدان إدارة الاقتصاد إلى تهميشها، ويلغي دورها كطرف يستحيل من دونه أن تتحقّق التنمية.
الانقسام الطائفي والمذهبي.
كيف يستفيد السياسيون من الانقسام الطائفي والمذهبي في لبنان، وكيف ينجم عن هذا الانقسام عدم فعالية اقتصادية؟ سبقت الإشارة إلى الأبحاث التي ترى أن بقاء السياسيين «الإثنيين» طويلاً في الحكم وعدم تعرّضهم للمحاسبة من جمهورهم هو وليد خوف هذا الجمهور من تغيير سياسي يأتي بأخصامهم إلى الحكم ويضرب المكتسبات التي حقّقوها في ظل زعيمهم «الإثني».
أوكل «اتفاق الطائف» إلى الزعماء الطائفيين والمذهبيين، عملية تقاسم السلطة التي أرساها. استفاد هؤلاء الزعماء من حقبة ما بعد الطائف لبناء «شبكات محاسيب» على مستوى طائفة كلٍ منهم. دجّن هؤلاء الإدارة من خلال دورهم في التعيينات. وفّر حصر التعيينات بالزعماء الطائفيين لهم جمهوراً من الموالين هو المسؤول عن تأبيد بقائهم في الحكم وانعدام المحاسبة لهم.
دأبت هذه الحقبة على ترسيخ حالة «عزل عمودي» (segmental isolation) لمكونات لبنان الطائفية والمذهبية. حصرت محاسبة السياسيين بجمهورهم «الإثني». أعاقت تكوّن حالات اعتراض تتجاوز الطوائف وتوفر مساءلة للسياسيين تتخذ طابعاً وطنياً. هنا الطائفية هي أداة استراتيجية «فرق تسد» التي تعتمدها النخبة لإعاقة أي عمل جماعي يهدف إلى تغيير بنية النظام (collective action problem).
في الظروف العادية، يستخدم السياسيون الانقسام «الإثني» لإفادة قطعانهم الانتخابية من الموارد العامة بشكل استنسابي ومتحيّز. تكون المنفعة الموفّرة لهؤلاء هي الهدف. شهدت حقبة ما بعد 2005، استخداماً للموارد العامة على أسس طائفية ومذهبية، الهدف منه استفزاز الآخرين وليس مجرّد المنفعة. لا يمكن فهم التجاوزات التي ارتكبت على مدى هذه السنوات إلا بفهم الهدف منها، وهو ليس المنفعة فحسب، بل افتعال النزاع الأهلي.
لم يشهد لبنان في تاريخه عملية تبديد للموارد العامة من أجل منافع خاصة، كما هو الأمر منذ 2005. يحصل ذلك بالتوازي مع مثابرة أوساط النخبة السياسية على استخدام الفرز الطائفي والمذهبي للتعبئة. قام بعض الموظفين الحكوميين الذين ترأسوا إداراتهم بتجاوزات لم يسبقهم إليها مستبدو أفريقيا. سخّروا هذه المواقع لمنفعتهم الشخصية ومنفعة أوليائهم وللدفع نحو الصدام المذهبي.
وفّر «الخوف» من تآكل حصص الطوائف في الدولة حججاً وشعارات، من مثل «حماية الحقوق الدستورية للمسيحيين» أو «صون حضور المسيحيين في الإدارة العامة»، تستخدمها القوى السياسية، لتحافظ على تمثيليتها أو لترفع مستوى هذه التمثيلية، أو لتغطي على قصورها الفكري والبرنامجي كحركات معارضة وتغيير (challengers). يمكن من هذه الزاوية قراءة العلاقة بين الانقسام «الإثني» وعدم الفعالية الاقتصادية. يجعل هذا الانقسام الحركات التي تدّعي التغيير، تختار السهولة، أي الدفاع عن مصالح الطائفة وإهمال الجهد لبناء أسس فكرية لتغيير بنية النظام. يجعل الانقسام «الإثني» المعارضات المحتملة، معنية بأهداف تعبّر عن قصر نظر. يبقيها عديمة الثقافة وعديمة الفهم، وقاصرة عن بلورة مشاريع سياسية من شأنها إخراج لبنان من مأزقه التنموي الدائم.

الخارج

يتعذّر على اللبنانيين في الوقت الحاضر ملء منصب رئيس الجمهورية الشاغر منذ سنتين، لأن الأمر بيد الخارج. منذ المتصرفية وصولاً إلى لبنان الكبير، كان الخارج هو الذي يختار رأس السلطة في لبنان، ويختار نخبته السياسية. كان التدخّل العسكري الخارجي العامل الحاسم مرّة بعد مرّة في تأمين حماية النخبة اللبنانية واستمرارها.
لا يقتصر دور الخارج على تحديد من يكون رئيس الجمهورية، ومن يتم تبنّيه وانتخابه كممثل للشعب في مجلس النواب. يتدخّل الخارج في عمل مؤسسات الإدارة العامة. يوفّر موارد مالية وبشرية لتعزيز حضور مؤسسات على حساب أخرى، ولاستثمار وجود هذه المؤسسات في تنفيذ أجندات يمليها عليها. يزج الخارج الإدارة العامة في مشاريع تهدف لإبقاء لبنان «ساحة حرب دائمة». ينشغل أفراد الطبقة السياسية بالانخراط في اصطفافات يمليها الخارج تؤمن لهم دخول جنة الحكم. أي ليست السياسة الاقتصادية الأفضل للبنان هي ما يشغل بال الطبقة السياسية ويحرك سجالاتها. بيّن كريستوفر كلافام كيف ألزمت المؤسسات الدولية دول أفريقيا بأجمعها اعتماد أجندات لـ «الإصلاح الاقتصادي» خلال الثمانينيات والتسعينيات، كانت يتم فرضها من الخارج مقابل تمويل الدين العام خلال الثمانينيات، ومقابل الحصول على مساعدات دولية خلال التسعينيات. اشتملت الوصفة لكل هذه البلدان بدون استثناء على تحرير التجارة الخارجية وإزالة إجازات الاستيراد، وتحرير سعر صرف العملة، وتحرير الأسعار بمعنى إلغاء الأسعار الإدارية، والخصخصة للمؤسسات العامة، واعتماد موازنات حكومية متوازنة، واعتماد مبدأ «دولة الحد الأدنى» أو «ترشيق» الإدارة (كلافام، 1996: 811).
اعتمد لبنان بدوره كل هذه الإجراءات على امتداد حقبة ما بعد 1990. استخدم الخارج ممثلاً بالمؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وغيرها من المؤسسات الأجنبية، مديونية لبنان والحاجة إلى تمويل الدين العام، لفرض تحرير التجارة الخارجية وفرض العمل بمبدأ «دولة الحد الأدنى» وفرض الخصخصة، ولإخضاع لبنان لمشيئة أصحاب الريوع المالية، ورهن حاضره ومستقبله لخدمة مصالح هؤلاء (داغر، 2015). أسهم الخارج في رسم ملامح اقتصاد محطّم لا يُرتجى منه شيء، لجهة تحقيق التنمية في لبنان وجعل هذا الأخير قادراً على استعادة أبنائه.

المراجع

Acemoglu D., Robinson J., Verdier T., «Kleptocracy and Divide and Rule: a Model of Personal Rule», in Journal of the European Economic Association, vol. 2, 2004, pp. 162-192.
Bueno de Mesquita Bruce, Hilton Root, “When Bad Economics is Good Politics”, in Bueno de Mesquita B., H. Root (eds.), Governing for Prosperity, Yale Univ. Press, 2000, pp. 1-16.
Bueno de Mesquita, Bruce, B. Morrow J., Siverson, Smith A., The Logic of Political Survival, Cambridge, Mass. : MIT Press, c2003.
Clapham Christopher, “Governmentality and Economic Policy in Sub-Saharian Africa”, in Third World Quarterly, Vol. 17, N. 4, 1996, pp. 809-824.
Crow Ralph, “Confessionalism, Public Administration, and Efficiency in Lebanon”, in L. Binder (ed.), Politics in Lebanon, N.Y.: John Wiley and sons, 1966.
Dagher Albert, L’Etat et l’Economie au Liban : action gouvernementale et finances publiques de l’Indépendance à 1975, CERMOC, Beyrouth, 1995, 222 pages.
Dagher Albert, «L’Administration Libanaise après 1990», Contribution au colloque: “ Le Modèle de l›Etat Développemental et les Défis pour le Liban”, 15-16 février, 2002, Beyrouth, publié in: Ouvrage Collectif, L›Etat, le Développement et la Réforme Administrative, Lebanese Center for Policy Studies, 2004, pp. 191-231.
Evans Peter, « The State as a Problem and Solution: Predation, Embedded Autonomy and Structural Change», in S. Haggard, R. Kaufman (eds.), The Politics of Economic Adjustment, Princeton univ. press, 1992.
Kasparian Choghig, L›émigration des jeunes libanais et leurs projets d›avenir, Enquête réalisée par l›Observatoire Universitaire de la Réalité Socio-Economique (OURSE) de l›Université Saint-Joseph de Beyrouth, Oct.-Nov. 2007, Presses de l›U. S. J., 2009.
Medard J.-F., « L’Etat sous-développé en Afrique noire : clientélisme politique ou néo-patrimonialisme ? », Centre d’Etudes d’Afrique Noire, I. E. P. de Bordeaux, 1982, 36 pages.
Medard J.-F., “Patrimonialism, patrimonialization, Neo-Patrimonialism and the Study of the Post-Colonial State in Subsaharan Africa », Contribution to the Seminar on « Max Weber, Politics and Administration in the Third World », Roskilde Univ., Denmark, 11-12 December, 1995, 14 pages.
Miquel, G. P. “The Control of Politicians in Divided Societies: The Politics of Fear”, in Review of Economic Studies, 74/4, 2005, pp. 1259-1274.
ألبر داغر، «برنامج للإصلاح في لبنان»، «الأخبار»، 12 و15 /6 / 2015.
ألبر داغر، «الدولة اللبنانية وفقاً لمفهوم دولة القانون»، مقالة نشرت في «النهار» بتاريخ 7 شباط 2008، واعيد نشرها في: ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة، ص. 11 – 19.
محمد وهبه، «المصارف تتنافس على تمويل الدولة: أرباح الديون السيادية»، «الأخبار»، 10/ 9/ 2014.
* أستاذ جامعي