اتفاق «الفرصة الأخيرة» و«الهدنة بالتقسيط» في سوريا الذي توصل إليه الطرفان الأميركي والروسي، ذو أهمية كبيرة ولا شك. لا يلغي هذا الاستنتاج المبكِّر جدلاً وتحفظات مشروعين بشأن فرص نجاح الاتفاق، ولا بشأن جدية الطرف الأميركي، خصوصاً، في التوصل إلى حل. ذلك أن سياسة الاستنزاف، وبالتالي إطالة الصراع، هي التي كانت معتمدة من قبل واشنطن حيال كل الأطراف المشاركة أو المتورطة في الأزمة السورية خصوصاً وأزمات المنطقة عموماً. وهي سياسة أثارت ردود فعل متناقضة من قبل أصدقاء الإدارة الأميركية وخصومها على حدٍ سواء. الأصدقاء وجدوا فيها سياسة تراجع وانكفاء وانهزام أمام روسيا وإيران. الخصوم والمنافسون وجدوا فيها سانحة من أجل إحراز تقدم أو فرض شراكة على الولايات المتحدة في بعض ملفات المنطقة التي هي فيها مستأثرة ومتفردة.قلنا إن الاتفاق ذو أهمية كبيرة، بسبب الحاجة الملحة لاحتواء الأزمة السورية ومنع المزيد من تداعياتها وتفاقمها وتماديها. فهذه الأزمة قد دخلت سنتها السادسة وبلغت خسائرها، في سوريا، أساساً، حدوداً مخيفة. كذلك فإن شظاياها قد طاولت كل العالم وخصوصاً مراكز القوة والقرار والاستقرار فيه: عنينا الولايات المتحدة وأوروبا. ثمَّ أنه، ومن خلال تمادي وتفاقم الأزمة السورية برز لاعب شديد الخطورة هو القوى الإرهابية. هذه القوى خرجت عن كل سيطرة وباتت عامل تهديد أمني شامل، محلياً ودولياً، مفتوحاً على أسوأ الاحتمالات، إذا ما تمكنت، فقط، من امتلاك الوسائل الضرورية لذلك: أي وسائل الإبادة والدمار الشاملين.
قبل سنة، دفعت هذه العوامل الخطيرة وسواها واشنطن إلى تنظيم تحرك جزئي تحت عنوان مواجهة الإرهاب. لكن ذلك تزاوج مع استمرار المناورة والرهان على إدارة عملية شاملة يجري فيها، ضمناً، استخدام الإرهاب في سياق عملية محاربته، وبهدف إعادة تعزيز الهيمنة الأميركية في المنطقة وعليها. تخطت التطورات والوقائع والمخاطر هذه المحاولة. التفجيرات التي تعاقبت في عدد من البلدان الأوروبية (فرنسا خصوصاً)، كشفت مخاطر وفشل الخطة الأميركية (ولا أخلاقيتها الضمنية أيضاً). من جهة ثانية فقد جرى استغلال ثغرات الاستراتيجية الأميركية في الانتخابات الأميركية نفسها المقررة في 8 تشرين الثاني المقبل. دفع المرشح دونالد ترامب الجدال إلى حده الأقصى حين طرح إحداث تغييرات جذرية (بعضها عنصري) في السياسة والعلاقات الأميركية انطلاقاً من «ضعف» إدارة أوباما وتزايد الخطر الإرهابي على الولايات المتحدة. كان لا بد للإدارة الديموقراطية، إذاً، من أن تفعل شيئاً حيال ذلك. اضطرت إلى قبول شراكة جزئية مع موسكو بعد أن كانت تكتفي بالتنسيق وبالتقاطع وتوزيع بعض الأدوار. هي انتقلت، عملياً ورسمياً، أيضاً، إلى التخلي عن شعار إسقاط الأسد (لم يكن شعاراً جدياً) ودفعت أطرافاً عديدة، إقليمية ودولية، إلى تبني هذا الموقف. ارتبط ذلك بتحولات ميدانية غير ملائمة لحلفائها بسبب «عاصفة السوخوي» الروسي. حدوث هذه الانعطافة في الموقف الأميركي هو الجديد الذي يعطي مصداقية للتفاهم الراهن مع موسكو بشأن الوضع في سوريا.
أما الموقف الروسي فقد اتسم دائماً بالبحث عن حل سياسي مترافق مع انطلاق عمليتها العسكرية في سوريا قبل حوالى سنة. روسيا تستعجل إنهاء تورطها وكلفته المتزايدة، كما تستعجل تكريس نجاحات عمليتها في تثبيت حكم حليفها الرئيس بشار الأسد، وفي الترويج لجودة أسلحتها (موسكو ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم)، وكذلك في جني ثمار العملية من أجل بناء وتعزيز موقعها الإقليمي والدولي المنشود.
صادف ذلك، أيضاً أن المعارك الأخيرة في حلب، كما أشرنا، جعلت انهيار موقع مسلحي المعارضة أمراً ممكناً بعد قطع طريق إمدادهم وبعد الارتباك الذي نجم عن ضغوط روسيا لفصل المتطرفين عن «المعتدلين». أشار إلى أهمية ذلك، في اتخاذ القرار الأميركي وفي تبريره، الوزير جون كيري نفسه حين صرّح: «الاتفاق، أو أن نكتفي بمراقبة سحق المعارضين وسقوط حلب في أيدي قوات بشار الأسد وحلفائه».
بوصف الاتفاق محاولة لاحتواء مخاطر توسع وتفاقم الأزمة السورية، واشنطن وموسكو حريصتان معاً (بل ومجبرتان) على أن تفعلا شيئاً. سرَّعت من إقرار اتفاقهما، أيضاً، الاندفاعة التركية، ذات الطابع الدفاعي، التي أجازها الجميع (لضبط التسرع الكردي أو لقمع الحقوق الكردية ومنع تمدُد أزمة المهجرين...) والتي تحجّمت وتكيّفت مع الاتفاق الجديد. الرئيس رجب أردوغان ذو طموحات إقليمية تراجعت نتيجة تراكم الأخطاء. هي تعاود الإطلالة اليوم عبر استغلال ثغرات التفاهم الأميركي الروسي، والصراع السعودي – الإيراني، وتعقيدات الوضع السوري والإقليمي، وتفاقم «الخطر» الكردي، والمرحلة الانتقالية في واشنطن.
قلنا إن الاتفاق كبير الأهمية بسبب حجم التعقيدات والمخاطر التي وصلت إليها الأزمة السورية. تخفيف معاناة الشعب السوري، التي تحولت إلى كابوس يضغط عليه وعلى المنطقة والعالم، هو هدف لا يتقدمه هدف. اختبار تطبيق اتفاق يحظى بالحد الأكبر من النجاح، حتى الآن، هو مسعى يستحق كل جهد. الجهد الروسي هو الأكبر والأكثر مسؤولية وحرصاً وفق كل مقارنة. لا بد أن يولِّد ذلك دينامية، بل صحوة استثنائية، تشمل كل الأطراف المنخرطة في النزاع ومنها الأطراف العربية بالدرجة الأولى. الحريق يلتهم مقدرات سوريا ومنطقتنا ويهدد ثرواتهما وبشرهما واستقرارهما قبل كل الآخرين. وفق هذا المنطق على السلطات السورية أن تكون الأحرص على نجاح الاتفاق. يستدعي ذلك اتخاذ مبادرات وإطلاق تطمينات وتغير أولويات وأساليب، والتخلي عن فئويات كانت سائدة... لقد حصل «التكيُّف» التركي مع استمرار حكم الرئيس بشار الأسد بثمن احتلال شريط واسع من الأراضي السورية المتواصلة والمتكاملة مع «لواء اسكندرون» المحتل. العدو الإسرائيلي، من جهته، عزَّز علاقاته بالمجموعات المسلحة (رغم فشل العملية الأخيرة على حدود الجولان) وبات حاضراً، مباشرةً، في المشهد الداخلي السوري (تكرار تجربة جيش «لبنان الحر» اللبناني). مراقبة المساعدات التي سيستفيد منها المواطنون المحاصرون بالغة الأهمية منعاً لإدخال أسلحة وذخائر للمسلحين. لكن انتشال المحاصرين من معاناتهم القاسية هو مدخل مؤثر لإعادة الصلة الإيجابية معهم أو مع الأكثرية من بينهم.
لن تُحل الأزمة السورية بسهولة. وهي لن تُحل إلا ضمن تدرج ومراحل قد تستغرق وقتاً طويلاً. إدراك ذلك مهم لنزع كل وهم بتحقيق انتصار «ساحق» لأي طرف من طرفي (أو أطراف) الصراع. وجود القوى الإرهابية، بقوة على الأرض، والخلل في مواقف قوى إقليمية مؤثرة سيلعب دوراً سلبياً ومعيقاً. الاتفاق الحالي هو محصلة غير مستوفية كامل الشروط للتعاطي مع وضع بالغ التعقيد كالوضع السوري. لكنها، مع ذلك، اختبار ينطوي، وفق مصالح حقيقية لأكبر قوتين متورطين، على محاولة احتواء قد تتدرج نحو حل بالتقسيط! الأطراف العربية، وفي مقدمها الحكم السوري، أمام مسؤولية تاريخية لإنقاذ سوريا والمنطقة... ونفسها أيضاً، عبر اتخاذ ما ينبغي من المواقف والمبادرات الصحيحة والمسؤولة!

* كاتب وسياسي لبناني