لا يُعاب على العامل أن يبيع قوة عمله كي يعيش وأسرته. هذا وإن كان ذلك البيع مغطى بأكذوبة لغوية اسمها «حرية» بيع قوة العمل التي هي حرية الاضطرار والبيع/ التبادل اللامتكافئ. أما أن تصل علاقات عمل/ رأسمال إلى أن يبيع المرء قوته العقلية/ الثقافية فيعني أن البشرية وصلت إلى حالة من العبودية المقنَّعة يغمرها من الذلِّ ما يجعل عبودية التشكيلة العبودية أقل ألماً وبشاعة.تصل المأساة إلى أعلى تفاقمها حين قراءة حالة من الاستعباد والعبودية مكوناتها:
ــ نظام رأسمالي معولم في المركز يستخدم ويمتطي ويخطط لِأنظمة ريعية تابعة جاهلة وشبه متعلمة تجمع وتتحصل على فيض مالي بمستوى تريليوني.
ــ مثقفون من شعب مستلَب الوطن تم تعويمه بشكل معولم مما يجعل مثقفيه الأكثر عرضة لبيع العقل قبل الجهد العضلي.
هذا التراكم الخطير هو الذي يفرز اليوم هجمة مثقفين ـ الطابور السادس الثقافي ـ استمرؤوا بيع الثقافة مقابل المال، بغضّ النظر حتى عن الحاجة، بل في حالات كثيرة دونما حاجة. وهو بيع لصالح هجمة تستهدف الوطن وتضحيات أهله جميعاً وتنتهي كمساهمة في اجتثاث معسكر المقاومة عبر الزعم: «لقد حُلّت القضية الفلسطينية، فماذا يريد معسكر المقاومة بعد!».
لذا، أزعم أنني على حق حينما كتبت منذ سنوات رداً على مدير مؤسسة «تأنجز»: «قل لي من أين دخلك أعرف من أنت؟». طبعاً السؤال مخالف لأسس الاقتصاد السياسي التي تقوم على: قل لي ماذا تعمل؟ ذلك لأن الثقافة صارت سلعة بل صاحبها بائع سلعتين معاً، العقل والجسد. أليست هذه ظاهرة غربية؟

فكرة خلاقة، فكرة جديدة... وتفكير جديد

هات فكرة خلاقة، فكرة جديدة؟ هذا ما تسمعه كثيراً في الأكاديميا الغربية. وهي مسألة تقع بين التحفيز على الابتكار وبين السماجة الأكاديمية، وأنت بقدراتك تحدد موقعك بينهما. هي في البحث العلمي أساسية وضرورية. فهي لا تنتهك قاعدة الانطلاق الأساس أي البحث العلمي والابتكار لأجل العلم.
ولكن حين يصبح المطلوب تفكيراً جديداً وخاصة في السياسة، تجد نفسك أمام تساؤل: هل المطلوب إبداع ما؟ أم تغيير في الموقف السياسي ومن ثم الاجتماعي سواء كان طبقياً أو قومياً. هنا لك أن تشك في أن المطلوب تغيير في خطابك وصولاً إلى تغيير موقفك.
هناك فارق بين التفكير الجديد، أي أن تفكر بطريقة مختلفة عما ألفتَ التفكير به وفيه، وبين النقد بما هو مبضع كشف الزيف وتأكيد وتأصيل الحقيقي في الموقف والفكر معاً.
يفتح هذا على الأرضية الفلسفية لكل شيء في الحياة وهي: أن الحدث وهو موجود مستقل عن الإنسان، سابق عليه، يعترضه فيكون للإنسان درجة من التفاعل مع الحدث، اكتشافه لا صياغته أو خلقه وإعادة إنتاجه قدر طاقته سواء بالاعتماد على نمط الإنتاج في حالة الصراع مع الطبيعة وتسخير جوانب منها أو في تكوين تصور عن الحدث كواقع والتعاطي معه والتأثير فيه.
في الحالة الفلسطينية، كان ولا يزال الحدث هو الاغتصاب الاستيطاني الاقتلاعي لفلسطين. لم نصنعه نحن. هذا الحدث هو السحق الخارجي للحيِّز الجغرافي الفلسطيني وتواصل هذا السحق دون توقف. جرى تشكيل وإعادة تشكيل هذا الحّيِز على أيدي قوى عدوة خارجية ـ نقاومها ما استطعنا حتى لو «تراخى الناس عنا»ـ قول الشاعر عمرو بن كلثوم (نطاعن ما تراخى الناس عنا... ونضرب بالسيوف إذا غُشينا). ولا زلنا نقاوم كما نحن اليوم عبر الانتفاضة الثالثة.
قصدي من هذا التقوُّل الوصول إلى السؤال التالي: مهما قمنا بتقليب الحدث يبقى هو الحدث، قد يتغير فهمنا له، موقفنا منه، لكن هذا لا ينفيه كحدث ولا يعني أننا خلقناه بل اكتشفنا جوانب منه. وهذا هو الوطن، يبقى تحت اغتصاب يسحقه ويعيد تركيبه وسحقه، وذلك بأبعد مما يرى إيلان بابيه بأنه تطهير عرقي. بل هو سحق متواصل للحيز يأخذه ينتزعه يغتصبه ويُلقي بنا على مراحل خارجه، وبذا يركب عليه تطهير عرقي كنتيجة تلت الحدث الذي هو أخطر عملياً من التطهير العرقي، إنه انتزاع وطن.

من المقاومة الأولى إلى المشكلة الأولى

لست مع النفخ والتضخيم لنضالات الشعب العربي في فلسطين وكل الوطن العربي، ولكن حقيقة الأمر أن هذا الشعب تصدى للحدث/ الغزو/ الهجوم/ الحرب، سمها ما شئت. أي يقاوم العدوان.
بعض المثقفين العرب سواء عن عدم دقة أو عن دونية وعي أو استخفاف بالعروبة، قالوا/ كتبوا بأن الحركة الصهيونية خلقت حركة التحرر الفلسطينية. وتخيل هؤلاء بأنهم يمتدحون المقاومة الفلسطينية، بينما هم ينسبونها إلى ولادة سفاح. ذلك أن المقاومة لا تأتي عبر تلقيح خارجي بل توليد ذاتي لأنها قوة كامنة تنطلق عند التحدي ولا تولج في أي شعب أو أمة. لا تظهر دون حدث خارجي، لأن المقاومة فعل ضد فعل. هذا عن المقاومة الأولى والممتدة حتى اليوم بمستوى ممتد، رفض الاحتلال، رفض التطبيع، مقاطعة الأعداء، ومستوى مشتد بالكفاح المسلح.
ولكن، ترافقت مع المقاومة الأولى مشكلة أولى ممتدة أيضاً، وهي كيف نظر البعض منا للحدث، كفلسطينيين وعرب: كيف فكر فيه، أي تفكير بُني على الحدث؟ لذا وجدنا في فلسطين من تعاطى مع العدو باكراً، ومن عمل عميلاً، ومن باع أرضاً. بل إن أقدم عائلتين عربيتين في الحكم والعلاقة بالاستعمار (الهاشميون والسعوديون) قد باركتا منح فلسطين لليهود.
هنا نضع إصبعنا على استدخال الهزيمة أو التطبيع.
ليس هنا مجال التوصيف الوقائعي التاريخي لهذه المشكلة. ولكن لا بد من التحديد هنا، أن المشكلة هي مشكلة وحين يحاول البعض وضعها في خانة الإشكالية، فهو يقصد التغطية على موقف خطير يغطي المشكلة ويجعل الوطن موضوع نقاش، ينقله من الثابت إلى قابلية الاجتهاد الموصل إلى النفي.
في الحالة الفلسطينية، كان ولا يزال الحدث هو الاغتصاب الاستيطاني

يكفي القول بأنه إلى جانب المقاومة كفعل كانت هناك ثقافة المساومة سواء اعتراف البعض بالكيان مما يعني شطب الحدث الذي هو اغتصاب الوطن، وعضوية الكنيست التي حتى الآن لا يدرك كثيرون بأنها ليست مجرد اعتراف بالكيان على أرض شعبنا بل كذلك إدانة للمقاومة ووقوف ضدها، ثم اعتراف متتابع لأنظمة عربية بالكيان الصهيوني وطبعاً اعتراف فلسطينيين بالكيان.
سأحصر الحديث الآن في مسألة الحل، أي رؤية أو رؤى الحل في مواجهة هذا الحدث أو الصراع بسبب الحدث. أقول الحدث قبل الصراع، لأن هناك صراعات على قضايا لا تمس أساس الوجود بينما في حالتنا الحدث هو نفي الوجود وسحق الحيز والطرد منه.
ترافق مع بدء الحدث أي الغزو الاستيطاني الصهيوني التدريجي، بدء الحديث عن الحل متخذاً شكل دولة واحدة أو دولتين، أو فدرالية مع الأردن أو حتى اتحاد «بر الشام»... الخ. وهو حديث ثبتت لا جدواه وتزداد وضوحاً كلما قرأنا أساس الحدث وهو انتزاع كامل الوطن. ولذا، وها قد مضى أكثر من قرن على مقدمات الحدث وسبعة عقود على اغتصاب الوطن، ولا يزال الحديث عن الحل وشكل الدولة قائم في فراغ.
لعل الفارق بيننا وبين العدو أننا نعرض عليه حلولاً، بينما هو لا يرفضها وحسب، بل يتلذذ في قراءة حلولنا ورفضه لها، بينما هو في مشروعه بلا تردد، أنّ لا حل سوى مشروعه أي التهام كامل الوطن وأبعد. وفي هذا المسار يدغدغ عارضي الحلول ويذبح كافة أشكال المقاومة.
وعليه، فإن عرض الحلول من جانينا، هو خلق سوق عرجاء، عرض بلا طلب.
أما حين نقتتل على حلول نعرضها على العدو، فإننا نضع أنفسنا في حالة كاريكاتورية لا تليق بالقضية إذا قبلنا أن تليق بنا أو ببعضنا.
مع موجة المقاومة التي بدأت إثر هزيمة 1967 بهدف التحرير ظهرت شعارات دولة ديمقراطية علمانية، وفلسطين اشتراكية، ثم تراجعت إلى سلطة وطنية في المحرر من 1967. كل هذا كان بالترافق مع جهد المقاومة في التصدي للاحتلال، أي تولد الشعار من زخم المقاومة، فكان لا بأس من مرونة ما فيه. ومع ذلك كان المقصود بهذه الشعارات بعد التحرير. ولكن حيث أخذ التحرير يبدو بعيداً، بدأ الحديث عن المساومة إلى جانب ومن ثم على حساب المقاومة. أي بقي الشعار وتضاءل ولم يعد مرتبطاً/ مشروطاً بالتحرير.
بعد مذبحة ايلولأ1970، واقتلاع المقاومة من الأردن، بدأ الحديث عن الخيار الأردني بدل التحرير، وكان هذا الخطوة الخطيرة الأولى للتجاوز عن التحرير. وتعزز تجاوز التحرير بعد نصف الانتصار في حرب أكتوبر 1973 والذي استغله النظام المصري للاعتراف بالكيان الصهيوني.
في عام 1978، بعد أول غزو صهيوني موسع لجنوب لبنان واحتمال اقتلاع المقاومة، قال السيد حكمت المصري من وجهاء نابلس بما معناه: «إذا كانت منظمة التحرير ستأتي إلى هنا بالمفاوضات، فنحن الأحق بذلك» (في عدد من مجلة البيادر السياسي- في القدس المحتلة)، وهذا بالطبع ما كانت تفكر به الرأسمالية الكمبرادورية في الأرض المحتلة 1967.
وبعد اقتلاع المقاومة الفلسطينية من لبنان 1982، طرح وزير الخارجية الأميركي جورج شولتس شعار تحسين شروط حياة الفلسطينيين، أي أعلن أنها قضية إحسان للاجئين لا قضية وطنية قومية. إثر ذلك الاقتلاع، عقدت الرأسمالية الفلسطينية بجناحيها البرجوازية المالية المقاولاتية في الشتات، ومن البرجوازية المحلية وخاصة برجوازية التعاقد من الباطن مؤتمراً في لندن، لقاء 25 حزيران 1982 بهدف نعي المقاومة ومن ثم قيادة الشعب الفلسطيني، وهو المؤتمر الذي تمكن ياسر عرفات من لجمه على أرضية: سيكون لكم الاقتصاد ولنا السياسة,
وهكذا تكون تحالف ثلاثي من الرأسمالية البيروقراطية أي قيادة م. ت. ف. والرأسمالية المالية في الشتات ورأسمالية التعاقد من الباطن داخل المحتل 1967. ولكنه تحالف على أرضية الحل السياسي بدولة في المحتل 1967.
لكن شتات م. ت. ف. الذي أشعر الكيان بأن المقاومة انتهت، وبأن المقاومة في ربع ساعتها الأخير (تعبير ميرون بنفنستي نائب سابق لرئيس بلدية القدس المحتلة) ما لبث أن واجهه الشعب بالانتفاضة الأولى التي قلبت الحسابات جميعاً، والتي انتهت إلى اتفاق أوسلو حيث اختزلت قيادة المنظمة القضية في محاولة دولة في الضفة والقطاع. وبالطبع لم يحصل حتى اليوم.
منذ أوسلو والجدل دائر بين معظم القوى الفلسطينية، وليس جميعها، حول الحل وليس التحرير. وهو ما تولدت عنه شعارات: «دولة في المحتل 1967، دولة ثنائية «القومية»، دولة ديمقراطية علمانية، دولة لكل مواطنيها... الخ».
وعليه، يمكننا تلخيص هذه التعددية في:
ــ موقف حل الدولتين أي الكيان إلى جانبه سلطة الحكم الذاتي وصولاً إلى دولة في الضفة والقطاع.
ــ موقف مشاريع دولة واحدة.

التفكير الجديد أم الموقف الآخر

ربما كان إدوارد سعيد أول من جاهر بما أسماه «التفكير الجديد» حيث كتب بأن على الفلسطينيين أن يقدموا تفكيراً جديداً في الصراع مع «إسرائيل». وتفكير سعيد هذا لا يرتد إلى مأزق م. ت. ف. وقبولها باتفاق أوسلو ولا مأزق شَقّيْ المقاومة الوطني والإسلامي. كما لم ينجم فقط عن كونه ضد الكفاح المسلح بادئ ذي بدء (انظر كتابه بالإنجليزية غزة أريحا أولاً) بل يرتد إلى ربما أمرين هما أعمق من ذلك بكثير:
الأول: تأثره بميخائيل أدورنو من مدرسة فرانكفورت الثقافوية حيث تقوم نظرية أدورنو على ان لا حاجة ولا معنى للوطن، وهو ما أوصل سعيداً إلى اعتبار الوطن مجرد مكان (انظر عادل سمارة، إدوارد سعيد بين النص والطبقة يغطيه النقد وتحرجه السياسة في مجلة كنعان العدد 140، كانون ثاني 2010 ص ص84-139). وهو ما أوصله إلى الإصرار على الحوار المتواصل مع الصهاينة
والثاني: وجوده في الشتات وقربه من المؤسسة الأميركية الحاكمة بواقع أنه حمل رسالة من وزير الخارجية الأميركي سايروس فانس عام 1969 إلى ياسر عرفات.
هذا ما أوصل سعيداً إلى طرح شعار «التفكير الجديد» لكنه لم يحدّد معالم هذا التفكير، ويفتح على سؤال:
هل هناك تفكير جديد في قضية وطن مغتصب استيطانياً كبديل من تحرير الوطن نفسه؟
رحل إدوارد سعيد في الوقت الذي دخلت في المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها مأزق العجز عن التحرير، وقبول بعضها باتفاق أوسلو، ونصف قبول من بعضها الآخر، وقلة هي التي بقيت ضد الاتفاق، إلى أن حصل الانقسام بين فتح وحماس.
وهنا نصل إلى نقطة فاصلة ملخصها: هل المأزق هو من صنع فلسطيني بحت؟ وهل المأزق والخلل في بنية ودور المقاومة وعجزها عن إنجاز مشروعها يسمح بشطب تضحياتها؟ أم أن المطلوب النقد الحامض للمقاومة دون شطب تضحياتها وصولاً إلى: إما صعودها مجدداً أو صعود بعضها ودماء جديدة لتواصل الموقف الجذري بهدف التحرير.
هنا يفترق الفلسطينيون تجاه هذه المسألة لينقسموا إلى ثلاثة مواقف:
ــ موقف دُعاة الدولة في الضفة والقطاع عبر المفاوضات المستمرة.
ــ موقف دُعاة تجاوز كافة الحلول المطروحة بعد اختبارها جميعاً والتمسك بالتحرير ومن ثم الحلول.
ــ مواقف متعددة من دولة واحدة تبدأ بدولة ديمقراطية علمانية مع تداخل هوامش طرح دولة واحدة مع أخرى وصولاً إلى موقف استسلامي يهبط إلى ما دون المفاوضات لينادي بتعايش مع المستوطنين حتى دون تفاوض.
أما والموقفان الأولان مفهومان فلا حاجة إلى شرحهما، فإن الموقف أو الطرح الملتبس هو الذي يثير كثيراً من الشكوك والنقد وهو الذي يحمل تسميات من طراز: التفكير الجديد، التيار الجديد، صرخة من الأعماق... الخ.
هذه الدعوات والصرخات يصدح بها كثير من المثقفين/ ات سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها، مرتكزين على شعار إدوارد سعيد، مبتعدين عن رفض الكيان حتى لأكثر الحلول تنازلاً وهبوطاً.
على أن الأشد خطورة في هذا الفريق في تركيز هجمته على تاريخ المقاومة وطمس تضحياتها، والإشادة بالانتفاضة الثالثة بزعم غياب التنظيمات عنها وحتى زعم بعضهم أنه هم الذين فجروا هذه الانتفاضة، إضافة إلى الهجوم على سلطة الحكم الذاتي إلى حد موازاتها مع هتلر... الخ.
ولافت كذلك أن هذه المجموعات لا تملك قوة تنظيمية و/ أو اجتماعية طبقية على الأرض. ولكنها، كما يبدو، تنتمي إلى الطبقة الوسطى وتتمتع بإمكانات مالية في عقد مؤتمرات وتتنقل بأعداد كبيرة وبسهولة مما يشي بأن لديها تمويلاً ما. ومن يكون لديه ممول ما يكون له معلم ما. ولافت أيضاً أن كثيراً من خطاب هذه المجموعات متشابه إلى حد التطابق من جهة، ومن جهة ثانية، فإن كثيراً من الشخوص موجودون في هذه المجموعة وتلك!
في ما يلي سأقدم مقتطفات من نصوص لهذه المجموعات هادفاً إلى أن تهافت المشروعات والشعارات لا يعني تهافت القضية أو تقادمها.
كتبت أكثر من مرة عن جماعة «صرخة من الأعماق للتعايش مع المستوطنين في فلسطين التاريخية» والتي حاولت تقديم هذه الصرخة باسم الشعب الفلسطيني في مؤتمر في دمشق 18-3-2016، لكن الفصائل الفلسطينية تصدت لها. وهذا الفريق هو نفسه الذي زعم وجود ما أسماه: «الجبهة الوطنية الموحدة في فلسطين التاريخية». وهي الجبهة التي كانت بادرت لنشر الخبر عنها كل من صحيفتي «القدس العربي» و«البوابة» الإلكترونيتين. (لمزيد من التفاصيل والتحليل الرجاء العودة الى مقالة «الجبهة الوهمية في فلسطين التاريخية ـ حقيقة الجبهة الوطنية الميدانية الموحدة في فلسطين التاريخية»)، كما يمكن الرجوع إلى مقالة حياة ربيع (كنعان، النشرة الإلكترونية Kana’an – The e-Bulletin السنة السادسة عشرة - العدد 4251، 6 أيلول (سبتمبر) 2016).
فبتاريخ 16 اكتوبر 2015 نشرت صحيفة «القدس العربي» الإلكترونية الخبر التالي:
«الإعلان لأول مرة عن تأسيس «الجبهة الوطنية الموحدة في فلسطين التاريخية» و«القدس العربي» تنشر البيان الأول للانتفاضة «الثالثة» بل ونسبت هذه الجبهة لنفسها دور تفجير الانتفاضة الثالثة، كما أوردت «القدس العربي»:
صدر ما يمكن وصفه بالبيان الأول الذي يعلن اندلاع «الانتفاضة الثالثة» في فلسطين في مواجهة الاحتلال باسم «انتفاضة الأقصى والقدس». وتم الإعلان في البيان الذي حصلت القدس العربي عليه عن تأسيس كيان سياسي جديد خارج الجسم الفلسطيني الفصائلي باسم «الجبهة الوطنية الميدانية الموحدة في فلسطين التاريخية»... وبأنها لا تربطها أي علاقة تنظيمية من أي نوع بجميع الفصائل العاملة على الساحة الفلسطينية... وحصلت القدس العربي على نسخة أصلية ومباشرة من البيان الأول الذي يتبنى اندلاع الانتفاضة الثالثة ويدعو جماهير الشعب الفلسطيني للالتحام والتوحد. بدون أي علاقة من أي نوع بجميع مؤسسات السلطة الفلسطينية، وأصدرت نداء رقم (1)... 15 تشرين أول 2015.
أما خبر «البوابة» الإلكترونية بتاريخ 18 أكتوبر 2015 فكان التالي:
وثيقة: دعوة لدولة «فلسطين التقدمية» وإدانة لـ «هتلر» والسلطة «عائق» أمام التحرير».
نلاحظ تطابق خبري «القدس العربي» و«البوابة» في الحديث عن هذه الجبهة الوهمية من جهة وتركيزهما على كون هذه الجبهة بعيدة عن مختلف الفصائل الفلسطينية في خطاب يقصد تقويض تاريخ وواقع المقاومة!
نختم في هذا الجزء من المقالة بالتذكير ببيان نشرة السيد بولس روحانا في 9 آذار 2016، وقعته القوى التالية ويتضمن ما يسمى «الجبهة الوطنية الموحدة في فلسطين التاريخية»:
«... بيان تنديد بالعدوان السعودي الأميركي على اليمن، وتضامن مع الشعب اليمني وقواه المناضلة ضد العدوان. نحن، اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب السوري وقيادته الوطنية، حركة أبناء البلد، حزب البعث العربي الاشتراكي فرع فلسطين، الجبهة الوطنية الموحدة في فلسطين التاريخية، حركة كفاح، اللجنة الشعبية للدفاع عن سورية، رابطة النساء العربيات التقدمية، الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري، اللجنة الشعبية للدفاع عن اليمن، الحزب الشيوعي الفلسطيني».
تهمنا الإشارة إلى أن تسميات مثل رابطة النساء العربية التقدمية، واللجنة الشعبية للدفاع عنى اليمن، ليس لها وجود حقيقي! أما «الجبهة الوطنية الموحدة في فلسطين التاريخية»، فقد سألنا أكثر من تنظيم ممن حمل البيان أسماءها، ولم نحصل على إجابة تؤكد وجود هكذا جبهة، وبعض القوى وعدنا قادتها بالبحث عنها ولكن لم يأت أي رد بعد! وبعض الأحزاب قال، لم نسأل فالمهم أن نضع توقيعنا!
نصل إلى مجموعة فيسبوكية أخرى، هي «تيار فلسطين جديدة» ولكن بها أسماء تتحدث باسمها، بعكس الصرخة وجبهتها الوطنية الموحدة التي تخفي أسماء شخوصها، أو ربما ليست لها سوى بضعة أسماء، والتي أصدرت في 13 فبراير 2016 بيانها بعنوان: «نحو مشروع بناء المشروع الوطني الفلسطيني». ولافت أن هذه المجموعة تشارك «الصرخة من الأعماق» موقفها المضاد للقوى ومنظمة التحرير الفلسطينية:
«... داخلياً ان سياسية المرحلية التي انتهجتها النخبة السياسية والقيادية التاريخية للشعب الفلسطيني الممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها أدت الى تمزيق أهداف مشروع التحرر الوطني. كان آخرها اتفاقيات مرحلية مجحفة كاتفاقية أسلو، التي لا تتماشى مع مطالب شعبنا، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى من المطالب الوطنية المشروعة وحجم التضحيات. اتفاقيات ولا تستند على أي شرعية شعبية أو إجماع وطني، وإن قبلها شعبنا على مضض، فكان القبول من باب الحفاظ على اللحمة الوطنية وتجنباً للصراعات الجانية التي من شأنها ان تعطل عملية التحرر». إلى أن يقول: «... العمل على بناء دولة ديمقراطية علمانية تضمن الحقوق والواجبات لجميع مواطنيها، بمن فيهم اليهود، على أسس المواطنة والمساواة لجميع سكانها، والحفاظ على جميع حقوق مكونات المجتمع على أسس المساواة والعدل والعدالة الاجتماعية، من ضمنها حقوق ضمان وحماية حقوق العبادة والعقيدة والعمل والتمثيل السياسي».
ومن اللافت أيضاً أن «المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات» قد نشر هذا البيان على صفحته بتاريخ 13 مارس 2016 وذلك في مؤتمر لمسارات بعنوان مشابه لما تطرحه مجموعة «فلسطين جديدة» وهو «تأكيد الحاجة لإعادة تعريف المشروع الوطني وتعزيز مشاركة فلسطينيي 48». وقد ورد في مؤتمر مسارات الأحد، 13 آذار (مارس)، 2016، ما يلي:
«غزة – البيرة: أكدت شخصيات سياسية ومجتمعية وشبابية على الحاجة إلى إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني على أساس النضال من أجل تمكين الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، مع ربط ذلك بعملية مرحلية للوصول إلى الهدف الاستراتيجي الذي يمكن أن يكون دولة ديمقراطية موحدة، منوهين إلى أن الفترة الحالية تتطلب النضال من أجل حق العودة، وإنهاء الاحتلال في الضفة والقطاع، مع ضمان حق المساواة لفلسطينيي 48».
يتقاطع هذا الخطاب مع معظم طبعات الدولة الواحدة، علماً بأن «المساواة في 48، هو من أطروحات عزمي بشارة الذي بدأ ناصرياً عروبياً محباً لحزب الله وانتهى في قطر ليقود مشروعاً دعاوياً ضد المقاومة ومشروع تخريب ثقافي ضد الأمة العربية! والذي تحدث في مؤتمر مسارات هذا هو خلف عزمي بشارة في حزب التجمع الوطني الديمقراطي في المحتل 48».
بعض المثقفين العرب كتبوا أن الحركة الصهيونية خلقت حركة التحرر الفلسطينية

بدوره، فقد شارك موقع أجراس العودة في النشر «لتيار فلسطين الجديدة».
هذا إلى أن نصل إلى مقالة طازجة لـ د. غانية ملحيس، تشارك الأطراف المذكورة مواقفها التي تتجاوز المقاومة وتمر فوق تاريخها باستخفاف هائل. نقتطف منها:
«هل بات التفكير الفلسطيني المغاير من المحرمات؟
ترددت كثيراً في الرد على مقالة الأستاذ منير شفيق «هزال شعار دولة لمواطنيها في فلسطين» بتاريخ 27/7/2016، الذي تناول فيها مقالة المفكر والكاتب الأستاذ ماجد الكيالي المنشورة في جريدة الحياة بتاريخ 19/7/2016 تحت عنوان «هل ثمة تفكير سياسي فلسطيني خارج الفصائل؟»... وغاب عنه، أن الحراك الشبابي الفلسطيني الذي يتسم بالفردية، ويدعوه بـ«الانتفاضة»، ما يزال وحيداً في الميدان دفاعاً عن أهله ومقدساته وممتلكاته».
وهكذا تقرر ملحيس ان الانتفاضة الثالثة يتيمة. ولعل المضحك حقاً، أن «الجبهة الوطنية الموحدة...» تزعم أنها فجرت الانتفاضة الثالثة ببيانها رقم واحد، والذي بقي يتيماً ليس كبيان بل كوجود وحضور.
وبعد:
أسئلة عديدة تترتب على ما تطرحه هذه المجموعات، سواء الوهمية منها «الجبهة الوطنية الموحدة...» أو الحقيقية، بغض النظر عن افتقارها جميعاً لقاعدة شعبية. لعل السؤال الأساسي، ما سبب هذه الهجمة على المقاومة في هذه الفترة، من هي الأطراف التي تمول تحركات هؤلاء؟ من هو المهندس لأطروحاتها؟... الخ.
أما السؤال الرئيسي الذي لا بد من الإجابة عليه، فمتعلق بما ورد آنفاً، فإن فَشل بل استحالة إقامة دولة في الضفة والقطاع، أي حل الدولتين، لا يعني أبداً، أنه دون التحرير، هناك معنى او إمكانية لدولة واحدة غير الدولة الواحدة القائمة منذ حزيران 1967، أي دولة لجميع «مستوطنيها». وبأن مختلف أطروحات الدولة الواحدة سواء، علمانية، ديمقراطية ثنائية... الخ ليست سوى إشغال الناس في العبث وتواطؤ مع المشروع الصهيوني لتصفية المقاومة الفلسطينية مما يفتح الباب للثورة المضادة لتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد/ الكبير ودحض ضرورة معسكر المقاومة طالما «تصالحت الضحية والجلاد».
فإذا كان لقراءة التاريخ معنى، فإن تعثر الشرفاء في البحث عن حل، وتورط مستدخلي الهزيمة في حل شكلاني في دولة واحدة، يوصلنا في النهاية إلى أن الحل الوحيد ذا المعنى هو التحرير ومن ثم يكون الحل. وعليه، فإن شعار الدولة الواحدة يجب ان يكون رؤية لما بعد التحرير، ومن الخطورة بمكان الحديث عنه في هذه المرحلة. ما من شعار يُمكن طرحه بمعزل عن الواقع، فإذا تغير الواقع، إذا نطق الحدث فإن على الشعار أن يغير منطقه طبقاً للحدث. والحدث الاستيطاني الذي اغتصب فلسطين لم يتغير، ما تغير هو الوضع العربي المنهار والمتآمر، وضعف المقاومة أي العجز المرحلي عن التحرير، وهذا يعني وجوب العزوف عن التبرع بحلول لعدو يقول بوضوح، فقط بالقوة.
ملاحظة: أشرت لما كتبته د. ملحيس لسبب محدد هو أنني أذكر ربما عام 1995 تحدثت مقابلها في نابلس وبمشاركة السيد امين مقبول أمين سر حركة فتح حينها في نابلس وكانت شديدة الحماسة لأوسلو. كما أنني التقيتها كثيراً في مؤسسة ماس كمديرة للمؤسسة وممثلة للسلطة. فهل بدأ مثقفو الصرخات والدعوات بأكل مثقفين من السلطة؟
* كاتب عربي ــ فلسطين