حين ننظر الى المسألة من زاوية الحاضر، من الممكن المحاججة بوجود تشابهٍ ما بين الخطاب الذي صعد في التسعينيات، في بداية عصر "الإنترنت"، عن "الحرية الإلكترونية" وضرورة فتح المجال الإلكتروني لبلدك ــ من دون حدودٍ أو شروط ــ أمام التكنولوجيا الجديدة، وبين خطاب القرن التاسع عشر عن "حرية التجارة" والحرية الاقتصادية، والذي ترافق مع الاختراق الغربي لأسواق العالم. في الحالتين لدينا مسألة عمليّة، اقتصادية، تنطوي على مصالح وحسابات وخيارات، يتمّ تحويلها الى "قيمة" مطلقة، وتقديمها على شكل ثنائية صارمة: أمّا الانفتاح التّام أو الأميّة التكنولوجية والتخلّف ــ ومن دون عقد أي فصلٍ أو تمييز بين التكنولوجيا نفسها وبين المضمون (والأعمال والأنشطة و"البزنس") الذي يجري عبرها.المسألة أنّ الإنترنت ليست مجرّد "منصّة" لتبادل الأفكار والمعلومات والآراء، بل هي تمثّل اقتصاداً، كأي صناعة، يساوي مئات مليارات الدولارات في بلادٍ بحجم أميركا والصّين، وقطاعاً ضخماً للشركات والتكنولوجيا والتجارة، والخيار هو بين أن تكون هذه القطاعات محلية، تنتج وتوظّف الناس وتخلق القيمة داخل بلادك، وبين أن تسلّمها الى "مايكروسوفت" و"أمازون" تحت شعار "حرية المعلومات" (تقول "فانيتي فاير" إنّ "وادي السيليكون"، الذي تقلّ مساحته عن 130 كيلومتراً مربّعاً، قد أنتج واجتذب ثرواتٍ أكثر من أي بقعة جغرافية أخرى في التاريخ البشري). لهذا السّبب، نجد أنفسنا اليوم زبائن جماعيين لشركة مثل "فايسبوك"، ننتج لها الأرباح، وتحصّل أموال الإعلانات بفضلنا، وتأخذ من حصّة الإعلام المحلّي (وعملتها الأساسية هي خصوصيّتنا ومعلوماتنا الشخصية)؛ بينما مقرّ الشّركة وأموالها وموظّفوها في أميركا، وتدفع الضرائب على أرباحها ومعاملاتها للحكومة الأميركية: هذا، تحديداً، هو السيناريو الذي رفضت حكومة الصين، منذ أوائل التسعينيات، أن تراه يتحقق على أرضها.
كما في حالة التجارة الحرّة منذ قرنين، فإنّ منظومة "الإنترنت" العالمية، على عكس ما تدّعيه، ليست مفتوحةً حقّاً ولا عادلة بالكامل. من جهة، الدولة الأميركية وأجهزتها تقدر على "رؤية" كلّ ما يجري على الشّبكة تقريباً ومراقبته، فيما لا يملك الباقون هذه القدرة. والمواقع التي تعادي الولايات المتّحدة وتُخالف قوانينها تغلق بشكلٍ فوريّ، فيما منظّمات عسكرية تعادي حكومة روسيا والصين، مثلاً، لها مواقع رسمية لا يتدخّل بها أحد. من شبه المستحيل، اليوم، أن تكون قرصاناً يتحدّى الحكومة أو أن تستضيف موقعاً غير قانوني (سواء كان يبيع الممنوعات أو يوزّع الكتب والمعرفة والأفلام بالمجّان) وأنت تقطن على الأراضي الأميركية، إذ سيتمّ اصطيادك واعتقالك لا محالة. حين تقوم دولٌ كالصين وروسيا وإيران بمحاولة بناء "إنترنت وطنية"، فهذا ليس للتحكم بالمعلومات ومواقع الأخبار، بل ــ أساساً ــ لإيجاد شبكة تجري عليها معاملاتك المصرفية، ومراسلاتك الحكومية، وتخزّن عليها أسرارك وتصاميمك، من دون أن تمرّ هذه المعلومات عبر خوادم في أميركا، تقع تحت تصرّف "لانغلي" أو تقدر حكومة أجنبية على شلّها في أي وقت.
من جهةٍ ثانية، فإنّ طبيعة سوق الإنترنت تعطي أفضلية هائلة للشركات التي تحظى بامتياز "الدخول الأول"، وتميل لخلق الاحتكارات. فلنأخذ "أمازون" مثالاً؛ بحسب تقريرٍ طويل لـ"بلومبرغ"، فإن "أمازون" تتحوّل الى ما يشبه "والمارت" احتكارية على مستوى البيع الإلكتروني: كلّ من في أميركا، تقريباً، يشتري على "أمازون"، التي يستقبل موقعها أكثر من 240 مليون زائر شهرياً. كانت عائدات الشركة 34 مليار دولار عام 2010، ففاقت الـ 107 مليارات السنة الماضية. وخدمة "أمازون" التفضيلية، التي تمنح المشتركين شحناً مجانياً ــ وخلال يومين ــ لمشترياتهم مقابل رسم سنوي قدره مئة دولار، عليها أكثر من 63 مليون مشترك! فهم جيف بيزوس مبكراً أنّ نقطة الضعف الوحيدة للبيع الإلكتروني، مقارنة بالمتاجر "الحقيقية"، تكمن في كلفة الشحن وسرعته، فاستثمر مليارات الدولارات في نظامٍ لوجستي لا مثيل له، وتقنيات وبرامج، تتيح تحريك ملايين الطرود يومياً بسرعة فائقة وبكلفة ضئيلة. في بدايات الشركة، كانت "مراكز الفرز" الهائلة، كالتي أقامها بيزوس في مطار ليوزفيل وموقعين آخرين، أعجوبةً هندسية وتقنية؛ ولكن "بلومبرغ" تقول إن "أمازون" بنت الى الآن ما يقارب الثلاثين من هذه المراكز. ليس في وسع أيّ رجل أعمال أن يفتتح موقعاً إلكترونياً وأن يبيع عليه، ببساطة، لأنه لن يتمكّن من منافسة "أمازون" في السعر، ولا هو يملك البنية التحتية التي أسستها الشركة على مدى سنوات وبكلفة خيالية.
حين دخلت الإنترنت الى الصّين، انتقدت غالبية المطبوعات الغربية سياسات الحكومة في تقنين المجال الإلكتروني الصيني، فلا تسمح لـ"ياهو"، ثمّ "غوغل" و"فايسبوك" وأمثالها، من الدخول بحرية الى البلد وتقديم خدمات البريد والتواصل وغيرها. ولكن النتيجة لم تكن "عزل" الصين أو تخلّفها التّقني، بل تمّ تحفيز شركات معلوماتية محليّة لتقديم هذه الخدمات هي الآن من الأكبر في العالم، وقطاعٌ رئيسي في الاقتصاد الصيني كان يمكن أن يذهب بأكمله لشركات غربية لو أنّها أسست نفسها في البلد خلال التسعينيات. الأمر هنا لا يقتصر على "علي بابا" (نظير "أمازون" في آسيا)، فهناك أيضاً بديلٌ محليّ لـ"غوغل"، وبديلٌ لـ"أوبر"، ونسخات صينية عن أكثر التطبيقات الغربية. بل إنّ هناك أنماطاً خاصّة لاستخدام الإنترنت ولدت في الصّين وخاصّة بها، تحاول الشركات الغربية اليوم تقليدها والتعلّم منها. هناك، مثلاً، ما يسمّيه الغربيّون "السوبر ــ تطبيقات" (Super Apps)، منها تطبيقٌ ــ اسمه "ويتشات" ــ يشبه "فايسبوك"، ولكنه أيضاً يحتوي على ما يشبه "أنستغرام"، وخدمة رسائل، وخدمات للأخبار والألعاب والتّسلية؛ كما أنّ في وسعك استخدام حسابك فيه لحجز عشاءٍ في مطعم، أو شراء تذكرة طيران، أو دفع فاتورة، أو طلب طعامٍ الى المنزل ــ فالمعلومات عن شخصك وعنوانك وحسابك المصرفي كلّها متضمنة في التطبيق. الفائدة العملية الكبرى لمثل هذه التطبيقات تجعل من المستحيل على "فايسبوك" أن ينافسها، كما أن مرور مليارات الدولارات عبرها في تعاملات مالية يجعلها أكثر ربحية من شركة زوكربرغ بكثير.
في الصّين اليوم قطاع إنترنت صلب وتنافسيّ. حاولت شركة "أوبر" العالمية، مثلاً، دخول السوق الصيني واستثمرت المليارات في هذا السبيل، ولكنّها وجدت منافسة قاسية في شكل بدائل محلية أكفأ وأرخص وأكثر معرفةً بالمجتمع، فخسرت "أوبر" على مدى سنوات جبالاً من المال قبل أن تستسلم، أخيراً، وتبيع وحدتها الصينية الى منافسها المحلّي. أمّا دول العالم الثالث التي انفتحت على الإنترنت بلا شروط، ولم تتدخّل فيها إلّا لحجب مواد السياسة والجنس، فهي السوق الأساسية اليوم أمام شركاتٍ كـ"فايسبوك" و"غوغل"؛ تحقق فيها أرباحاً مضمونة ولا تخشى منافسةً أو بدائل (والحال ليست كذلك في الصين وروسيا والهند).
ليس غريباً أن يركّز مالك "فايسبوك"، وأقرانه في "وادي السيليكون"، على فقراء أفريقيا ومن لا يملك اتصالاً بالشبكة باعتبارهم "زبائن المستقبل" ــ ويحاولون الوصول إليهم أوّلاً. هذا كان الهدف من مشروع "فايسبوك" الفضائي، الذي انهار مع انفجار قمر "عاموس - 6" الأسبوع الماضي: تقديم خدمات إنترنت مجانية، أو شبه مجانية، لقاطني الريف الأفريقي، مقابل التحكّم باتصالهم بالإنترنت، وإعطاء خدمات "فايسبوك" الأولوية لديهم (وانتهاك مبدأ "حيادية الإنترنت"، بالطبع). الحاجز بين اقتصاد الإنترنت والاقتصاد "الحقيقي" لم يعد موجوداً كالسابق، ومن يتحكّم بخدمات البريد والتواصل الاجتماعي اليوم يتحكّم بسوق البيع غداً. مصيرنا المحتّم، إن لم نتعلّم من تجارب غيرنا، هو أن نحصل على الإنترنت بعد سنوات، كما يريد لنا "فايسبوك"، عبر شركة غربية مهيمنة، وبواسطة قمرٍ عسكريٍّ إسرائيلي.