في عام 1980، عندما طرحت المعارضة السورية بشقيها الإسلامي والديموقراطي برنامجيها، كان ذلك بدلالة «الذات» وليس بدلالة «الآخر». كذلك عندما قام الشق الديموقراطي من المعارضة (التجمع الوطني الديموقراطي) في عام 1989، بتغيير البرنامج من «التغيير» نزولاً إلى «الإصلاح»، فقد كان هذا أيضاً من خلال دلالة «الذات» وممكناتها. لم يعد الأمر كذلك في مرحلة «العهد الجديد» إثر وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، حيث بدأ نهجٌ، مازال يسود أغلب المعارضة السورية (الظاهرة الاجتماعية تصبح ظاهرة عندما تأخذ أكثر من النصف من الحالة الاجتماعية المعنية)، يتمّ فيه بناء السياسة بدلالة «الآخر»، لتتحرّك الذات وتبني تصوراتها وبرنامجها من خلاله. أول ما بدأ هذا عند «التجمع الوطني الديمقراطي» ــ ما عدا رياض الترك ــ وعند «جماعة الإخوان المسلمين» و«لجان إحياء المجتمع المدني» لمّا بنوا سياستهم على أساس «وجود تيار إصلاحي في القصر الرئاسي ضد التيار المحافظ الموجود عند الحرس القديم».وحين خاب رجاؤهم من «الآخر» ضمن السلطة السورية، اتجه معظم هؤلاء ــ ما عدا «حزب الاتحاد الاشتراكي» والمعارضون في «الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي» ــ إلى «نهج الاستعانة بالخارج»، وبناء السياسة بدلالة «الآخر» (رأوه عند الأميركي المحتل لبغداد في 9 نيسان 2003)، للاستعانة به لإحداث تغيير داخلي سوري على غرار ما فعلت المعارضة العراقية ضد صدام حسين، بسيناريو عسكري أم بغيره. كان الملفت سقوط رياض الترك في نزعة بناء السياسة بدلالة «الآخر الأميركي» وتزعّمه لهذه النزعة السورية الجديدة.
كان تكوين «إعلان دمشق» (16 تشرين أول 2005) في هذا الاتجاه، نتيجة اجتماع النزعتين المذكورتين وتسيّدهما في صفوف المعارضة السورية، التي تشجّعت بعد ما جرى في بغداد (9 نيسان 2003) وبيروت (14 آذار 2005). عندما خاب رجاء هؤلاء في تكرار التجربتين البغدادية والبيروتية في دمشق بحكم الاتجاه الأميركي إلى «تغيير سياسات النظام السوري وليس تغييره»، استمروا على تلك النزعتين، وهو ما ظهر في بيان «الأمانة العامة لإعلان دمشق» (5 أيلول 2008) بخصوص زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى دمشق، وفي مقابلة رياض الترك مع وكالة «رويترز» (31 أيار 2009)، حين ظهرت مراهنات على أن انفتاح ساركوزي ونظيره الأميركي باراك أوباما على السلطة السورية ستكون له انعكاسات إيجابية على الداخل السوري من حيث تخفيف القمع عند السلطة.
بعد فاصل قصير، استمر بين ما حصل في درعا يوم 18 آذار 2011 وبين أيلول 2011، كان هناك عودة إلى بناء السياسة عند كل المعارضين السوريين بدلالة «الذات» الذي رأوه في «الحراك» وفي البعد عن «الاستعانة بالخارج» بحكم قوة الداخل المتحرك في الشارع ضد السلطة، وبعد فشل ذلك الحراك الداخلي في إحداث تغيير داخلي ــ كما حصل في تونس (14 كانون الثاني 2011 والقاهرة 11 شباط 2011) ــ رأينا عودة قوية عند أغلب المعارضين، ما عدا «هيئة التنسيق الوطنية»، نحو بناء السياسة بدلالة «الآخر» ونحو «نزعة الاستعانة بالخارج»، وقد كانتا نزعة واحدة بحكم أن هذا «الآخر» كان هو «الخارج الأميركي ــ التركي».
يواصل «حزب الاتحاد الديموقراطي» سعيه لتحقيق مشروعه الكرديّ الخاص

منذ خريف 2011، أُضيفت نزعة جديدة إلى المعارضة السورية وهي عدم قراءة ميزان القوى كأساس في بناء السياسة، بوصف الأخيرة «عملية إدارة للممكنات». وقد ساعد اجتماع «الرهان على الخارج» مع «العنف المعارض المنظمّ البادئ في خريف 2011» على طغيان «نزعة إرادوية» على «نزعة إدارة الممكنات». وكان دخول المنشقّين عن المؤسسة العسكرية ــ وهم الجدد على العمل السياسي ــ و«معارضي ربع الساعة الأخير» وخاصة من المثقفين والإعلاميين و«المنشقين المدنيين عن النظام من أصحاب المناصب السابقة» ــ الذين يستخدمون التطرف المعارض لنظامهم السابق كغسّالة لغسل أوساخهم الماضية ــ بمثابة عوامل إضافية ساعدت على هزيمة «نزعة إدارة الممكنات» في المعارضة السورية. يضاف إلى هذا، ارتباط معارضين سوريين كثر بدول كبرى أو إقليمية رأت أن نشوب النزاع السوري يخدم أجنداتها الخاصة ــ كل تلك الدول كانت قريبة من السلطة السورية (تركيا 2004، قطر 2006، فرنسا 2008، الولايات المتحدة 2009) ــ ما جعلهم منساقين وراء لعبة أكبر منهم، تمنعهم من الرؤية أو لا تسمح لهم بالتعبير عن ما يروه إن كان مخالفاً لإرادة مشغليهم. كان هناك عامل إضافي ساعد على عدم القبض على الوقائع وانكفاء «نزعة إدارة الممكنات»، وهو وجود رؤوس في المعارضة هي بعيدة زمنياً لعقود عن التربة السورية، ما جعلها خارج الوقائع أو لا تستطيع مسكها معرفيّاً.
كل العوامل المذكورة، قادت المعارضين إلى غربة عن الوقائع الداخلية والخارجية، فهم لم يدركوا، ما عدا «هيئة التنسيق»، أن تشكل الحلف الأميركي ــ الأوروبي ــ التركي ــ الخليجي في «الصراع على سوريا وفي سوريا» منذ خريف 2011، قد أدى إلى تشكل استعصاء سوري ناتج عن تشكل حلف مضاد روسي ــ إيراني، أُضيف إلى الاستعصاء الداخلي المتشكل بحكم وجود انقسام الداخل السوري إلى أثلاث متساوية: موالاة ــ معارضة ــ تردد، منذ أحداث درعا 18 آذار 2011، وهو ما منع تكرار تجربة الرئيس المصري حسني مبارك في دمشق خلال ربيع وصيف 2011. كذلك، لم يدركوا عبر موسكو (7 أيار 2013) يومَ اتّفق وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف حول الأزمة السورية، بأنّ هناك انعطافة كبرى بحكم تلزيم المسألة إلى موسكو من قبل واشنطن، بكل ما يعنيه ذلك من انتهاء التلزيم الأميركي لتركيا منذ خريف 2011، وأن هذا يعني أن مضمرات «بيان جنيف 1» (30 حزيران 2012) ستكون لصالح بقاء الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية وليس رحيله. تأكّد هذا الاتجاه الأميركي ــ الروسي في الاتفاق حول تسليم الأسلحة الكيميائية السورية، بين كيري ولافروف (14 أيلول 2013) وكان من متضمنّاته الكبرى، التي ضمّنت بعد ثلاثة عشر يوماً في القرار الدولي رقم 2118، الذي بُني على ذلك الاتفاق وجعل «بيان جنيف1» ضمن متضمنات قرارات الأمم المتحدة.
عندما انعقد مؤتمر «جنيف 2» (2014) ــ وفقاً للقرار 2118 ــ كان من الواضح أن مندوبي «الائتلاف الوطني» مثل من يذهب إلى الحج في مكة في شهر صفر وليس في ذي الحجة. وفي مؤتمر «جنيف 3» (2016) أصبحوا ــ ومعهم العسكريون والمنشقون المدنيون ومنهم رئيس وزراء سابق للنظام (رياض حجاب) ــ واعين ومدركين لذلك الاتجاه الأميركي ــ الروسي، ولكنهم يحاولون عرقلته عبر إفشال المفاوضات ثم عبر «عملية الراموسة» في تموز وآب 2016، التي تهدف ــ عبر فرض وقائع عسكرية مضادة جديدة واقية ــ إلى إفشال «جنيف 3» أو منع حلول مفروضة من موسكو وواشنطن، شبيهة بما جرى في «اتفاق دايتون» الخاص بالبوسنة عام 1995.
في السياسة هناك أربع نماذج للسياسيين، الأول: يملك الحدس لاتجاه الرياح السياسية القادمة، والثاني: يدرك الوقائع السياسية أثناء وقوعها، والثالث: يدرك الوقائع السياسية بعد وقوعها، أما الرابع: لا يدرك الوقائع السياسية حتى بعد وقوعها وجريانها في مجراها. أحسن الموجودين في «الائتلاف» وفي «منشقي النظام السوري» هم من الزمرة الثالثة، والغالبية العظمى من الزمرة الرابعة، بينما ليس هناك أحد على الأرجح، سوى رياض الترك، من الزمرة الثانية، وربما هو من الأولى ولكن تمنعه «نزعته الثأرية من السلطة السورية بسبب السجن» من التسليم أمام قوة الوقائع وبناء السياسة بوصفها «إدارة للممكنات». مثال رياض الترك، يدلّ على مرض مستشرٍ عند المعارضين السوريين يقارب السرطان، حيث تقودهم «النزعة الثأرية» المستشرية عند غالبية السجناء المعارضين وعند منشقي النظام وعند الكثير من المتألمين من مظالم السلطة السورية، إلى نزعة بناء السياسة عبر «التعاكس مع النظام»، فهم عند كل نقطة نقاش يقولون «هذا يفيد النظام» أو«هذا يقوله النظام». هم ليسوا معارضين للنظام بل متعاكسين معه، وهم هنا بشكل أو بآخر يبنون السياسة بدلالة «الآخر» ولكن عبر التعاكس معه، غير مدركين أنهم يتوجّهون وفق سيره عبر «بوصلة مقلوبة»، وهو ما يجعل النظام السوري بمثابة «المرشد التعاكسي لهم».
هذا الاتجاه موجود أيضاً عند موالين حاليين للنظام، وعند معارضين سابقين للنظام أصبحوا موالين أو قريبين منه في مرحلة ما بعد درعا 18 آذار 2011، عندما يقودهم «الرهاب من الإسلاميين» إلى بناء السياسة عبر الاقتراب والتحالف مع كل من يتواجه مع الإسلاميين وبغض النظر عن موقع هذا المتجابه. ويمكن أن يقودنا الحديث عن إدراك اتجاه الرياح السياسية إلى مثلين: «حزب الاتحاد الديموقراطي»(pyd) الذي أدرك بعد القرار «2170» (15 آب 2014) بأن التركيز الأميركي في سوريا وعراق ما بعد «موصل 10 حزيران 2014» قد أصبح على «داعش»، لذلك أراد الصعود عبر هذا «الأسنسور»، وهو ما نجح في ذلك عبر «طوابق» عين العرب وتل أبيض ومنبج، متجهاً لتحقيق مشروعه الكرديّ الخاص بوصل الشريط الممتد من المالكية إلى عفرين، إما من أجل كيان منفصل أومن أجل جعل القامشلي مقابل دمشق بمثل وضعية أربيل مقابل بغداد ما بعد 9 نيسان 2003.
مقابل هذا الذكاء الكردي توجد حالة معاكسة، ففي هدنة 27 شباط 2016، منعت موسكو سقوط شرق حلب من أيدي المعارضة المسلحة لصالح السلطة وحلفائها، وهو ما كانت تقوله الوقائع العسكرية. وكان طلب موسكو هو أن تقوم المعارضة المسلحة الموجودة في «الهيئة العليا للمفاوضات» بفك ارتباطها مع «جبهة النصرة»، وبدلاً من القيام بذلك، بدؤوا في آذار هجوماً مشتركاً مع «النصرة» جنوب حلب، في أول خرق نوعي لاتفاق الهدنة. ولمّا عيل صبر موسكو من ذلك، قامت بدعم قواتها الجوية بقطع طريق الكاستيلو يوم 17 تموز، مستغلّة تداعيات محاولة الانقلاب التركي والاتفاق الأميركي ــ الروسي قبل يومين. وعوضاً عن فهم التصرف الروسي قامت المعارضة المسلّحة بالاصطفاف وراء زعيم «النصرة» ــ بعد تغيير قميصه من دون جسمه ــ وهاجموا الراموسة في عملية جعلت كل المعارضين العسكريين الموجودين في «الهيئة العليا للمفاوضات» ضمن كيان عسكري واحد مع «النصرة» تحت اسم «جيش الفتح»، وجعلت أبو محمد الجولاني (زعيم النصرة) في وضعية «أقوى شخصية معارضة سورية عسكرية»، في وقت ما زالت مفاعيل القرار 2170، الذي يضع «النصرة» و«داعش» ضمن لائحة الإرهاب الدولية، قائمة وهو ما أكد عليه اتفاق موسكو (5 تموز 2016) بين كيري ولافروف.
* كاتب سوري