جغرافيا الدولة العربية بين واشنطن و«داعش»
هجوم تنظيم «داعش» في السابع عشر من شهر أيار/ مايو، هو الأكبر منذ استيلائه على مدينة الموصل في شمال العراق، ووصوله إلى مشارف بغداد، في العاشر من حزيران/ يونيو 2014.
الهجوم شمل مدينة تدمر في سوريا والرمادي والبغدادي وبيجي وحديثة وعلى أطراف تكريت في العراق، هذا بالتزامن مع معارك في محيط الموصل ضد أكراد العراق وفي الحسكة ضد أكراد سوريا. وهو هجوم باتساعه وسرعته، قد تعجز عن تنفيذه دول كبرى.
بسيطرة «داعش» على الرمادي وتدمر، إلى جانب تبنيه التفجير الانتحاري في أحد مساجد القطيف السعودية، مضافاً إلى ردود الفعل الأميركية والغربية والإقليمية الغاضبة، والمتفاجئة بحركته السريعة والمتنوعة على عدد كبير من الجبهات، توحي بأن التنظيم خرج، حقيقة وواقعاً، عن السيطرة.

التطور الأخير، بتعقيداته، وبما حمله من مفاجآت وتداعيات، يفرض إعادة تقييم قوة هذا التنظيم، وإصراره وبراعته في التخطيط والتحرك بخطوات سريعة واضحة ومدروسة بدقة.
«داعش» يعمل ويخطط ويتصرف على أساس أنّ العالم الإسلامي كله ساحة واحدة، ويضع لمعركته فيها استراتيجية واحدة واضحة مترابطة متناغمة، تديرها قيادة مركزية واحدة. وهو يستغل بمهارة خزاناً بشرياً يمتد على حزام الأرض، ولا يبدو قابلاً للنضوب أو حتى الشح.
«داعش» يعمل ويخطط
ويتصرف على أساس أنّ العالم الإسلامي كله ساحة واحدة

أبرز معالم استراتيجية «داعش»، بعيداً عن القتل والذبح والتدمير الهمجي، هو إلغاء الحدود القائمة في المنطقة، وتجاوزها، واحتقار هواجس التقسيم والسيادة والاستقلال. الحدود بالنسبة لهذا التنظيم و«أخواته»، هي خنادق الجبهات وخطوط التماس مع أعدائه وأخصامه، وتزول بهزيمتهم وزوالهم، من العراق الى نيجيريا، مروراً بليبيا وسيناء واليمن وانتهاءً بسوريا، وأي بقعة له فيها مبايع واحد. وهو في اسقاطه الحدود في المنطقة والعمل على إزالتها، يتقاطع مع الأميركيين وحلفائهم، ولكن من خلال رؤية مختلفة.
ففيما يتوسع «داعش» في الجغرافيا «لتوحيدها» وإخضاعها لسلطته السياسية والدينية، يعمل الأميركي على تمهيد الأرضية لإعادة فك وتركيب الجغرافيا والديموغرافيا معاً، ورسم حدود جديدة تناسب شكل الكيانات التي يرمي إلى بنائها تأسيساً لمرحلة استعمارية جديدة. وهي مرحلة لا مكان فيها لـ«الدولة الوطنية» كما عرفناها، وكما فرضها الأميركي في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، على الأوروبي المستعمِر وعلى شعوب المنطقة، وحملت في تكوينها استعماراً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، بعد استبعاد العامل العسكري.
الأميركي لا يسعى فقط إلى إسقاط «الدولة الوطنية» التي بناها هو في بلادنا، بل يسعى إلى القضاء على أي محاولة لبناء دولة حقيقية ومستقلة (الحرب على أنصار الله في اليمن مثالاً)، والهدف الأساس هو السعي إلى تأسيس كيانات على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية (ليبيا والسودان والعراق مثالاً). في سياق مواز، تعتمد أنظمة الدول العربية، الحليفة لواشنطن والغرب، وخصوصاً الخليجية منها، استراتيجية «اللااستراتيجية» وتقتصر على ثلاثة أهداف:
1ـ الدفاع عن الأنظمة والحفاظ على صيغة الدولة الحالية، القائمة على الفرد الزعيم، أو الطغمة العسكرية، أو العائلة المالكة، حيث تكون وظيفة المؤسسات فيها خدمة الحاكم، والدفاع عنه، وضمان بقائه.
2ـ صناعة أبطال من داخل بنية النظام ونسيجه، وتحويلهم إلى نماذج جاذبة للجمهور، خصوصاً الشباب، في مقابل جاذبية «داعش» ومقاتليه، ورمزية بن لادن وقادة المجموعات الإرهابية. وهذه كانت أحد أهم دوافع وأسباب وصول محمد بن نايف ومحمد بن سلمان الى قمة هرم السلطة في السعودية، وكان تعزيز صورة هذه «البطولة» من بين الأهداف المضمرة لعاصفة الحزم.
3ــ اختراع عدو جديد تسمح مواجهته لهذه الأنظمة بتوسيع دائرة خضوعها للهيمنة الأميركية تحت غطاء «التحالف»، كما تساعدها في تضييق هامش العداء المفترض مع الكيان الصهيوني، من دون حرج من أي نوع. وفي هذا الإطار يأتي تسويق إيران «عدواً أكثر خطورة من إسرائيل»، بأدوات التحريض المذهبي، وتحت شعار الدفاع عن الأمن القومي العربي «الذي تهدده إيران بمشروعها التوسعي في المنطقة، وطموحها النووي».
المفارقة العجيبة هنا، هي أن هذه الدول، وبحجة حماية أمنها القومي من «الخطر الإيراني وتدخل طهران في شؤونها الداخلية»، تستدعي الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة للدفاع عنها، وملء الفراغ الأمني بقوته العسكرية، ومحاولة تأسيس حلف عسكري تحت قيادة واشنطن ومظلتها.
الاستراتيجية الأميركية تتقاطع مع الحاجات الوجودية والأمنية لأنظمة الخليج، في مواجهة معسكر المقاومة، عند نقطة دعم «داعش» والجماعات التكفيرية الإرهابية، وهذه تحظى بدعم سياسي غير مباشر، بالتوازي مع دعم مباشر بالسلاح، وبتوفير قنوات آمنة لمرور الدعم المالي، وتجنيد المسلحين وتسهيل تدفقهم الى مناطق سيطرة داعش والجماعات الإرهابية، بل وتدريبهم أحياناً.
وفيما يستفيد «داعش» من «تقديمات» خصمه الغربي وحلفائه العرب، لتحقيق مزيد من التوسع في العدة والعديد والتمدد على الأرض، يقدم الأميركي دعمه على شكل جرعات محسوبة، تسمح بإطالة أمد المواجهة بين «داعش» والجماعات الإرهابية وبين معسكر المقاومة، وتسعيرها، بهدف استنزاف الجانبين وإنهاكهما، للتخلص منهما، أو إجبارهما في نهاية المطاف على اللجوء إليه بحثاً عن حلول وتسويات في ظل الاستراتيجية الأميركية، وعن مواقع على الخريطة الجديدة التي يعاد رسم حدودها الجغرافية والديموغرافية، بما يتلاءم مع التوازنات والترتيبات الأمنية الإقليمية الجديدة التي يسعى الأميركي الى فرضها لتعزيز هيمنته ولجم الأخطار المحتملة.
والحال هذه... أين معسكر المقاومة من كل ذلك؟ ما هي استراتيجيته في المواجهة؟ بل السؤال الأساس هو: هل يملك هذا المعسكر استراتيجية واضحة متكاملة موحدة الأذرع؟

استراتيجية المقاومة... القيادة المقاتلة

إذا وُضِعَت جانباً دعوات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، لفتح الساحات والتواجد والقتال حيث يجب التواجد والقتال، وإذا تم التغاضي عن قراءته للوقائع التي تشهدها المنطقة، وعن الجهد الإيراني المبذول، فلا يمكن ملاحظة، أي ملامح لما يمكن وصفه باستراتيجية مواجهة متكاملة.
معسكر المقاومة في حالة دفاع عن النفس، وتقتصر خططه، في أحسن الأحوال، على إفشال مخططات الأعداء في منطقتنا، وفي أسوئها على منعهم من تحويلنا الى ضحايا. وهو يقوم بهذه المهمة وهذا الدور ببراعة وذكاء وصبر لا مثيل له.
لكن المهمة، على خطورتها وحيويتها وصعوبتها، تنفذ عبر عمليات موضعية، ناجحة، ولكنها خاضعة في معظم الأحيان لرد الفعل، ونادراً ما تكون مترابطة ومتسقة في سلسلة خطط عسكرية وسياسية بعيدة المدى، واضحة في سياقها وأهدافها النهائية.
لا بد أولاً من البحث عن وجود مادي لدعوة السيد نصر الله لفتح الساحات، وهي دعوة تقتضي إزالة الحدود الجغرافية والسياسية والنفسية وتوحيد الآلة الإعلامية.
فهل يمكننا ملاحظة ذلك في العلاقة بين الحكومتين السورية والعراقية، مثلاً؟ أليس صعباً تذكر آخر زيارة قام بها مسؤول عراقي الى سوريا، أو العكس؟ هل سمع أحد عن غارة سورية على هدف إرهابي في العراق، أو العكس؟ تكاد العلاقة بين بغداد ودمشق تقتصر على التعاون الخجول، وهو أدنى، بما لا يقاس، من مستوى التنسيق بين أي من العاصمتين مع واشنطن أو باريس أو حتى أنقرة. هل لاحظ أحد، ولو ملامح حملة سياسية أو إعلامية، منسقة لهذا المعسكر مجتمعاً؟
أين هذا المعسكر من إزالة الحدود وتحطيم المعابر وتفكيك الدول، في الاستراتيجيتين الأميركية والداعشية؟ هل قررت قوى الممانعة لعب دور المحامي عن التركة الأميركية، وعلى هياكل دول لم يعد لها وجود؟! لماذا يصر بعض معسكر المقاومة على الدفاع عن الحدود، وتقديس «الدولة الوطنية» التي أسس لها وبناها الغرب في بلادنا؟ وهل ستبقى قضيته مع «المعارضات» ومع حلفائها الغربيين والإقليميين، هي شكل الحكم وطبيعته وكيفية التناوب على سلطة وهمية، وتقاسم حصص سياسية معلبة سلفاً في «عواصم القرار»؟
ألا ينبغي أن يخوض معسكر المقاومة المواجهة، على أساس أن استراتيجية واشنطن وحلفائها الغربيين، هي تفكيك دول المنطقة وإعادة تركيبها من جديد في كيانات أصغر حجماً وأكثر تخلفاً وبدائية، وأن «معركتها» مع داعش هو التكتيك، وتواجهه فقط، عندما يفيض عما هو مسموح، وأربيل مثالاً، أو تردعه لمنعه من تسريب الأزمة الى الجوار الحليف، والسعودية والأردن مثالاً.
وبما أن الجميع، تقريباً، يدرك أن الولايات المتحدة لن تتدخل في المنطقة بجنودها، ولن تخوض حرباً بلحمها الحي، على الأقل في المدى المنظور، وهي في استراتيجيتها الجديدة القديمة، تعتمد في حروبها ومعاركها على ميليشيات محلية عميلة، أو مغيبة أو مستفيدة. ما الذي يمنع قوى الممانعة من تحالف فعلي لا مناسباتي، مع قوى وطنية وتحررية على أرض المعسكر الآخر لمواجهته؟ تركيا تتقدم في سوريا والعراق متكئة على التوازنات القائمة في المنطقة، فما الذي يمنع معسكر المقاومة من الإتكاء على قوى محلية في داخل تركيا؟ لماذا يسمح للسعودية شراء ولاء القبائل والجماعات و«النخب» في كل دول المنطقة، ولا يستخدم السلاح نفسه ضدها، وفي السعودية نفسها؟
هل هناك من يستطيع إحصاء عدد المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات العلنية والسرية الجامعة، وغرف العمليات الموحدة لدى الحلف الأميركي؟ وفي المقابل، فإن قارئ صحف عادياً، يعلم أنه لم يعقد، حتى الآن، لقاء جمع كل أطراف قوى المقاومة، على الأقل في العلن.
هل بمقدور أحد تحديد عدد الجمعيات «المدنية» والحقوقية» و«الإنسانية» و«الخيرية» التي يستخدمها الحلف الأميركي في بلادنا؟ في المقابل، يصعب العثور في معسكر المقاومة على جمعية جدية وناشطة وفاعلة، أو حتى غير طفيلية.ألا نلاحظ أن الهجمات الإعلامية المعادية، قوية وكبيرة ومعقدة ومنسقة ومتناغمة، بحيث أنها قادرة على التشويش بفعالية على أي انتصار للمقاومة، مهما كان كبيراً ومدوياً، بل تنجح أحياناً في تحويله إلى هباء؟ فيما التوصيف الأنسب لإعلام المقاومة، في أغلبيته، هو العجز الفاضح.
المعركة كلها تدور على أرضنا، هم يتقدمون على أرضنا ويتراجعون منها عليها. ونحن ما زلنا ندير مناطقنا و«دولنا» بما أملاه علينا الأميركي قبل عقود، وبالأدوات التي فرضها، في صيغة «دولة وطنية» وفرض علينا إطاراتها وشكلها وطبيعة مؤسساتها وماهية الحقوق والواجبات فيها، وهي دولة لم تعد موجودة، ولم تعد تصلح وعاءً لأي اجتماع إنساني أو حتى سياسي.
أما «داعش» فهو أشبه ما يكون بالبكتيريا التي تتكاثر وتنتشر وتضرب حيث التعفن، وجل ما يستطيعه هذا التنظيم في المناطق التي يحتلها هو ملء الفراغ الذي يخلفه انهيار الدولة، فضلاً عن أن السلفية التكفيرية عقيدة قادرة على تجميع البسطاء والمجرمين والمستفيدين وإثارة الغرائز، ولكنها أعجز من أن تبني دولة، أو حتى إدارة.
وهنا بالضبط فرصة معسكر المقاومة، فإلى جانب الانشغال في الدفاع عن النفس وعن أرواح الناس، ينبغي الالتفات أيضاً الى الدفاع عن الوجود وعن الحياة، وتقديم بدائل آنية واستراتيجية مقنعة.
لا بد من توحيد القيادة والاستراتيجية والساحة، لكي تنجلي الخريطة، فتتضح الأدوار، ويسهل بعدها فهم الحركة المعادية، الوافدة منها والمقيمة.
الأكثر إلحاحاً اليوم، هو تعزيز دور القيادة المقاتلة، وتسليمها أزمة معسكر المقاومة، وتمكينها من إسقاط مشروع الدولة بصيغتها الأميركية الجديدة (دول مذهبية وقبلية وعرقية) الذي يجري فرضه علينا مجدداً، واسقاط الحدود ومفاهيم سيادة الدولة واستقلالية القرار، التي يصر بعض أطراف هذا المعسكر على التمسك بها، وكأنهم يعيشون في غيبوبة، ولا يدركون ان أكثر من نصف بلادهم تحتله عصابات إرهابية واجهزة مخابرات جاءت من جهات الأرض الأربع، بل إن على قوى المقاومة، في الحكم وخارجه، المساهمة في تدمير الدولة التي فرضها الأميركي والغربي.
لا بديل أمام القيادة المقاتلة من توحيد الأذرع في معسكرها، وبعدما أثبتت قدرتها على صنع النصر الميداني، يجدر بها أن تثبت قدرتها على تسويق هذا النصر وتثميره سياسياً.
والقيادة المقاتلة، هي الأقدر على منع أطراف في معسكرها من الإدلاء بتصريح مضطرب في واشنطن، وآخر متناقض في القاهرة، وثالث مختلف في طهران، ورابع لا لون له ولا رائحة بعد كل إخفاق عسكري أو سياسي.
* اعلامي لبناني