عرفت البشرية منذ تكوّن حضاراتها صراعات حدّدت استراتيجيتها وغيّرت في واقعها. أحداث مرّت وأثرت في رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم، فمع الثورة البولشفية في روسيا عام 1917 خرجت المنظومة الاشتراكية إلى العالم لتفتّش عن وجود لها في توازن القوى. وكرّست الحرب العالمية الثانية نظرية صراع القطبين: الاشتراكي من جهة، والليبرالي من جهة أخرى. ومع سقوط نظام الاتحاد السوفياتي عام 1990، سار العالم تحت لواء الفكر الليبرالي ذات المبادئ التي حاولت الولايات المتحدة الأميركية فرضها على العالم من دون استثناء.بعد هذا التاريخ، وفي ظلّ نظام عرف بهيمنة القطب الواحد، حيث لعبت الولايات المتحدة فيه دوراً في قيادة العالم مستندة إلى قوتين، هما:
- اقتصادية، تقودها شركاتها العملاقة، حيث راحت تفتّش عن أسواق لها لفرض سلعها عليها ونهب مواردها، مستغلة بذلك اليد العاملة في الدول النامية، مستعبدة إياها لتحقيق الأرباح. كما عمدت إلى التفلّت الضريبي فحرمت الشعوب النامية حقّها الضريبي، وأغرقت البلاد في الفقر والجهل وزرعت النزاعات الداخلية، وعمّمت الفوضى ونشرت الفساد علّها تتمكن من فرض هيمنتها من دون رقيب. لذلك، فقد سيطرت شركات أميركية وأوروبية ويابانية على مختلف قطاعات الإنتاج العالمية، ما سمح لها بالتحكّم في سياسات الدول الاقتصادية تحت عنوان نشر الليبرالية.
- عسكرية، من خلال نشر قواعد أميركية في مختلف أصقاع الأرض، تتدخل كلما شعرت بخطر دول يهدّد مصالح شركاتها.
إذاً، عمدت الإدارة الأميركية إلى قيادة العالم بطريقة أوتوقراطية، من خلال تدخلاتها في أكثر من منطقة حفاظاً على مصالحها. لذلك أغرقت البشرية في الحروب والقتل وزرعت عبر وسائلها الإعلامية الفكر البرغماتي ــ المادي من خلال ضرب القيم الإنسانية، ونشر المذهب المادي بين البشر، فأصبح العمل هو سيد العلاقات الاجتماعية، والمصالح هي أساس الروابط بين الدول.
أمام هذا الواقع، وبعد تولي الرئيس أوباما مهمات الرئاسة في البيت الأبيض، بدأ الدور الأميركي يشهد انحساراً في أكثر من منطقة، وخصوصاً مع انسحاب القواعد الأميركية من العراق نهاية 2011، ومن أفغانستان عام 2012، وتراجعه عن ضرب النظام السوري عام 2013. فكلها كانت مؤشرات على التغيير في دور الإدارة الأميركية لقضايا العالم، حيث سمح لبعض الدول بتشكيل عقبة حقيقية في وجه المصالح الأميركية في أكثر من منطقة.
صحيح أنّ السياسة الأميركية بقيادة أوباما اتّبعت تكتيكاً جديداً في قيادتها، لكن كان لبعض الدول موقف مغاير، مستنداً إلى مبدأ فرض القوة للوقوف في وجه أطماع الإدارة الأميركية، منها:
- الصين، التي سارت بثبات في مشاريعها لاستغلال ثروات جزر بحرها الجنوبي، ولدفع اقتصادها إلى الأمام، رغم كل الضعوط السياسية والعسكرية الأميركية عليها. وفي هذا السياق، أكد نائب هيئة الأركان المشتركة الصينية سون جيان قو أن قواته على استعداد لضرب كل من يعرض أمنها ومصالحها للخطر.
- كوريا الشمالية، التي أكّدت في أكثر من مرّة أن تجاربها الصاروخية التي أجرتها يوم 19/7/2016 والتجارب السابقة كانت محاكاة لضربات نووية ضد أهداف عسكرية أميركية في كوريا الجنوبية من جهة، ولمنع القيادة الأميركية من الحدّ من طموحات الشعب الكوري الشمالي في تقرير مصيره.
- روسيا، التي يعمل رئيسها فلاديمير بوتين على قلب موازين القوى على الساحة العالمية من خلال التدخّل العسكري المباشر في جورجيا وأوكرانيا وسوريا. وقد أعرب في أكثر من مقابلة عن نية روسيا لفعل أي شيء للمحافظة على وجودها ومصالحها.
- مجموعة البريكس، التي تشكّلت من مجموعة دول شعرت برغبة في الوقوف أمام أطماع الشركات الغربية، والدفع قدماً لدعم الاقتصاد القومي والمحافظة على كيان الدولة ــ المركزية من خطر الضياع في السوق العالمي.
إذاً، في ظلّ هذه التحولات يقف العالم أمام منزلق خطير قد يفتح الطريق أمام حرب كونية ثالثة، وخصوصاً أن القوة المتصارعة على الساحة الدولية تحاول فرض واقع يتناسب مع تطلعاتها ورؤيتها للعالم. هذا ما سيزيد من تسارع الأحداث في أكثر من منطقة في ظلّ التفلّت الواضح للدول من شرعة حقوق الإنسان، وضعف دور هيئة الأمم المتحدة الراعية لحلّ النزاعات في العالم. هذا ما يضع البشرية أمام الإشكالية الآتية: هل سقطت منظومة القطب الواحد؟ أم أنها استراتيجية جديدة تتّبعها الإدارة الأميركية؟
* كاتب لبناني