مرّت الذكرى السابعة والستون لاستشهاد سعاده والمئوية الأولى لمجزرة سايكس ــ بيكو، بصمت. فما خلا بعض الفعاليات الخجولة والبائسة التي جرت، هنا وهناك، في بعض مناطق الوطن ومراكز الانتشار القومي في المغتربات، كادت المناسبتان تصبحان نسياً منسياً في ظل غياب شبه تام للحركة القومية الاجتماعية عن المسرح السياسي القومي. تلك الحركة التي وضعت على عاتقها منذ تأسيسها، في ثلاثينيات القرن الماضي، إبطال مفاعيل تلك المجزرة التي ارتكبتها الدول الغربية الاستعمارية في سوريا، أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي طعنت السيادة السورية القومية في الصميم.من النافل القول إنّ السياسات المرتجلة التي انتهجتها القيادات السياسية للحركة القومية الاجتماعية، بعد غياب مؤسسها، أدّت الى انكفائها، بشكل مريع، وإلى انحسار دورها الإنشائي، فتفرّق أبناؤها شيعاً ومذاهب شتى يهدّد تناحرهم الداخلي (وهو ما نشاهده، اليوم، في أرذل تجلياته) بأوخم العواقب، وينبئ بموتها أو بخمود جمرها، على أقلّ تعديل. ولقد أمدّنا التاريخ بشواهد كثيرة عن موت الحركات القومية، بل عن موت الأمم أيضاً!
وربَّ سائل يسأل: أليس هذا القول مفرطاً في التشاؤم؟ ألا يقصد منه أن القوميين الاجتماعيين قد استنفدوا الوقت اللازم لانتصار حركتهم وقضيتهم؟
الجواب: نعم ولا!
نعم، لأن الفترة الزمنية التي مضت على تأسيس الحركة القومية الاجتماعية كانت كافية لأن تبلغ غايتها وتحقق أهدافها، مقارنة بالفترة الزمنية التي احتاجت إليها الحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين وإعلان دولتها المغتصبة.
ولا، لأن الفرصة، اليوم، لا تزال سانحة، ولكنها قد تكون الأخيرة؛ فإذا تركها القوميون الاجتماعيون، هذه المرة، تفلت من أيديهم، فسيتحوّلون، في عيون مواطنيهم، إلى سُبّة كبيرة، لإساءتهم التصرّف بأثمن قضية عرفتها هذه البلاد في تاريخها كله؛ وسيتحوّل سعاده الى مجرّد مفكّر يدرّس كعالم في تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي، مع أنه لو أراد أن يكون كذلك لأدهش العالم باجتهاداته في حقل الدراسات العلمية والفلسفية والاجتماعية، ولما تكلّف كل هذا العناء وكل هذا الجهد وكل هذه التضحية في سبيل تأسيس الحركة القومية الاجتماعية.
إن سوريا وعالمها العربي يتعرضان، منذ تفاهمات سايكس ــ بيكو الاعتدائية عام 1916، لهجمة غربية (أميركية ــ صهيونية بامتياز) مدعومة، حالياً، بأعراب النفط والتكفير، تستهدف في المقام الأول اجتثاث عوامل القوة والمنعة فيهما فيسهل إخضاعهما وتفتيتهما وتحويلهما الى مجموعة كانتونات طائفية وقبلية وعرقية متناحرة، فاقدة كل شكل من أشكال الروابط القومية الجامعة، كانتونات تسودها «إسرائيل» وتتحكم بمصائرها. هذه السياسات الغربية العدوانية تجد جذورها في ثقافتين اثنتين:
* الأولى هي العلاقات المتوترة التي نشأت قديماً بين أوروبا والعالم العربي، منذ الفتوحات السورية الكنعانية في المتوسط، مروراً بالحروب البونية (الفينيقية ــ الرومانية)، والفتح الاسلامي (السوري ــ العربي) لشبه القارة الإيبيرية، والحروب الصليبية، الى زرع الكيان الصهيوني في فلسطين.
* الثانية هي الثقافة اليهودية ــ المسيحية المرتكزة على ما يُعرف في الأدبيات التوراتيّة بـ«التراث النبوي الإبراهيمي» والتي تنظر إلى اليهودية كمكوّن أساسي من مكونات الثقافة الغربيّة وجزء متمم للتراث الروحي للغرب؛ هذه الثقافة التي تراجعت في العصور الوسطى عادت وأطلّت برأسها في القرنين الأخيرين آخذة في الانتشار بقوة في بعض الدول الغربيّة، وخصوصاً في الأوساط الأميركية، متسللة الى مراكز القرار، محوّلة الشعار المضلل: «العداء للسامية» الى سلاح تشهره، كلّ مرّة، في وجه كل من يعادي «إسرائيل» أو يفضح سياسة القتل والتدمير التي تمارسها ضد شعبنا في فلسطين وخارجها.
وفي ما خلا وقفات العزّ المشرّفة التي يسجلها شعبنا ضدّ الدولة الغازية وضد القوى التكفيرية الظلامية المدعومة من دول الجوار العربي والتركي وقوى الاستكبار العالمي، فإن حالة سوريا (وخلفها العالم العربي) هي أسوأ بكثير من الحالة التي وجدت نفسها فيها بعد اتفاقية سايكس ــ بيكو المجرمة، ووعد بلفور العدواني، ونشوء الحكومات «الاستقلالية» صنيعة الأجنبي. وان ما نشاهده في حالتها الحاضرة:
أولاً: دولاً كيانية (قطرية) غير قادرة على حماية نفسها، اصطنعها الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، فصدّقت نفسها، واهمة، أنها دول مستقلة ذات سيادة، فانعزلت داخل «حدودها» الكيانية المصطنعة، مبتدعة كل «دويلة» لنفسها تاريخاً مستقلاً، كما لو أن كل كيان منها هو أمة تامة، قائمة بنفسها.
ثانياً: أنظمة سياسية، طائفية وعائلية، فصلت ــ على الرغم من شعاراتها القومية ــ بين الهوية القومية الجامعة و«القطرية» الكيانية المتزمتة، وذلك لمصلحة هذه على تلك، فأفرغت الانتماء القومي من مضمونه الوحدوي بتحويله الى مجرد صفة لفظية مفرغة من أي التزام حقيقي؛ مكرّسة النزعة الكيانية (القطرية) في مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، مختلقة أحقاداً وعداوات ومنازعات مذهبية وعنصرية بين مختلف الكيانات السياسية وفي داخل كلّ كيان من هذه الكيانات، مقدّمة ما يسمى «السيادة» الوطنية و«المصالح» الوطنية، أي السيادة والمصالح الكيانية (القطرية) الفئوية الضيقة، على السيادة القومية والمصالح القومية العليا، مبتدعة صداقات وتحالفات خارجية، غير آبهة بالضرر الذي يمكن أن تجرّه هكذا تحالفات على المصير القومي العام، ولطالما استقوى بعضها على بعض، بهذه التحالفات، في غير مرة!
ثالثاً: ان الكيانية (القطرية) التي نجحت، الى حدّ كبير، في تثبيت كيانات التجزئة السياسية وأنظمتها المرتهنة للأجنبي، بحيث أصبح كل كيان «وطناً نهائياً»، في عيون أبنائه، فشلت في تحقيق ازدهار حقيقي وفي توزيع عادل للثروة، كما منيت بهزائم متتالية أمام العدو الصهيوني، وعجزت عن إقامة نظام من المساواة بين مواطنيها، فتحوّل الحكم الى وراثة حقيقية يتوارثه الابن عن أبيه، مصادراً بذلك حق الشعب في اختيار من يراه أهلاً للتعبير عن إرادته وإدارة شؤونه.
وأدّت السياسات الكيانية (القطرية)، من ناحية أخرى، الى تبديد الثروات القومية بشكل مخزٍ كما لو أنها ملك شخصي للحاكم أو حاشيته يتصرفون بها كما يشاؤون من دون أي اعتبار للمصلحة القومية العليا، كما أدّت إلى ارتفاع مخيف في معدلات الفقر لم تشهده سوريا في تاريخها الحديث، وإلى انتشار الأميّة على نطاق واسع، وتقدم مطرد لمشاريع الدول الدينية والعرقية. مشاريع تستفيد من التوجهات الدولية الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتشرعنها «جمعية الأمم المتحدة» والتي تهدف الى فرض «وقائع» جديدة في الدول التي تحتضن، في نسيجها الاجتماعي، خليطاً من الأعراق والعناصر والمذاهب، الأمر الذي يُفضي حكماً الى التدخل الأجنبي في شؤون هذه الدول، وبالتالي الى القضاء على استقلالها وسيادتها، بذريعة حماية «الأقليات» الدينية أو العنصرية من هيمنة «الأكثرية» وطغيانها، وهو ما نشاهده، اليوم، وندفع أثمانه باهظة!
إن ما يميّز سعاده عن جميع الذين اشتغلوا في القضية القومية، في بلادنا وفي العالم العربي، هو أنه، منذ البداية، أرسى مبادئ دعوته على الأساس القومي، فلم تختلط عنده السياسة بالدين، والدين بالاقتصاد أو الاجتماع. ولذلك، عمل باكراً على تحديد مفهوم الأمة والوطن والقومية والدولة، فتعرّف الناس معه، لأول مرة، الى هذه المفاهيم العلمية الاجتماعية العصرية، فلم تعد الأمة تعني الملة الدينية، او مجرّد العرق أو العنصر، بل أصبحت تعني المتحد الاجتماعي الأتمّ الذي هو الوطن القومي الذي تجري فيه وضمنه وفوق ترابه وحدة الحياة التي تتأسس عليها وحدة المصالح ووحدة المصير. وتدعو هذه المبادئ إلى مجموعة إصلاحات جذرية، أهمها:
أ - في الإصلاح السياسي:
مسألة الإصلاح السياسي
باتت ملحّة في مختلف الدول
السورية والعربية

إن مسألة الإصلاح السياسي باتت ملحة في مختلف الدول السورية والعربية بفعل جملة متغيّرات داخلية ودولية متضافرة، وخصوصاً في هذه المرحلة المصيرية التي تواجه فيها الأمة تنين الهجمة الخارجية وتنين الفساد الداخلي. ولكن متطلبات الوضع الراهن، سورياً وعربياً، تتطلب منا، بعد دحر الهجمة التكفيرية المريعة، أن نحددّ أولويات هذا الإصلاح بـ:
1 - وقف الحديث الملتبس عن فروق بين الوطنية والقومية، والتصدّي لمنطق الكيانية الانعزالي، وتقديم المصالح القومية على ما يسمّى «المصالح الوطنية». 2 - توثيق الروابط السياسية والثقافية والاقتصادية بين الكيانات السورية، وبالتالي العربية كافة، وذلك بإلغاء الحواجز السياسية والإدارية والاقتصادية التي تفصل بينها وتثبّت مفاعيل التجزئة. 3 - فصل الدين عن الدولة، وسنّ قانون مدني للأحوال الشخصية يحلّ محلّ القوانين المذهبية المعمول بها حالياً.
ب - في الإصلاح الاقتصادي:
إن الإصلاح السياسي لا يكون إصلاحاً حقيقياً ما لم يثبت على قواعد اقتصادية اجتماعية متينة، منها: 1 - تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج، فالإنتاج هو مقصد رئيسي من مقاصد التفكير في الدولة الحديثة. 2 - إيجاد حالة صناعية تخرج الأمة من حالة الرقّ للنظام الرأسمالي، لأن الأمة التي تبقى في حالة زراعية محضة تبقى حتماً مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعياً تنظيماً عالياً.
عربياً، يوجد تكتلات سياسية واقتصادية عربية قائمة تطابق النظرة العلمية الواقعية إلى العالم العربي التي أرسى قواعدها سعاده، كـ«مجلس التعاون الخليجي» الذي يضمّ إلى عضويته دول الجزيرة العربية وإماراتها، و«اتحاد دول المغرب العربي» في شمال أفريقية.
لذلك، وانطلاقاً من تجربة التكتلات السياسية والاقتصادية على الصعيد العربي، نرى من الضروري جداً تعزيز الاتجاه الراهن ــ على ضعفه ــ لقيام وحدات قومية في الهلال السوري الخصيب، والجزيرة العربية، ووادي النيل، والمغرب العربي الكبير. هذا الاتجاه الذي يمثل انتصاراً للواقعية العلمية والحقائق التاريخية على النزعات الرومانسية التي تحكمت بالفكر السياسي العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، الأمر الذي يحتم إعادة النظر بـ«جامعة الدول العربية» لجهة بنيتها وهيكليتها وتكوينها ووظيفتها وطريقة تمثيل الدول الأعضاء في أمانتها العامة، إعادة نظر تفضي إلى وضع ميثاق جديد للجامعة، ميثاق ينطلق من حقيقة أن العالم العربي الذي يشهد، حوله، قيام تكتلات سياسية واقتصادية من نوع جديد، لا عهد له بها في الماضي، ليس هو، في واقعه، كتلة قومية واحدة كما درجت النظرة الرومانسية إليه، بل مجموعة تكتلات قومية تحكمها وقائع البيئات الجغرافية المتنوعة ودورة الحياة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة الخاصة بكل كتلة من هذه الكتل. وعليه، تصبح الجامعة العربية جامعة أمم عربية متعاونة متكاملة لا جامعة دول متنافرة ومتخاصمة.
متوسطياً، شكل المتوسط، على مرّ التاريخ، صلة الوصل بين أوروبا والعالم العربي، وتحوّل، مع مرور الزمن، إلى مدى مشترك لتعاون خلّاق بينهما على مختلف الصعد الثقافية والاقتصادية، على الرغم من فترات التوتر التي شهدها، وما تمخّض عنها من مآسٍ وحروب. وهو ما يحتّم على أوروبا التعاطي إيجابياً، مع شريكها التاريخي، الذي هو العالم العربي. كما يحتم على العالم العربي أن يعيد النظر في انتمائه الثقافي، فهو متوسطي الثقافة لا شرقيّها، وتحمل شعوبه ــ وخصوصاً السوريون ــ نفسية التمدن الحديث التي ساهمت بجدارة في وضع قواعده الأساسية.
أما على الصعيد العالمي، فإن بناء نظام عالمي جديد يقوم على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصائرها، ووضع شرعة دولية جديدة تشارك في صياغتها جميع الأمم، وليس شرعة مفروضة من قبل الدول الكبرى التي انتصرت مصالحها في الحرب العالمية الثانية، يبقى مطلباً أساسياً لكل الشعوب الطامحة الى تحقيق سيادتها واستقلالها وتقدمها.
* كاتب وأستاذ جامعي