هذا لا جدال فيه: كان أشرف مروان جاسوساً للعدوّ الإسرائيلي على مدى سنوات طويلة. عائلة أشرف مروان وبعض الأصوات الخافتة في نظام حسني مبارك زعمت أنه كان عميلاً مزدوجاً، لكن هذا يحتاج إلى نقاش وإثبات. مناسبة الحديث عن أشرف مروان جاءت قبل أسابيع فقط من صدور كتاب يوري بار ــ جوزيف: «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل»، عن دار نشر «هاربر كلونز». أما الكاتب فهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا. لكن، مثل عادة معظم الأكاديميين في دولة العدوّ، فإنه جزء من المنظومة العسكرية ــ الاستخبارية. فهو عمل لسنوات في قسم الأبحاث والاستخبارات في جيش العدوّ، ولم ينل الدكتوراه من جامعة ستانفورد الأميركية إلا في عام ١٩٩٠، فيما كان ينشر قبل ذلك في أميركا وإسرائيل كتابات دعائية من نوع كتاب «دقيقتان فوق بغداد» (الذي ألّفه مع اليميني المتطرّف، أموس برلمتّر). وفي هذا الكتاب، مثل كتابه عن حرب ١٩٧٣، لا ينطق إلا بما يناسب مصلحة جيش الاحتلال وحكومته: كتابه عن قصف مفاعل تمّوز تضمن أكاذيب عن تجهيز المفاعل لإنتاج قنابل نووية (من صنف أكاذيب إدارة بوش وصحبها في عام ٢٠٠٣)، كذلك فإن الوصف يهدف إلى تعزيز الانطباع الغربي عن حرفية جيش الاحتلال ومهارته وشجاعته. وهذا الكتاب عن مروان صدر بعدما تحوّل الكاتب إلى «أكاديمي»، مع أن مصادر الكتاب تعتمد على وثائق وملفات بالغة السرية في جيش العدوّ ومخابراته، كما أنه لا يميّز البتة بين المراجع الصحافية والمراجع الأكاديمية.
بعض المستشرقين الإسرائيليين يعتمدون على مجلّة «الحوادث» كمرجع

ويتعلّق الكتاب بأمور الاستخبارات والعسكرتاريا الإسرائيلية السرية، وعليه فإن النشر في هذه المواضيع (والكتاب بالإنكليزية هو نسخة معدّلة ومزيدة عن نسخة عبريّة سبقته) لا يمكن إلا أن يمر على مقص الرقيب العسكري الذي يقتّر في السماح بنشر السرية حتى عن تاريخ جيش العدوّ وعملياته. وعليه، فإن قراءة الكتاب يجب أن تكون بعين مُمَحِّصة، ونقدية، ومُشكّكة، خصوصاً أن مخابرات العدوّ تعاني من مشاكل جمة في المصداقية والهيبة. لم يعد «الموساد» كما كان عليه في الماضي: هو، كما وصفه مدير المخابرات في عهد جيمي كارتر، ستانسفيلد ترنر، «ممتاز في الدعاية الذاتية وعادي في عمله». لكن الإعلام العربي لا يزال يحيطه بهالة من شبه التقديس والإعجاب لأسباب تتعلّق بالتحالف الاستخباري بين أنظمة الخليج وحكومة العدوّ. وعليه، يجب التساؤل عن سبب وزمان التسريب هذا، وعن مصداقية زعم المخابرات المصرية أن مروان (اقتنى مروان لنفسه لقب دكتوراه من دون نيله الشهادة بنفسه) كان عميلاً مزدوجاً. لكن ماذا عن المزاعم الإسرائيلية نفسها؟ التشكيك في ما يصدر عن دولة العدوّ واجب منطقي ووطني. وقد نفت إسرائيل أن شبكة تابعة لها قامت بالتفجيرات (مصر في الخمسينيات) ضد أهداف بريطانيّة وأميركية (في ما عُرف في ما بعد بفضيحة «لافون»)، كذلك فإن العدوّ ضخّ عدداً هائلاً من الكتب والمقالات عن عميل «الموساد»، إيلي كوهين، ومن المؤكد أن دور الرجل وأهميته بولغ فيهما كثيراً (بعض الكتابات الإسرائيلية زعمت أنه كان مرشحاً لرئاسة الوزراء في سوريا)، أي إن للعدو تاريخاً طويلاً من ضخّ الأكاذيب الموجهة للعرب.
والكتابة الأكاديمية الإسرائيليّة تعاني كثيراً، ليس فقط لقربها من المؤسسة العسكرية ــ الاستخبارية الحاكمة، بل من ضحالة وسطحية في معرفة العالم العربي. ما زال بعض المستشرقين الإسرائيليين، مثلاً، يعتمدون على مجلّة «الحوادث» كمرجع ضروري في اللغة العربية. وعميد الدراسات الإسرائيلية عن سوريا، موشي معوز، ظنّ في كتابه عن حافظ الأسد (الطبعة الأولى) أن الحركة الوطنية اللبنانية كانت تجمعاً إسلامياً (ص. ١٢٦). وكتاب بار ــ جوزيف يحوي أخطاءً أقل من العادة في كتابات خبراء العدوّ، لكن وليّ العهد السعودي، في عام ١٩٧٤، لم يكن سعود بن عبد العزيز (ص. ٢٤٧). كذلك فإن الكلمات العربية ــ على عادة الاستشراق الإسرائيلي الضعيف التكوين والإعداد المعرفي ــ حافلة بالأخطاء، فـ«الشلّة» تصبح «شيلا»، و«مراكز القوى» تصبح «مركز قوّة» (ص. ٨٤)، على سبيل المثال. ولا يمكن الهروب من الاستشراق العنصري المبتذل (أين منه الاستشراق التقليدي العليم) في كل الكتابات الإسرائيلية عن العرب. وبار ــ جوزيف ليس استثناءً، فتراه (مستقياً من الكتاب المنبوذ أكاديمياً في الغرب، «العقل العربي») يستنجد بنظرية رفاييل باتاي عن مفهوم «العيب» و«الشرف» عند العرب لتحليل سبب قتل مروان من قبل النظام المصري (ص. ٢١٩).
ما تكشفه الوثائق الإسرائيلية عن تلك الحقبة أن العدو الإسرائيلي، مثله مثل آل سعود تماماً، لا يزال يكنّ بغضاً وحقداً لجمال عبدالناصر. لوّعهم هذا الرجل، رغم هزيمة ١٩٦٧. ابتدع خطاباً سياسياً عبّأ فيه ملايين العرب ضد أنظمة الخليج والعدوّ الإسرائيلي. بديل أنظمة الخليج الجاهز هو أنور عشقي. وعندما قرّرت إسرائيل ضخ ما لديها عن قضية أشرف مروان اختارت البرنامج التلفزيوني الأميركي الشهير «ستون دقيقة» (والذي لا يستحق الهالة التقديرية التي يحيطه بها الإعلام العربي)، وفيه تمّ تعريف أشرف مروان ليس فقط على أنه صهر عبدالناصر، بل على أنه كان صلة الوصل بين جمال عبدالناصر وكل الأجهزة الاستخبارية في العهد الناصري. لكن الكتاب يدحض هذه الأكاذيب ويُظهر عبد الناصر كما كان: نزيهاً مُقتّراً وحازماً في رفض منح أولاده أي امتيازات مادية أو معنوية. لكن عبدالناصر نُكب ببعض أولاده الذين أولوا مصالح الـ«بزنس» على القضايا العربية التي شغلتها طيلة حياته. تحية عبد الناصر في كتابها «ذكريات معه»، أثبتت أن الرجل تزوج امرأة من طينته وعجينته في الزهو والتواضع والمبدئية والبعد عن المظاهر (لم يجد الإعلام السعودي في الحديث عنها إلا سرد مقالات طوال عن أصلها الشيعي الفارسي الصفوي). أشرف مروان هو نتاج لابتعاد أولاد عبدالناصر عن مبادئه ومعاييره. إن خلاصة الكتاب في تطوّع أشرف مروان للتجسّس على النظام الناصري هو أن مروان شعر بالإهانة الفظيعة لأن عبدالناصر نبذه واحتقره، وطلب من منى عبد الناصر تطليقه بعدما تلقى أموالاً من الأمير الكويتي عبدالله المبارك الصباح أثناء دراسته العليا في لندن، لتسديد ديون لعبه للقمار هناك (وكان للصباح دور في إفساد عدد من أقطاب الصحافة في لبنان وأنور السادات وزوجته). قد يكون مروان، حسب تحليل الدوائر الإسرائيلية المذكورة في الكتاب، دُفع بسبب احتقار عبدالناصر له كي يتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن ليعرض خدماته (مقابل المال طبعاً). وسامي شرف لم يكن يثق به أيضاً حسب التقديرات الإسرائيلية، لا بل أبقاه تحت المراقبة ولم يسلّمه مهمات كبيرة. أهميّة مروان لم تبرز إلا بعد وفاة عبدالناصر، وهذه حقيقة لا ينكرها حتى الإسرائيلي (ص. ٧٩).
أما الدعاية الإسرائيلية الفجّة فتظهر في كثير من مواقع الكتاب:
1) هناك مبالغة في حجم ضحايا مصر في حرب الاستنزاف، إذ إنه يعطي تقديراً للضحايا المصريّين (لا يميّز في ذلك بين المدنيين والعسكريين، على عكس تقديره لـ«ضحايا» العدوّ، وهذه عادة دعائية تقليدية للعدوّ من أجل طمس العشوائية في القصف الإسرائيلي) يفوق التقدير الأميركي بثلاثة أضعاف (ص. ٥٦). وتقديره لـ«ضحايا» جنود العدوّ أقل بكثير من تقدير المكتبة اليهودية الافتراضية ــ وهي مبنيّة على معلومات وزارة خارجية العدوّ. وعندما يتحدث عن قصف «عمق» مصر لا يشرح للقارئ أن قصف العمق تضمّن قصف مدرسة بحر البقر الابتدائية ومصانع أبو زعبل.
2) يُسوّغ الكاتب بصفاقة صهيونية قصف العدوّ لطائرة مدنية ليبية في عام ١٩٧٣ (ص. ١٨١-١٨٢).
لكن تعبيد طريق مروان لمركز القرار في الحكم الساداتي كان في ضربة السادات ضد «مراكز القوى»، وهناك نظريات في هذا الصدد. فأنور السادات وجيهان السادات، في روايات منفصلة، يعبّران عن تقديرهما لمروان في هذه المواجهة، لكن من دون توضيح السبب أو الظروف التي تستدعي شكره. إلا أن مؤلّف كتاب «تاريخ المخابرات المصرية ١٩١٠-٢٠٠٩»، أوين ستيرز، الصادر بالإنكليزية، يقول إن المخابرات الأميركية مدّت مروان بالمعلومات عن مؤامرة ضد نظام الحكم، وأن الأخير قدّمها للسادات. (ص. ١٢٠ من كتاب أوين). وهذا يعزّز الشكوك في أن تنصيب السادات وتقويته، وتقويض دعائم النظام الناصري (وبمساعدة محمد حسنين هيكل في حينه) كان بتدبير مخابراتي أميركي ــ إسرائيلي. ثم يسخرون من نظرية المؤامرة في بلادنا؟ و«الموساد» لم يكن الوحيد الذي تعاون في صعود مروان (هنا يتكتّم الكتاب على مساعدة «الموساد» له غير المالية)، إذ إن شريك مروان في التآمر الإقليمي، كمال أدهم (مؤسّس المخابرات السعودية)، تولّى دفع الرشى (حسب رواية مبكرة لبوب وودورد ــ ص. ١٣٥) لحساب السادات وزوجته، ما أكمل الحلقة المصرية ــ الإسرائيلية ــ السعودية. لكن مروان كان أيضاً على صلة وثيقة بالقذافي، وعمل على تسهيل صفقات أسلحة لنظامه (صفقة «الميراج» كانت الأولى). لكن ولاء مروان كان طبعاً للعدوّ الإسرائيلي، وكان يمدّه بتقارير عن الوضع الليبي الداخلي.
العدو الإسرائيلي، مثله مثل آل سعود، لا يزال يكنّ بغضاً وحقداً لجمال عبد الناصر

ويكشف الكتاب عن دور أشرف مروان في عملية «نادي سفاري» (الذي أسّسته المخابرات الفرنسية في عام ١٩٧٦ لضرب النفوذ السوفياتي والشيوعي في كل القارّة الأفريقية، وعملت أنظمة الخليج على تمويله: والنتائج التدميرية لهذا النادي لا تزال ماثلة للعيان أمامنا في حروب القارة وويلاتها). لكن بار ــ جوزيف يذكر دور النادي (ص. ٢٥٠) في معرض تحليل إمكانية قتل الحكومة الروسية لمروان، وهذا غير مرجّح، لأن الحكومة الروسية لم تغتل من كان أهم من مروان في عمليات سرية ضد الاتحاد السوفياتي حول العالم. يريد المؤلّف حصر تهمة اغتيال مروان بالنظام المصري (خصوصاً أن لغز قتل مروان في لندن يُضاف إلى لغز قتل رئيس الحرس الجمهوري الناصري، الليثي ناصيف، في لندن في عام ١٩٧٣)، ويضيف الكاتب لغز وفاة سعاد حسني في ظروف شبيهة بمقتل مروان (ص. ٣٢٢-٣٢٣).
وفي الموازنة بين النظريتين: فإن مروان كان جاسوساً مقابل كونه جاسوساً مزدوجاً، يمكن دحض نظرية الجاسوس المزدوج بسهولة. لا تتقن أجهزة المخابرات العالمية السيطرة بنجاح على جاسوس مزدوج الولاء بتصنّع، وهذه عمليات معقّدة أتقنتها، كما يروي الكتاب، المخابرات البريطانية والسوفياتية. ثم لو كان مروان بالفعل جاسوساً مزدوجاً فلماذا لم تُفرج المخابرات المصرية (التي بالغت بصورة مضحكة في الترويج التلفزيوني لحكاية رأفت الهجّان، والذي لا نزال نجهل إنجازاته الهائلة المنسوبة له) عن وثائق هذه العملية للتدليل على مهارتها، ولماذا لم تتولَّ إسناد دور البطولة في مسلسل عن مروان لعادل إمام أو لعمرو دياب؟ ولماذا لا تزيد الرواية المصرية عن مروان عن عبارة «كان جاسوساً مزدوجاً وكفى»؟ وإذا كان مروان عميلاً مزدوجاً، فلماذا عمدت المخابرات المصرية، على مرّ السنوات، إلى تزويد الصحف المصرية بمعلومات تفصيلية عن فساده (يذكر الكثير منها المؤلّف)؟ طبعاً، تصرّ عائلة مروان على الرواية (العميل المزدوج) لأن بديلها هو خيانة عظمى لزوج ابنة عبدالناصر، وعار للعائلة. والمخابرات المصرية هي مُحرجة أيضاً لأن الاعتراف بخيانة مروان يمثّل أكبر ضربة في تاريخ المخابرات المصرية. وقصة وفاته (وشهادة جيران لمروان بأن رجلين شوهدا في شقته) تدعم نظرية تخلّص المخابرات المصرية منه بعدما كشف الإعلام الإسرائيلي عن تجسّس مروان لمصلحة إسرائيل. ولم تكن جنازة مروان إلا تغطية لقتله على الأرجح. ثم لو كان مروان عميلاً مزدوجاً، فلماذا سمحت المخابرات المصرية (الصارمة الرقابة على الإعلام المصري) لصحيفة «الأهرام» بنقل خبر عمالة مروان للعدوّ في مقابلة مع أهرون برغمان («الأهرام»، ٢١ ديسمبر، ٢٠٠٢)؟ وكان هذا أول تسريب لاسم مروان كعميل موسادي. ولماذا لا تعطي المخابرات المصرية تفاصيل مقنعة عن دور مروان في العمالة المزدوجة لو كان ذلك صحيحاً؟ إن إحراج المخابرات المصرية ينبع من صحة الخبر، خصوصاً أن الإعلام العربي في السبعينيات كان يزخر بأخبار عن شكوك في ولائه، وعن خطورة دوره وفساده.
طبعاً، إن توقيت كشف تجسّس مروان لم يكن مفاجئاً أو عفوياً. تعرّضت المخابرات الإسرائيلية لإهانات وفضائح متوالية في السنوات الأخيرة: من فشل عملية تسميم خالد مشعل في عمّان، إلى كشف شبكات التجسس الإسرائيلي في لبنان (وانتحار مسؤول عسكري إسرائيلي مسؤول عنها)، خصوصاً اغتيال المبحوح في دبي في عام 2010، وكشف هويات إرهابيي «الموساد» المتنكرين على طريقة حفلات التنكر الصبيانية، كل ذلك ساهم في تقويض سمعة المنظمة التي فشلت أيضاً في اختراق حزب الله وحماس (وهذا مغاير لتاريخ اختراقها للمنظمات الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات). إن نشر صور عملاء «الموساد» في دبي (والعملية تمت حتماً بتواطؤ من قبل أولاد زايد بن سلطان الذين باتوا أقرب حلفاء العدوّ الإسرائيلي بين كل الطغاة العرب) كان مهيناً جداً للسمعة العربية لـ«موساد»: مَن كان يتوقّع أن يسخر الشباب العربي من الـ«موساد» كما يسخرون من أجهزة المخابرات العربية؟ هذه الصدمة كان لا بدّ من محاولة الاستفاقة منها والتغطية عليها عبر تسريبات ملائمة. ثم هناك فضيحة يهودا غول في عام ١٩٩٧، عندما اعترف كبير ضباط الـ«موساد» بأنه كان يختلق معلومات من عميل سوري يعمل تحت إمرته (ص. ٢٨٤)، والتحقيقات التي تلت الفضيحة أدّت ــ حسب الكتاب طبعاً ــ إلى كشف اسم مروان كعميل إسرائيلي، لكن من دون معاقبة المسؤول عن التسريب تحاشياً لتأكيد عمالة مروان.
لكن هناك في الكتاب، بناءً على تقارير موسادية لمروان، كشف لحقيقة خطة السادات المُبكّرة في الاستسلام للعدوّ. فهو نهض من مقعده في لقاء مع كيسنجر في عام كانون الثاني ١٩٧٤ وقبّل كيسنجر على وجنتيه، بعد توقيع كلم ١٠١، وطلب منه أن يُخبر غولدا مئير أنه سيخلع إلى الأبد بزّته العسكرية، باستثناء المناسبات الرسمية (ص ٢٤٥) (وقُتل في بزّته هذه ــ يا للمفارقة). (من المُلفت في الكتاب مدى احتقار العدوّ الإسرائيلي لشخص السادات، لفساده وجهله وكسله وعدم احترامه لنفسه، خصوصاً أنهم يقارنونه بعدوّه عبدالناصر، الذي لم يستطع العدوّ أن يكتشف جانباً فاسداً واحداً في حياته الشخصية).
كذلك فإن دور مروان في هيئة التصنيع الحربي ضمن إفشاله ــ أي إفشال مشروع التصنيع الحربي العربي ــ ولم تستطع، أو ترد ــ بالرغم من المليارات المرصودة ــ إنتاج أكثر من عربات نقل جند، فيما كان غرضها إنتاج أسلحة غير متوافرة للعرب في السوق العالمية (كما كتب سعد الشاذلي مبكّراً في نقد عملها). لكن هل كان دور مروان بالاشتراك مع كمال أدهم (صهر الملك فيصل) بالتناسق مع عمله للـ«موساد»؟ وهل التقاطع بين «نادي سفاري» وبين هيئة التصنيع الحربي وخدمة أغراض العدوّ كانا صدفة أيضاً؟ هل أفشل مروان عمل التصنيع الحربي العربي بالنيابة عن العدوّ الإسرائيلي؟ وهل كانت المخابرات السعودية متواطئة في ذلك، على ضوء الحلف الوثيق بين كمال أدهم ومروان؟
وسعد الشاذلي يتحدث عن مروان في مذكراته عن «حرب أكتوبر»: لكنه في الصيغة الإنكليزية من المذكّرات كان أكثر صراحة ونقداً في الحديث عن الدور السعودي، إذ يقول: «إن علاقات مصر مع السعودية (في عصر السادات) كانت دوماً سرية. وحتى كرئيس أركان حرب، لم يُسمح لي بالتعاطي بها. العلاقات (العسكرية) كانت متروكة لوزراء الحرب، لكن أيضاً ــ ولدرجة غير مفهومة ــ للرئيس نفسه ولمبعوثه الشخصي وحامل رسائله، الدكتور أشرف مروان». (ص. ١٤٨، من النسخة الإنكليزية).
يذكر بار ــ جوزيف إنجازات عمالة أشرف مروان: كل الخطط العسكرية المصرية كانت في أيدي الإسرائيليين، لكن العنصرية الإسرائيلية ضد العرب ساعدت في شنّ الحرب، وعلى مستويين: ١) لم يثق العدوّ بقدرة العرب على المباغتة الفاعلة وتحقيق تقدّم عسكري ضدّه. إن التقليل من قدرات العدوّ مفيد له. ٢) عدم ثقة إسرائيل بعملائها وأعوانها العرب: الملك حسين نقل مذعوراً (نقلاً عن جاسوس عسكري سوري عمل لحساب المخابرات الأردنية لكن بخدمة إسرائيل) أخبار الحرب قبل أن تحدث، كما أن مروان حذّر مراراً العدوّ من حتمية شنّ الحرب، لكن العدوّ لم يثق بالعرب، ولا حتى بعملائه منهم. ومروان كان أيضاً يمدّ العدوّ بمحاضر لقاءات السادات مع قادة الاتحاد السوفياتي (قبل قطع العلاقات) ومع كل قادة الدول العربية. وقد اضمحلّت حاجة العدوّ إلى مروان بعد استسلام السادات، الذي فتح كل خزائنه للعدوّ. لكن إنجازه الأكبر كان في لقائه قبل ساعات من شنّ الحرب مع مُشغّله الموسادي. هذا اللقاء كان مركزياً في قرار تعبئة جنود الاحتياط. لولا هذه التعبئة، لكانت القوات السورية قد سيطرت على الوضع في الجولان، إذ إن الخطة السورية كانت تفترض عدم جاهزية قوات الاحتياط قبل يوم واحد، لكنها وصلت إلى أرض المعركة بعد ١٥ ساعة فقط من نشوبها. أرسلهم أشرف مروان. بدأ هجوم العدوّ المضاد على جبهة الجولان في ٨ أكتوبر.
لم تكن خدمة مروان للعدوّ عاديّة. هو ساهم في قتل إسرائيل لعدد أكبر من المصريين. وبن غوريون كان يقول: «خسارة حرب واحدة تعني نهاية إسرائيل»، ومروان منع على العرب تحقيق النصر، كما منعه مُخبر إسرائيل الآخر، الملك حسين الأردني. لكن ليست هزائمنا من صنع رجل واحد، وليست انتصاراتهم من صنع عميل واحد. التاريخ أكثر تعقيداً، خصوصاً بوجود الراعي الأميركي لدولة الاحتلال.
قيل عن مروان إنه كان يكره الشيوعية، لكنه كره وطنه أكثر. حتى بعد إقامة السلام بين دولة العدوّ والنظام المصري، بقي مروان يمدّ العدوّ بما لديه من معلومات، وهي شحّت بعد إقصاء السادات له في عام ١٩٧٨. كان يطمع بالمال ويطمع أيضاً في هزيمة مصر وكل العرب أمام العدوّ. لكن العدوّ لا يستطيع أن يجنّد إلا بالمال: ليست هذه مؤاساة، لكن كل العرب الذين أعانوا العدوّ، من الملك حسين إلى جدّه إلى أشرف مروان وغيرهم من جواسيس العدوّ في لبنان، فعلوا ذلك من أجل المال. حتى الجاسوس الأميركي اليهودي، جوناثان بولارد: لم يتجسّس لحساب إسرائيل إلا طمعاً بالمال، بالرغم من محاولة الإعلام الدعائي الإسرائيلي نسب دوافع أيديولوجية له (وكان توفير المومسات عاملاً آخر، كما في حالة الملك حسين وأشرف مروان. أما إيلي كوهين فكان عمله كناية عن فتح ماخور في دمشق). لكن ما كان دور شريك مروان، كمال أدهم، في خدمة العدوّ الإسرائيلي؟ وما مدى معرفة السادات والملك فيصل بعلاقة مروان بالعدوّ؟ لا ينبغي أن نبالغ في دور أشرف مروان، فيما كان رئيسه، السادات، أكثر خدمة للعدوّ ومصالحه من أجهزته الاستخباريّة كلها.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)