عقد وزير الخارجية المصري سامح شكري لقاءات عدّة مع المسؤولين اللبنانيين في زيارته لبيروت التي جرى التهكن حول مضمونها ومؤدّاها، ما بين مبادرة على الصعيد الداخلي اللبناني لإيجاد تسوية سياسية تسفر عن انتخاب رئيس جمهورية، وبين محاولة حراك إقليمي على خلفية التراجع التركي في الأزمة السورية واهتزاز نظام أردوغان بعد محاولة انقلاب فاشلة قادها ضباط من الجيش.وتأتي الزيارة كأحد ملامح التغيّرات في المنطقة. فالسياسة الخارجية المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي تندفع في اتجاه كسر حلقة رفض التطبيع الشعبي وافتتاح عهد السلام الدافئ مع إسرائيل، والسعودية اقتحمت هذا الميدان بجرأة ومن دون لبس. يتزامن ذلك مع ورشة عمل يقوم بها مندوبو الجامعة العربية بشأن ميثاق الجامعة وآلية التصويت داخلها وشكل القرارات «غير الملزمة» لأعضائها، لإعادة صوغ إطار عربي يحاول التشبّه بمجلس الأمن الدولي لجهة دور «فرض السلام» ولو بالقوة. ويأتي ذلك من منظور ضيّق تنفرد به دول عربية قوية كالسعودية، أو إذا ما تمّ اعتماد وإقرار القوة العربية المشتركة وآلياتها التنفيذية لتكون أول تشكل حربي عسكري عربي مشترك مسموح به، دوله الفاعلة الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر والأردن وغيرها من الدول المنخرطة في مناورات سنوية عدة في الولايات المتحدة والإمارات والأردن وغيرها من البلدان، وبمشاركة إسرائيلية، ضمن التنسيق المشترك والرؤية المتبلورة تجاه دور الجيوش العربية في المنطقة، وعملية استبدال عقائدئها لمواكبة التطورات الجديدة.
سياسة السيسي تندفع باتجاه افتتاح عهد السلام الدافئ مع إسرائيل

إنّ الإتجاه العلني في التطبيع مع إسرائيل وإزالة كل ما من شأنه أن يعوق هذا التوجه، ولو تحت شعارات العمل العربي المشترك وقضايا العرب التقليدية (الشأن الفلسطيني والتسوية)، تظهر مؤشراته أيضاً في العمل الحثيث للمملكة السعودية لتعديل ميثاق الجامعة وتطوير الإطار الفكري لمنظومة العمل العربي. وقد صرّح السفير السعودي لدى القاهرة ومندوب بلاده في الجامعة، أحمد عبد العزيز قطان، «أننا بصدد تنفيذ قرارات المجلس الوزاري للجامعة العربية في ما يخص تعديل ميثاق الجامعة وتطوير الإطار الفكري لمنظومة العمل العربي المشترك»، آملاً «الانتهاء من إعداد ميثاق الجامعة الجديد ليتواكب مع التطورات التي تحدث في العالم». ورداً على سؤال حول ما إذا كان تعديل الميثاق يشمل آلية التصويت على قرارات الجامعة، قال قطان: «تعديل آلية التصويت أمر نسعى إليه في الوقت الراهن، وآلية التصويت طرحت وتمّ الاتفاق على أن ننظر ذلك خلال الجلسات المقبلة. فلا بد أن تتغير آلية التصويت حتى نستطيع حسم كل المسائل في وقتها» («المصري اليوم»: «الجامعة العربية تبدأ تعديل ميثاق العمل العربي»، بتاريخ 15/8/2016).
وبالتزامن، أكّد الأمين العام المساعد ورئيس مكتب الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، السفير حسام زكي، وكلاهما مصريان، في ما يخص الحديث عن تعديل آلية التصويت في الجامعة العربية من خلال الميثاق، أنّ «هناك آراء نوقشت في هذا الشأن، بالإضافة إلى موضوعات أخرى تتعلق بتعديل الميثاق، وهي أمور تحتاج بعض الوقت»، مؤكدا أنّ «الأهداف العامة من عملية التعديل والتطوير متوافق عليها بين الدول بنسبة كبيرة» (المصدر نفسه)، في إشارة للتباين الذي يشوب وجهات النظر بين السعودية ومصر. إذ ترفض الأخيرة هيمنة الرياض على القرار العربي من دون العودة للقاهرة، مع الموافقة الضمنية على مبدأ التطبيع الشعبي والعلني مع إسرائيل.
وقد أشار أبو الغيط قبيل افتتاح القمة العربية في موريتانيا، في حزيران الماضي، إلى نيته التغيير في العمل العربي المشترك وتطويره، وقال إنّ «المهمة الأولى له بعد توليه المنصب تحقيق استقرار الأمة العربية، وأعكف على دراسة القضايا التي لا بدّ من حلها، وسأكون أميناً لقيادة الجامعة العربية». وأكّد أنّ «الجامعة العربية تحتاج بشكل عاجل إلى التطوير لزيادة دورها في التعامل مع المشكلات العربية» (موقع «محيط» الإلكتروني: «أبو الغيط: الجامعة العربية بحاجة إلى التطوير العاجل»، 25/7/2016).
وبالعودة إلى زيارة شكري إلى لبنان، فإنّ لهذه المتغيرات موجبات تحدو بالخارجية المصرية لكي تعير لبنان اهتمامها. فإضافة إلى كون أزمة الرئاسة السابقة جاء حلّها من القاهرة بانتخاب قائد الجيش السابق ميشال سليمان، وينسحب الأمر أيضاً على انتخاب مفتي الجمهورية اللبنانية عبد اللطيف دريان بمساع مصرية، هناك المساحة الفلسطينية في لبنان وموقفها السياسي من السلام الدافئ، والتي تجنح ــــ بفصيليها السلفي وأنصار المسار السياسي ومعهما حماس بقوة الضغط المصري عليها ولو اقتضى الأمر بالقوة العسكرية ــــ إلى الإنخراط في المبادرة المصرية والمساهمة بإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية تزيح عبئها لصالح التفرغ لمواجهة إيران وحلفائها في المنطقة. واستمع وزير الخارجية إلى تقارير سفارته في بيروت عن مواقف الأطراف الفلسطينية ورؤيتها للمرحلة المقبلة على ضوء مبادرة السيسي.
أمّا عن لبنان وموقعه من العمل العربي المشترك وإعادة صياغة دور الجامعة العربية، فللقاهرة، وهي مقر الجامعة، تقدير خاص للبنان كونه عضواً مؤسساً للجامعة ويهمها نيل دعمه والوقوف على رأيه، وكونه أيضاً البلد الذي يحمل لواء المقاومة والممانعة وتستقر فيه قاعدة شعبية عريضة تعادي التصالح مع إسرائيل فضلاً عن التطبيع على المستوى الشعبي معها.
دولياً، ومع تغيّر سيناريو الأزمة السورية ولو ببطء، يأتي تحرك القاهرة على ضوء الإستجابة التركية للضغوط الروسية عسكرياً وسياسياً في سوريا، وتخوف أنقرة من تحول سيناريو الدولة الكردية المعلنة في شمال سوريا والمدعومة من واشنطن إلى محل توافق مع موسكو، سيما أنّها استجابة لـ«اشتهاءات» إسرائيلية بتقسيم المنطقة، والتي يضرب الحجر الكردي منها عدة عصافير إيرانية وعراقية وسورية وتركية، وتكون إسرائيل حاضنة شرعية لهذا الكيان. فرأت القاهرة أن تفتتح الفصل الدبلوماسي الجديد من البوابة اللبنانية ومد يد العون للنظام السوري من البوابة نفسها. و«الزمرة» السياسية التي تضم روسيا والعراق ولبنان وإيران متوافقة مع فصيلة الرأي السياسي للقاهرة بالحفاظ على الدولة السورية وعدم تقسيم أراضيها والحفاظ على الجيش العربي السوري.
وطبعاً يستهدف هذا الحراك المصري أيضاً درء مخاطر هروب عناصر إضافية متشددة إلى أراضيها بكل السبل السياسية والأمنية بإغلاق الجبهات والممرات التي يمكن أن تساهم في ذلك جراء إعادة ترتيب الأوراق في سوريا وتسارع الإنكفاء التركي وبدء عملية تصفية الجماعات المسلحة.
وقد أشار عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية سابقاً رخا حسن إلى أنّ زيارة شكري للبنان تأتي للإستفادة من تغيّر موقف تركيا من الأزمة السورية، واتصالاتها المباشرة مع طهران، وتقاربها مع موسكو، وهو دافع محوري للتحرك المصري لإطفاء الأزمة في لبنان («العرب» اللندنية: القاهرة تستبق تحولات إقليمية منتظرة وتدخل على خط الأزمة اللبنانية، بتاريخ 16/8/2016).
قد يقول قائل إنّ مصر التي تحاول النهوض من كبوتها ولا بدّ أن تستثمر علاقاتها الدبلوماسية المتاحة، خاصّة مع استمرار التهديد المتأتي من الجماعات المسلحة من خاصرتها الغربية ليبيا، وخوفها من انهيار سوريا وبالتالي لبنان، ما يفتح المجال للتوقّد السلفي في الأردن بإطلاق شراراته التي ستصيب حتماً مقتلاً في الجسد المصري. ولكنّ تجاوز معايير العمل العربي باتجاه التطبيع مع إسرائيل والسير ضدّ إرادة الشعوب أخطر بكثير من خطر الجماعات المسلحة التي بدأ الجسم العربي يلفظها مدينة بعد مدينة.
* كاتب لبناني